اثنتا عشر عاماً للحرب على سورية كانت كافية لتعقيد المشهد وإحاطة “الحل السياسي” بهالة ضبابية , يصعب معها التنبؤ بطريقة إنقشاعها , في وقتٍ يشتد فيه انقسام دول العالم واصطفافهم كفريقين أو محورين , على غرار اصطفافهم في الحربين العالميتين (محور, حلفاء) , مع فارق التوافق والتضاد والصراع البيني الداخلي لفريق العدوان على سورية , فيما يؤكد حلفاء سورية يوماً بعد يوم تمسكهم بوحدة أراضيها ودعمهم لسيادتها , ومساعدتها على محاربة كافة التنظيمات الإرهابية والمشاريع الإنفصالية المدعومة من خارج الحدود , ناهيك عن دعمها لطرد قوات الإحتلال الأمريكي والتركي والإسرائيلي.
تأخرت حكومة العدالة والتنمية , بفهم الأسباب الحقيقية لرفض الولايات المتحدة ما تسمى “المنطقة الاّمنة” التي تحدث عنها الرئيس التركي مراراً وتكراراً , وسط تمسك واشنطن بالبقاء في سورية , والإحتفاظ بنفوذها العسكري ووجودها اللاشرعي , وبقطع حبال الأرحجة التركية وعلاقات أنقرة مع موسكو , بما يؤكد اصرارها على مشروعها الصهيو- أمريكي , الذي تلعب فيه تركيا دور البيدق , وليس دور العقل المفكر وصاحب المشروع العثماني الخاص بتركيا .. وبهدف لجم الجموح والأطماع التركية , لجأت واشنطن تارةً لتهديد تركيا , وللتركيز على معاقبتها إقتصادياً ومالياً وفي قطاع وبرامج الصناعات الحربية المشتركة , ووصلت عام 2016 لقرار الإطاحة بحكم إردوغان , ومحاولة تجميد تركيا على حدود التضخم والأزمات الداخلية , وتوريطها خارجياً بعدة صراعات لم تكن تركيا بحاجة إليها , ولمضاعفة أزماتها وأعداد خصومها وأعدائها …
لم يقرأ الرئيس التركي بعناية مصالح بلاده في محيطها الحيوي وموقعها الجغرافي وبعلاقاتها مع دول الجوار في المنطقة والإقليم , وابتلع الطعم الأمريكي منذ ما قبل عام 2011 وحتى اليوم , وخاض معركةً خاسرة ضد سورية في شمالها وشمالها الغربي , وفي المربع الجغرافي والأمني القومي لإيران والعراق وتركيا وسورية , وآن له إكتشاف الخداع الأمريكي , وبأن المخطط الصهيو- أمريكي يستهدف استخدام تركيا المطيعة في خاصرة روسيا وإيران والصين , وليس تركيا المتمردة أو المتأرجحة على حدود دورها الأطلسي , وحرمانها من تنامي علاقاتها الإقتصادية والتجارية والعسكرية مع روسيا وإيران والصين وحتى مع سورية التي تشكل بوابتها للعبور نحو الشرق الأوسط والعالم العربي , وما يمكن أن تحمله تلك العلاقات من مشاريع حيوية بالنسبة لتركيا , تستطيع إنقاذ الرئيس إردوغان في معارك الداخل بمواجهة المعارضة , مع إقتراب الإنتخابات الرئاسية التركية , وسط نتائج السياسات الداخلية الإقتصادية والمالية الفاشلة , وتدهور الحالة الإجتماعية والأوضاع المعيشية , والخشية من اّثار التضخم والبطالة المتزايدين.
ووفق موازين الربح والخسارة , كان على الرئيس التركي قراءة المتغيرات كسقوط الإخوان المسلمين في المنطقة العربية , وغياب الحديث عن إنضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي , وسط انشغاله بإسقاط ورقة اللاجئين السوريين من أيدي المعارضة التركية , ما بين تجنيسهم أوطردهم , أو خديعة مشروع إعادة مليون ونصف منهم إلى بلادهم ووضعهم بعهدة الإرهابيين في بيوت اسمنتية , بما يخدم الترويج لما تسمى “المنطقة الاّمنة” التي لا يزال يتوعد بإنشائها , عبر عملية عسكرية خامسة مزعومة داخل الأراضي السورية.
لا شك أن تهوره وأحلامه وأطماعه العثمانية أعمت بصره , لكن الصمود والإنتصار السوري دفعه وبهمسٍ روسي وإيراني , لإكتشاف أخطائه , وقبوله الترويض السياسي والإغراء الإقتصادي , ليعود إلى رشده , وليكون بقاؤه طبيعياً وفاعلاً في محيطه , وللخروج من سورية قبيل الإنتخابات التركية , التي ستحدد مصيره السياسي دون أدنى شك.
وفي الاّونة الأخيرة , ازدادت وتيرة تصريحات كل من الرئيس التركي ووزيري دفاعه وخارجيته , حول العمل والتنسيق الإستخباري مع الدولة السورية لمحاربة التنظيمات الإرهابية , لكن هذا لا يعدو أكثر من فقاعة دخانية إذا لم تقترن بالأفعال , وبتحديد تلك التنظيمات بشكل واضح لا لبس فيه , وقد اعتبرها الكثيرون إنعطافة تركية , خصوصاً بعد لقائه الأخير مع الرئيس بوتين في سوتشي , والتي عزاها البعض لضغوط الرئيس بوتين ومطالبته أنقرة بالتقدم نحو دمشق بخطواتٍ ملموسة ومباشرة , لكن هذا لا يستوي مع استمرار الحديث والإستعداد التركي عن الإنطلاقة القريبة للعملية العسكرية التركية المزعومة , مع استمرار عمليات القصف المدفعي على مدينتي الحسكة والقامشلي , وغير مناطق في شرق وشمال البلاد , تحت عنوان محاربة التنظيمات والأحزاب الكردية التي تصنفها تركيا بالإرهابية.
تبدو مفاعيل اللقاء الثلاثي في طهران , والثنائي في سوتشي , قد أحرجت أنقرة , وأربكت إردوغان , فلجأ إعلامه إلى بث الإشاعات والأخبار عن محادثة هاتفية محتملة بين الرئيسين التركي والسوري , بناءََ على اقتراح الرئيس بوتين , ومع سرعة إنتشارها , بات من المهم إعادة التذكير بتصريحاتٍ تركية العام الماضي , نفتها دمشق جملةً وتفصيلاً وبشكل رسمي , ويبقى الحديث عن “الإنعطافة” التركية موضع شك , لحين صدور ما ينفيها أو يؤكدها من الجانب الحكومي السوري الرسمي , وهو المصدر الوحيد والموثوق لدى السوريين , ويرتبط مباشرة بنهج المصداقية والشفافية للرئيس بشار الأسد.
من المهم أن يتعقل الجانب التركي ويتحدث عن “الإنعطافة” الحقيقية , ويعيد تقييم الإقتراح السابق للرئيس بوتين حول العودة إلى عام 1997 وما قبل إتفاقية أضنة , كمدخلاً منطقياً لوضع الأساس الصحيح لإبرام إتفاقية أضنة2 , من الأهمية بمكان أن يبحث الأتراك والرئيس إردوغان , عن إمكانية استعادة ثقة السوريين والرئيس الأسد , وهذا يفرض على روسيا بذل جهودٍ نوعية , على أمل إخراج هذه المهمة من إطار المهام المستحيلة.
تبدو المراهنة حالياً على التصريحات التركية و”الإنعطافة” المزعومة كالمراهنة على “الحمل الكاذب” , مع حقيقة حاجة إردوغان الماسة إلى روافع داخلية لمواجهة المعارضة وإسقاط ورقة اللاجئين السوريين من أيديهم , وإلى علاقات إقتصادية هامة مع طهران وموسكو , تنعكس اّثارها الإيجابية على الحد من التضخم وتدهور الليرة التركية والأوضاع المعيشية للشعب التركي , ولا يمكن للرئيس التركي أن يراهن على فوزه في الإنتخابات , عبر أكاذيب وأضاليل سياسية داخلية وخارجية , وعمليات عسكرية عدوانية إرهابية على الأراضي السورية والعراقية , في وقتٍ اكتفى فيه صاحب “الإنعطافة” في 20 تموز ومن طهران بدعوة الولايات المتحدة ” للإنسحاب من مناطق شرق الفرات في سورية ووقف دعمها للجماعات الإرهابية” !! .
لا يمكن للإحتلال التركي واحتضانه للمجاميع الإرهابية أن يستمرا على الأراضي السورية , فالدولة السورية أعلنت مراراً وتكراراً توصيفها للوجود العسكري التركي في سورية بأنه “عدوان وإحتلال” سافر, بالتوازي مع تأكيد الرئيس بشار الأسد على “تحرير كل شبر” , والخارجية السورية بأن “إدلب هي محافظة سورية” , و”بإحتفاظ سورية بحقها في إستعادة سيطرتها وسيادتها على كامل التراب السوري بكافة الوسائل التي ينص عليها الميثاق والقانون الدولي , بما فيها حق المقاومة” لإنهاء الإحتلال التركي وممارساته العدوانية الإرهابية وعمليات التتريك والتهجير الديموغرافي الممنهج والتطهير العرقي , بالإضافة إلى أعمال السلب والنهب للثروات والمقدرات السورية.
تبدو الإنعطافة الوحيدة للرئيس إردوغان هي بترجمة إنعدام أفق استمرار حربه على سورية , والبحث عن نقاط إلتقاء مصالح بلاده ومصلحة الدولة السورية , وعدم التدخل بالشؤون الداخلية السورية بما فيها الملف الكردي الذي سبق له وحاول نبشه وحلّه بمفرده وبطريقته , على حساب الدولة والشعب السوري , في الوقت الذي يستطيع فيه طرح هواجسه على طاولة الحوار مع الدولة السورية , والتوصل إلى حلول تضمن الأمن وعلاقات حسن الجوار على طرفي الحدود… وإلى حين تعقل إردوغان , لن تتوقف الدولة السورية عن سعيها الدؤوب لتحقيق إنتصارها الكبير , شاء إردوغان أم أبى.
Tags العدوان التركي على سوريا رجب الطيب اردوغان ميشيل كلاغاصي
Check Also
ألمانيا تدفع ثمن أخطائها الإستراتيجية من غزة إلى أوكرانيا…بقلم م. ميشال كلاغاصي
لطالما دعيت بالمحرك الأوروبي بفضل صناعاتها التي ضمنت لها مكانةً إقتصادية هامة, وقوةً عسكرية لا يستهان بها, استطاعت من خلالها رسم حكايتها مع التاريخ القديم والحديث, هي ألمانيا التي خاضت حروبها العالمية وكادت...