الإمام السجّاد أو كيف تكون المناجاة ملحمة…بقلم د. الهذيلي منصر

الإمام السجّاد أو كيف تكون المناجاة ملحمة…بقلم د. الهذيلي منصر

سيرة على بن الحسين بن علي ليست عاديّة بالمرّة. هذا قدرٌ خاصّ جدّا وهنا نظر في الإنسان والعالم والوجود استثنائي بكلّ المقاييس. هناك طبعا قدر عائلي فهو حفيد النبي وحفيد علي وفاطمة وهو ابن الحسين الشهيد والأيقونة ومن يكون في وضعه لا يمكن الّا أن يواصل سابقيه من قرابة مثالية ولكنّ الرّجل زاد على هذا القدر بالنسبة قدرا خاصّا به ولا أحسب أنّ أحدا بعده بلغ حيث بلغ وأحاط بما أحاط به هو من دقيق المعنى ورقيق الإحساس. زاد قدرا بالإختيار والحرّية. بالحساب الموضوعي والعقلاني أيضا كان يُفترض فيه أن يكون ثأرا عاتيا فقد حضر مأساة كربلاء طفلا وذاق مرارتها واكتشف اليتم القاسي ورأى كيف تُهانُ النبوّة باكرا جدّا وتدوس الخيل ميراثا الهيّا عظيما. من شهد هذه القسوة وصبّت على رأسه هذه الجحيم كيف لا يتحرّك بين النّاس سيفا بتّارا؟ الواحد منّا قد يجد نفسه في وضعيّة أقلّ كثيرا من هذه التي وجد نفسه فيها فيتحوّل بركانا تصيب حممه كلّ من يعترضه. لم يشهر سيفا ولم يؤلّب ولم يظهر العداء. اختلى بربّه مناجيا داعيا. داعيا بمعنى طالبا لقربه فلا حاجة له تتقدّم على رغبة قرب. ترك الصحيفة السجّادية وهو أثر معنويّ لا يضاهيه أثر في موضوعه ومناطه. أثر في أدقّ الدقائق وألطف اللّطائف نكتشف به ومعه أنّ الصلة بالله فنّ فاخر. هذه الصّلة، كما تتركّب عبر الصحيفة، تعيد تركيب الذّات كيّانيا. تعيد تعريف الإنسان لنفسه وتحديد مسؤوليته ورسالته في العالم. هي تبني نظام معرفة وتحبك خارطة طريق ومسير. هي صحيفة وهي، عمقا، ملحمة، ملحمة معنى.

“أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا عَبْد نالَ مِنِّي مَا حَظَرْتَ عَلَيْهِ، وَانْتَهَكَ مِنِّي مَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ، فَمَضَى بِظُلاَمَتِي مَيِّتاً، أَوْ حَصَلْتَ لِيْ قِبَلَهُ حَيّاً، فَاغْفِرْ لَهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنِّي، وَاعْفُ لَهُ عَمَّا أَدْبَرَ بِهِ عَنِّي، وَلاَ تَقِفْـهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ فِيَّ، وَلاَ تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بِيْ، وَاجْعَلْ مَا سَمَحْتُ بِـهِ مِنَ الْعَفْـوِ عَنْهُمْ وَتَبَـرَّعْتُ بِـهِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ أَزْكَى صَدَقَاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَأَعْلَى صِلاَتِ الْمُتَقَرِّبِينَ، وَعَوِّضْنِي مِنْ عَفْوِي عَنْهُمْ عَفْوَكَ وَمِنْ دُعَائِي لَهُمْ رَحْمَتَكَ حَتَّى يَسْعَدَ كُلُّ وَاحِد مِنَّا بِفَضْلِكَ وَيَنْجُوَكُلٌّ مِنَّا بِمَنِّكَ.”

اذا اجتهد الواحد منّا في مناجاة ودعاء لن يخطر بباله هذا المستوى من التواضع والزهد ومن يبلغ هذا المستوى ينسى عدل الله بل لعلّه يزهد فيه. ينفتح بالكلّية على الرّحمة والتي هي الأبلغ والتي تخبر عن الله أكثر من كلّ الصفات الأخرى مُفردة ومُجتمعة. من يبلغ هذا المقام ينتفي العالم بعينيه تماما، يغيب غيابا نعجز عن تمثّله لأنّنا فيه. هو غياب أو تغييب لا يقدر عليه إلّا من كان وهو هنا هناك. قد نسمّي الهناك عالما آخر أو بعدا آخرا فالتسميات لا تقدّم ولا تؤخر. تقريبا لا تحتفظ ذاكرة العالم الّا بالذين قدروا على التخلّص منه بالزهد فيه: أنبياء، أولياء، صلحاء، أدباء، شعراء، فنّانون. غريب اكتشاف المرء أنّ شرط البقاء فناء ومهر الحضور غياب وشرط غُنم العالم زهد فيه. غير هؤلاء بمن تحتفظ ذاكرة الناس بعد عقود وقرون؟ لا أرى غيرهم. لا أرى غير هذا الصّنف من الملحميين. أمّا ما نتورّط فيه وننافس عليه ونبرمج عليه مهجنا ونفوسنا وعقولنا فمتاع أو قل هو زبد ترحل به الامواج. الإمام السجّاد قيمة اسلاميّة وحتّى مذهبيّة فالشيعة يعلمون عنه أكثر ممّا يعلم السنّة. أفكّر فيه هنا بما هو قيمة انسانية. هذا الإنسان لماذا كان هكذا وكيف كان هكذا؟ من أين طينته وكيف قدّ وكيف كان حرّا الى هذا الحدّ؟ كيف قهر ألمه وكيف تجاوز عن ظالميه ومن أين نبتت له هذه الأجنحة ليطير كما طار؟ لا أسأل بحثا عبره عن حلّ لنفسي أو عن وصفة لقلّتي أمام عظمته. أسأل لاعمّق السؤال عني وعن الإنسان اذ الإنسان اجتماع حدّيات قصيّة. يكون في ما يعجز الشيطان نفسه أن يكون فيه ويكون في ما يُعجزُ الملائكة. أحسب أنّنا بزمن يفرض علينا على الدّوام وبمنهج مُبتكر تحويل الدين من سؤال عن الألوهية الى سؤال عن الإنسانية والإنسان. هذه هي الرسالة العظيمة للدّين بزمن موت الإنسان. موت صار ماثلا بواحا ولا نحتاج معه لحجج دامغات. عندما يسأل صاحب الصحيفة عن الله فسؤاله يستقيم ولكن اذا سألت أنا عنه فكيف السؤال يستقيم؟ هو يسأل عنه لأنه وجد لنفسه جوابا ولنا أن نتصوّر الضنى الذي ذاق والنار التي اكتوى بها لينعتق من عُقد ومكبّلات كونه ظُلم ومثّل بأبيه وهو من هو وكونه من الآل وكونه الأفقه دينا والأشرف نسبا والأولى بإمامة مسلمين تطحنهم غربان بنو أميّة. لو أجرّب أنا عُشر ما جرّب لكفرت ربّما بالله من فرط سؤالي عن عدله أين هو. اقول ربّما تلطيفا أمّا واقعا وكما أعرف نفسي فكفري مضمون. عندي بعض اطّلاع على تفكير الغربيين في الإنسان. بصراحة، ورغم احترامي لما أسهم به الغربيون سؤالا عن الإنسان وبحثا وتفكيرا فيه، مسيرة كمسيرة الإمام السجاد ونصّ كالذي تركه يأخذان بعيدا، أبعد بكثير ممّا بلغه الغربيون. مشكلة المُسلمين ظنّهم أنّ التفكير في الله يزهّد ضرورة في التّفكير في الإنسان. قلبوا الأولويات. هو من دون تفكير الإنسان في نفسه تفكيرا كيفيا وراديكاليا بما يعيد خلقه، من دون هذا كيف يستقيم تفكيره في الله؟ أسأل دائما عن كربلاء لماذا كانت؟ لا أسأل عنها بمفردات علم وسياسة ومعارك تاريخ. أسأل عن باطنيتها، عن علاقتها برحمة الله المحيطة فما كانت بكربلاء رحمة. كانت فاجعة وكان توحّش مسلمين. لعلّها كانت لتكون ملحمة الصّحيفة وهي معنويّة. وحدها المعنويات تبقى وتخلد ووحدها المعنويات تفسح للأرض لتعانق السّماء. قد يهتدي الواحد عبر هذا النصّ العظيم الى فلسفة عظمى لا تقارن بفلسفات تقتبس من الأوديسا أو من تراجيديات وفلسفات الأغريق. يخرج الحيّ من الميت. السلام على عليّ ابن الحسين.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023