لم يبقَ أدنى شك لقبول حقيقة، أن الإتّحاد الأوروبي متبنّ للسياسات الخارجية الأمريكية منذ زمن، وهذه المنظومة الدولية الهامة، سائرة على خطاها في استعباد الشعوب واستغلالهم، وتسخيرهم لمشيئة الغرب، فإذا تنمّرت أمريكا بشأن قضيّة دولية، تنمّرت معها فرنسا وألمانيا وبريطانيا المنسلخة من الاتحاد، ويكفينا أن نستشهد بمواقف هؤلاء من القضية الفلسطينية، ومساندتهم المطلقة للكيان الصهيوني في هضم حقوق الشعب الفلسطيني.
تغريدة الرئيس الأمريكي السابق (ترامب) على حسابه بـ(تروث سوشيال Truth Social): (بالطريقة التي تسير بها أمريكا سيكون هناك حرب عالمية ثالثة قريبا) (1)، كشفت سعيه المحموم للعودة إلى رئاسة أمريكا، بالتظاهر أنه يمتلك وحده حلول تجنيبها خيبات ما وقعت فيه، من جراء سياسات خلفه بايدن الخاطئة، مستعملا أسلوب الإستفزاز والإثارة الدعائية، وإطلاق احتماله بإمكانية نشوب حرب عالمية، يعلمه كل من له إطلاع على السياسة العالمية، والتجاذبات العسكرية التي طغت عل ساحتها، حيث أصبح التسلّح والمناورات العسكرية والإتفاقات الأمنية، خبز الدّول اليومي الذي يرُوج في أخبارها وما خفي أعظم.
شبح الحرب هذه السنوات بدأ يقترب منّا شيئا فشيئا، ولا يحتاج إلى مُنجّم مثل ترامب كي يستخرجه من بطن الغيب، ليقال عنه أنه أفلح في شيء، كل ما يريده ترامب هو بقاء بلاده قطبا مهيمنا على العالم، ومؤثرا في قرارات دوله المصيرية، ولاعبا منفردا بينها يحقق مكتسباته الشخصية ويؤمّن ثروته بالمقدار الذي يُرضِي نهَمه، وبالتأكيد أنه حنّ الى بقراته الحلوبات في الخليج، وهو يأمل عودة إلى رئاسة بلاده ليجدد حلبه، لكن مع هذا الإنقلاب السياسي الذي نشهده هناك، يبدو أن البقرات دخلن فترة حمْل وجفّ حليبهن.
جناية أمريكا على أوروبا، قديمة قدم الإتفاقات التي أبرمت عليها معها، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي فيما يبدو كفّتها راجحة لها بعدما أوهمتها بأنها من صنعت الانتصار على الرايخ الألماني، غبنا لجهود وتضحيات الاتحاد السوفييتي والدول الأخرى، التي شاركت إلى جانب المحور للقضاء على أطماع هتلر، ومنذ قبول دول غرب أوروبا مشروع مارشال(2)، وأمريكا تستعبدها مع كل من دخل مظلة الغرب مؤمّلا مساعدته، سياقا تاريخيا سياسيا يجب أخذه بعين الإعتبار، ففيه مربط الحصان الأوروبي.
وبعد أن دفعت أمريكا أوروبا وغيرها من الدول، إلى مساعدة أوكرانيا في حربها ضد روسيا، ظهر تململ وعدم رضا بين الشعوب الأوروبية، نما إلى حكوماتها، والقناعة الحاصلة لديهم أنه فخ أوقهم فيه الأمريكيون، سيدفعون ثمنه غاليا، ولن ينجو من تبعات هذه الحرب، سوى من نآى عنها وابتعد من حريقها قبل انتشاره، ولم يتورّط في شيء منها يحسب عليه، وهذه الحقيقة ستعيها الحكومات الأوروبية، عندما يضغط الشارع باحتجاجاته عليها بقوة، ويفرض عليها بأسلوبه السلمي أو العنفي، النأي عما تورطت فيه، وقد بدا الرئيس الفرنسي ماكرون غير بعيد عن ذلك، بتصريحه الأخير المثير للجدل، كأنه الطوق الوحيد الذي بقي لبلاده، لإنقاذ ما يُمكِنُ انقاذه من الهيمنة الإقتصادية الأمريكية
الرئيس الفرنسي قال بالمختصر المفيد ولأوّل مرّة يتحدّث متجرّئًا: (يتعيّن على أوروبا تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، وتجنب الإنجرار إلى مواجهة بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان)، مؤكدا على نظريته حول “الحكم الذاتي الإستراتيجي” لأوروبا، التي من المفترض أن تقودها فرنسا، لتصبح “قوة عظمى ثالثة”، بحسب تعبيره- وهو مطمح لا يمكن أن تقبله ألمانيا الفيدرالية، التي تُعتَبَرُ القطب الاقتصادي والمالي الأقوى، في السوق الأوروبية المشتركة – وتابع قائلا: “الخطر الكبير الذي تواجهه أوروبا هو أنها عالقة في أزمات ليست من شأننا أو أزماتنا مما يمنعها من بناء استقلاليتها الاستراتيجية”. وشدد ماكرون على أن الأوروبيين يجب ألا يكونوا أتباعا للولايات المتحدة في أزمات لا دخل لأوروبا بها(.(3)
فيما (حذر وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، من إن فرض حظر على إمدادات الطاقة من روسيا سيضع حدا لازدهار اقتصاد ألمانيا. وأوضح هابيك، وهو أيضا يشغل منصب نائب المستشار الألماني، في تصريح لقناة “ZDF” التلفزيونية، أنه لا توجد بنية تحتية في ألمانيا في ألمانيا لاستيراد الغاز والنفط بطرق أخرى (أي من غير روسيا). واعتبر أنه في حال رفضت روسيا تزويد ألمانيا بالطاقة، فإن ذلك سيهدد بإغلاق أكبر شركة كيميائية في العالم.(4) العجب كيف للدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي – هذه القوة الاقتصادية الضخمة – أن ترضى بهيمنة أمريكا عليها وتحكمها في سياساتها الخارجية؟
حراك الشارع الأوروبي سيزداد انتشارا وكثافة، بنزول جماهيره المعبرة عن رفضها لسياسات حكوماتها (تشهد كل من فرنسا وألمانيا مجموعة من التظاهرات والإحتجاجية، بسبب تردي الوضع الاقتصادي، وسط دعوات لرفع العقوبات المفروضة على روسيا، ويتزامن هذا مع احتجاجات في ألمانيا حول الوضع الاقتصادي، ويعود ذلك إلى الأزمة الروسية الأوكرانية، والعقوبات التي فرضها الغرب على موسكو، بسبب العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، والتي أثّرت بشكل كبير على الحياة المعيشية للأوروبيين.)(5)، فتردّي أوضاعهم المعيشية دفعتهم إلى رفض سياسات بلدانهم ضد روسيا، التي تمتلك عصب حياتهم، وهو الغاز والنفط، وهي عقوبات سلّطتها دولهم متزامنة مع الأمريكيين، ستُلجِئ روسيا كآخر الحلول، للدفاع عن نفسها بكل الوسائل، ولو أدّى ذلك إلى استعمال سلاحي الطاقة، التي لا يمكن لأوروبا العيش من دونها، والسلاح النووي الإستراتيجي، فآخر الطبّ الكيّ كما يقول مثلنا العربي.
وفيما بدأت معاناة الشعوب الأوروبية من تبعات الحرب الأوكرانية، بدأت أمريكا في التحرش بالصين الشعبية، بتدخلها في تايوان، التي تعتبرها الصين جزيرة تابعة لها، وستحصل عليها في نهاية المطاف، ولو أجمع الشعب الصيني في تايوان على رفض ذلك، ولو وقف العالم بأسره ضد القرار الصيني، فحتمية عودة تايوان إلى الحضن الصيني لا جدال فيها، ولا مجال لبقائها مصدر تهديد لوحدة الصين، وشوكة انفصال في خاصرتها الشرقية، يزعج الصين بقاؤها تحت رعاية العين الأمريكية.
وليس الإتحاد الأوروبي وحده مهدد في بُنْيَتِه، فحتى حلف الناتو واقع تحت طائلة التفكّك والانهيار، متغيّرات ستفرضها عنجهية أمريكية متواصلة، لم تنصدم بواقع أن أمريكا انتهت قطبيّتها، ودخلت مرحلة العدّ العكسي، من ركود اقتصادي وسقوط للدولار، فانتظروا صدمة مدوّية للأمريكيين تعيد لهم رشدهم، سيسارع في الداخل إلى تفكيك ولاياتها.
المراجع
1 – حرب عالمية ثالثة .. كلمات جديدة لترامب تثير فزع أمريكا
2 – مشروع مارشال https://ar.wikipedia.org/wiki/
3 – ماكرون:على أوروبا أن تقلل اعتمادها على واشنطن وتتجنب الانجرار إلى مواجهة بين بكين وواشنطن
https://arabic.rt.com/world/1450616-
4 – المانيا تحذّر من حظر الغاز الروسي
https://www.alalam.ir/news/6112858/
5 – فرنسا وألمانيا.. أوروبيون يحتجون على وضعهم الاقتصادي ومطالبات برفع العقوبات عن روسيا https://arabic.rt.com/world/1391288