الإحتجاجات في تونس قبل 14/1/2011، كان لها تاريخ نضالي، ارتبط أساسا بالإتحاد العام التونسي للشغل، في سجال اكتسى طابع مطالبات شغيلة مشروعة، قابلها النظامين الدكتاتوريين بالقمع، بزج النقابيين والمتظاهرين في السجون بعد حرمانهم من وظائفهم، ووصل الأمر في ذروته سنتي 1978 و1984، بارتكاب مجازر رهيبة طواها زمن النسيان، حيث ذهب الضحايا وجلاديهم دون استصفاء حقوق.
وعلى أساس ما سبق من تاريخ حركة هذا الشعب، من خلال نضالات طلائعه التي احتضنها الإتحاد العام التونسي للشغل – باعتباره الهيكل الوحيد الذي يلجأ اليه المناضلون- عادت الحياة إلى جسد رغبته الثورية شهري ديسمبر 2010 وجانفي 2011، لينتشر لهيبها ليَصِل إلى عموم الشعب، فلا يكاد ينقضي أسبوع، دون أن تقع فيه احتجاجات مطلبية، شملت مختلف قطاعات البلاد الإقتصادية والسياسية، وهي في أغلبها منظمة من طرف هذا الإتحاد، أو بمشاركة بعض منظمات المجتمع المدني، أخذت صبغة سياسية خلال هذه الفترة، كان لها تأثير سلبي على مستوى نموّ اقتصاد البلاد، أودى إلى تعطيل مردودية نشاطه وتقليصها إلى الصفر- قطاع الفوسفات – ما شكّل خطرا كبيرا، أصبح ماثلا امام الجميع، ويهدّد بارتهان البلاد إلى دول الغرب، وقد بدأ أعراض عجزها عن أداء ديونها الخارجية الثقيلة تلوح، من خلال مطالبة الدّائنين بجدولتها.
ما يعاب على الحركة الشعبية في تونس، سواء كانت فوضويّة، أو مستجيبة لقرارات الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل، أو تنفيذا لمقررات نقاباته المهنيّة، أنها لم تراعي مصلحة البلاد، ولا أخذتها بعين الإعتبار، فقد طغت المطالبة بزيادة الأجور بشكل عام، وتونس بأمسّ الحاجة للتضحية من الجميع، والظرف الإنتقالي التي عاشته البلاد يستوجب ذلك، ورفع وتيرة احتجاجات وتعميمها على جميع القطاعات، وتواصلها شكلت ذلك عبئا ثقيلا على الدّولة، بنتائجها التي اثرت بشكل كبير على هبوط معدّل نموّ اقتصاد البلاد، إلى مستويات متدنية قياسية وكارثية لم تشهدها البلاد من قبل، يكفي أن أقول أننا أصبحنا نستورد في الأسمدة الفوسفاتية والأزوتية الفلاحية، بعد أن كنّا منتجين ومصدّرين لها.
مطالب لم يكن بمقدور أقوى دولة اقتصادية على تلبيتها جميعا وفي وقت واحد، فكيف ببلد حديث عهد بتحوّل جديد؟ وتزامن بفوضى عارمة، أخرجت الدولة عن السيطرة على مقاليد سلطتها، كل ذلك تمّ ليس بمحض الصدفة، بل نتيجة مخطط أدارته أمريكا وحلفاؤها وعملاؤها من الداخل، لإضعاف الدولة التونسية، وجرّها للتوقيع على اتفاقيات أمنية وعسكرية، بموجبها تُسْلبُ سيادة واستقلال البلد.
ولمّا لم يحصل شيء من استكمال مسار الثورة بمحاسبة من أفسد وأجرم بحق البلاد والشعب، فقد أصبح في ظل مبادرة الرئيس قيس سعيد، التي أطلقها يوم 25/7/2021، من الضروري معالجة ملفات الفساد التي بدأت تتشكل تدريجيا، من خلال جهود الكفاءات الوطنية، التي تجنّدت لكشف مزيد من التجاوزات والإخلالات التي وقعت، فقط خلال عشرية سلبية مرت على الشعب التونسي، ذاق فيها مرارة الحكم العقيم.
وسط أجواء فتح ملفات مكافحة الفساد الذي استشرى في كامل مرافق البلاد، عادت الاحتجاجات لتشكّل واجهة مقلقة، جعل منها معارضو الرئيس قيس، درعا اعتبروه واقيا لاذوا به، لإضعاف موقفه، وارغامه على النزول عند رغبتهم، وذريعة للطعن في اجراءاته ومراسيمه، مع أن أغلب تلك الإحتجاجات والإضرابات اكتست طابعا مطلبيا ماديا لا علاقة له بسياسة الدولة.
وأخيرا حلّ ركب الإعلاميين، ليُعرِبوا عن مدى امتعاضهم من اجراءات الرئيس قيس سعيد الأخيرة، التي قامت بها وزارة الداخلية، بتنفيذ أوامر قضائية، باعتقال متورطين في قضايا خطيرة، تبدو مرتبطة بعضها ببعض، من بينهم الإعلامي (نور الدين بوطار) مدير عام إذاعة موزاييك أف أم، وتمديد فترة إيقافه خمسة أيام(1)، فخرج منهم من خرج محتجا، معربا عن امتعاضه من تلك الإعتقالات، معتبرا إيّاها مسّا من حرية الإعلام، وسعيا من الحكومة لتكميم أفواه أهله.
ولم يتأخّر إتحاد الشغل عن الإلتحاق بهذه الإحتجاجات، فقامت هيئته الإدارية بتنظيمها في العاصمة وصفاقس، انضمت إليها أمينة إتحاد نقابات الإتحاد الأوروبي Esther LYNCH، وشاركت فيها يوم السبت 18 فيفري 2023 بمدينة صفاقس(2) ما دعا الرئيس إلى إصدار أمر بإخراج هذه المرأة خلال 24 ساعة، باعتبار أنها غير مرغوب فيها(3)، وهو أمر سيادي اعتزّ به كمواطن، يرى أن الإتحاد العام التونسي للشغل حاد عن سكة الوطنية، لينزلق في مستنقع شبهة التبعية للغرب.
وعندما تُعلن الإدارة الأمريكية عن قلقها مما يجري في تونس من اعتقالات، وهي إجراءات قانونية داخلية مشروعة، فقد عبّرت من قبل على نفس القلق، خصوصا فيما تعلّق بحلّ المجلس الأعلى للقضاء(2)، وما يهمّنا هنا أن تفهم هذه الإدارة المتغطرسة، أنه من اللائق والسليم أن تحترم شؤون الدول الداخلية، ويكفي أن أقول إنّ الإدارة الأمريكية لم تحشر أنفها في مسألة من المسائل إلا زادتها تعقيدا، والحقت بأهلها ضررا يصعب تقديره وتطول معالجته.
هذه فرصة لأفرّك حبات رمانة فُسوق عالم الإعلام والصحافة بتونس، والتي كان لي مجال للكتابة على صفحات صُحُفها الورقية الأساسية، كالشروق والصريح والثانوية كالإعلام والحقائق والحصاد الأسبوعي والصحوة التونسية، والتي انتهت علاقتي بها، بعد أن صرح لي رئيسا تحرير الشروق والصريح، أنهما لن ينشرا لي مقالا مستقبلا، دون الإفصاح عن سبب ذلك القرار، والذي كان تعسّفيا قامعا للرأي، له علاقة بجهات خارجية معروفة، يقلقها أن أكتب حقائق معيّنة، ويزعجها أن أستمر في الدفاع عنها، ونشر ما يتعلّق بها، فيما قامت وسائلهم الإعلامية العالمية بحجبها عن الرأي العام العالمي، وهذا لن يثني من عزمي الذي آليت على نفسي أن أستمر فيه.
المراجع
1 – تمديد الإحتفاظ بنور الدين بوطار
https://www.shemsfm.net/amp/ar /400653/
2 – أزمة تونس: “قلق” أمريكي إزاء قرار الرئيس قيس سعيد حل المجلس الأعلى للقضاء
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-60297652
3 – بأمر من رئيس الجمهورية دعوة ضيفة إتحاد الشغل إلى مغادرة البلاد في أجل 24 ساعة https://journalistesfaxien.tn/-esther-lynch