الإمام علي بن ابي طالب «ع» شاهدٌ وراءٍ، ومؤسسٌ لخطاب أدركت فاعليته الثقافات والجماعات والأمم، ليس بوصفه الرمزي والرسالي فحسب، بل بوصفه أفقا أخلاقيا وقيميا يتسع للحكمة والعلم والمعرفة، وهي اشتراطات تضع صاحبها في رهان التأسيس، وفي مسؤولية قيادة الأمة، وهو ما كان للإمام أن يكونه في حياته وسيرته، وفي جهاده وتقواه، وفي مشورته وصبره، وفي علمه وفي حُكمه، إذ كان الجامع المانع لها، والوافي المتسع لأحوالها وشؤونها، والواقف عند الحق دائما، لا يزوغ عنه، ولا يستبق قبله، ولا يتلجلج بعده، ولا يخشى فيه خصما، أو ناقدا، لأنه مؤمن به، عارف بأمره وقدره، شديد التواصل معه، عامر بصواب خطابه، وهدي رسالته، وعمق ما يحمله من معنى واستبصار.
خلود الشهادة في سيرة الامام علي (ع) هو الخلود في العمل وفي الموقف وفي الشجاعة، وهذا ما اعطى لسيرته حضورا كبيرا في النفوس وفي الدروس، إذ اكتسبت بعدا متعاليا، اغتنى بالجهاد، والعمل الصالح ونشدان العدل، ونُبل المواقف الجريئة، وبسطوع السيرة، وصوابية الافكار التي تحولت الى كنوز للمعرفة، ومناهج للحياة، ينهل منها الناس في علومهم ومواقفهم.
فهو امام المتقين، والعالم بشؤون الناس ومصالحهم، فكان لا ينام على ضيم أو ظلم، ولا يسوغ حكما يتقاطع مع الايمان، ومع صالح العمل، فضلا عن تحوّل كونه الناصح، والراشد، إذ الخطاب العلوي الى منهج ثقافي للدرس، ولتعظيم المعاني الاخلاقية، وللأفكار التي تتجوهر حول الانسان، فكان خطابه منصة ثقافية للحوار، مثلما كانت خطبته رسالة تسمو بالمعرفة، وتُعظّم من شأن الصالح في الاعمال، والصالح من المواقف، وأحسب أن هذه الحيازة الكبرى في سيرة الامام علي (ع) كشفت عن العلاقة العميقة والفاعلة مابين تلك السيرة، والقرآن، وما بين اغتماره العميق بالخطاب الرسالي، الذي أسسه الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأشبعت نفسه بالحب والانتماء، مثلما أُشبعت ذاته العارفة بحمولاته الفكرية، وبدلالاته التي يحضر فيه الانسان بوصفه عنوانا للعمل، ومقصدا يتطلب صيانته بالايمان والصدق والالتزام، إذ ينهل الانسان حضوره في الحياة، وأثره في العمل، وفي تصديه للمسؤولية من خلال تلك القيم التي تحكم وجوده الانساني والاخلاقي، لاسيما في تصديه لأسباب الفساد والحمق والشر والكراهية وتكفير الآخر، ولعل مقولة الامام علي (ع) «الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو صنو لك في الخلق» هي العنوان الكوني لوحدة الوجود ولقوة الانسان في مواجهة كراهية الآخر.