لمّا باتت وضعية القوّة في العالم تعتمد سياسة التلويح بناء على عجز القوة نفسها -بتعبير برتراند بادي- كي تحقق أهدافها بالطريقة التقليدية.. ولمّا باتت القوة تفعل فعلها في نطاق القصور الذّاتي، فإنّ الغالب على السياسات هو استعجال مردودية قوة هي اليوم في حالة نفاد.. ولعلّ ما يلازم التلويح بقوة تجري وفق الوزن الميّت سياسة الإهانة التي قد تبلغ حالة الذّهان، لعل ذلك بالفعل ما شكّل محور بحث برتراند بادي (مفكر فرنسي دمج الفلسفة بالسياسة) عن “علم أمراض العلاقات الدولية في زمن المُهانين” (le temps des humilies).. هذا يقتضي بحث العلاقات الدولية في ضوء علم النفس الاجتماعي أيضاً للعلاقات الدولية بعد تشظّي القوة ولامركزيتها.
غير أنّ الإهانة ليست حدثاً جديداً إلاّ بقدر مأسستها وصيرورتها.. هي جزء من بنية نظام دولي، وسياسة استُلب فيها القانون الدولي نفسه، بينما هي ممتدة في تاريخ العلاقات الدولية وما قبل نشوء الدول، أي الأشكال القديمة للقوى الجماعية.. إنّ تاريخ السادة والعبيد بالمعنى الهيغلي يحتوي بلا شك على رصيد هائل من الإهانة، لكن ما يميز عصرنا هو القدرة على ممارسة الإهانة عبر النظام والقيم والمؤسسة، بينما تتيح الأيديولوجيا المعاصرة وإمكاناتها الهائلة خلق بيئة كافية من الزيف لجعل الإهانة قدراً جغرافياً وتاريخياً.
الجديد في محاولة برتراند بادي هو التأريخ للإهانة ورصد أنماطها وتحليل أسبابها ومآلاتها، لكن الإهانة كانت دائماً موضوعاً لعلاقات غير متكافئة في عالم متفاوت القوة وفائض القيمة والثقافة. ربما تبدو عملية إجبار أمم مختلفة على التوحد على نمط حضاري كوني هو شكل من الإهانة.
يتحدّث الأقوياء كما فعل فوكوياما مبرراً “نُبل الرسالة الحضارية” للغازي الأوروبي للقارة الأمريكية بدل الهندي الذي كان يقدم أطفاله قرابين للآلهة.. أمام هذا الاختزال يتحدث هنتنغتون عن أن فرض قيم مجتمع على العالم مسألة لا أخلاقية.. سنكون أمام مفارقة حقيقية بين نُبل فكرة التقدم والتحديث عبر الإهانة، لكن هل يا ترى وفي ظل تعقيد تناقضات القوة، هل الحداثة منّة أو منحة خيرية أم صراع للخروج من الهامش والتحرر من قدر الإهانة الذي يفرضه التمركز الذي لا يمكن أن يتحقق ويستمر من دون هامش لممارسة الإهانة التي باتت جزءاً من جدل علاقة غير متكافئة. حتى اليوم لا زال الحديث عن الحداثة كما لو أنها دعوة متاحة في مسرح دولي لا يستغني عن الإهانة في تدبير علاقة المركز بالهامش.
كثيرون كتبوا في الإهانة داخل القانون الدولي والعلاقات الدولية، كتب خبير المستقبليات المغربي الراحل مهدي المنجرة حول الإهانة في عهد الميغا- إمبريالية، وفيه جمع مقالات وحوارات تصب في هذا المنحى، وحيث تراءت له العولمة نفسها بوصفها نتيجة وليست سبباً أوجدت شكلاً من العجرفة، وهناك حيث يعيد تعريف مفهوم الإمبريالية بعيداً عن نمط الإمبريالية الرومانية أو الاستعمار ذي الأبعاد الاقتصادية بل يعتبر أن هذا المفهوم اليوم يتعين أن يأخذ بعين الاعتبار أننا عالم ما بعد تلك المرحلة أي المجتمع المعرفي، وخاصية هذه الـ”ميغا” هي التفرد بالقرار وعدم القبول بنظائر إمبريالية أخرى.
يتحدث أيضاً واين كويستنباوم عن الإهانة بوصفها علامة فارقة في عصرنا، لكن المهم أنّ هذه الإهانة تكمن في التفاصيل الصغيرة التي لا نكاد نقف على مخططها الخفي إلا بعد اكتمال اللعبة كاملة.
يتساءل واين إذا ما كانت الإهانة ضرورية، كما يؤكد على أن الإهانة هي موسومة في وجه المُهانين، هنا كما لو كان الحديث عن القابلية، كما يتساءل فيما لو كانت الكتابة هي ذروة الإهانة؟
الإحساس بالإهانة خاصية إنسانية كما يرى واين تماماً كالضحك والخجل، لكن السؤال اليوم الذي يجب أن يوجه للكاتب نفسه: ماذا حين تصبح الإهانة قيمة استهلاكية عمومية يفقد الكائن معها هذا الإحساس، ماذا عن مستقبل الأنسنة؟
تبدو مقاربة واين الفلسفية امتحاء من سيرة ذاتية للإهانة، إن الإهانة الذاتية هنا تصبح شكلاً من موقف استباقي يفوق جلد الذّات أو التعبير عن الإحباط بل سنجد الكاتب يذهب إلى خطورة الوقت التي تفوق إهانة الآخر والذات معاً، أما شبكات التواصل الاجتماعي فقد باتت طريقاً سياراً للإهانة.
لكن تكمن المفارقة هنا حينما يعتبر الكاتب أن الإهانة قد تكون سبباً في تغيير التوجهات البشرية من حيث أنها قد تحمل جانباً إيجابياً ليس أقله أن يتعلم البشر ويتمرنوا على تحمّل بعضهم.
إثبات الوجود بالصمت، حكمة المستقبل، ففي زمن الضوضاء وهشاشة المعنى يصبح الصمت هو ذروة المعنى.. الرغبة في الكلام الذي انتصبت له وسائط متعددة وثورة ميديولوجية عارمة هو ضغط تقدحه الإهانة.. تعويض مغالط للنفس والحقيقة والوجود.. «أنا مرئيّ إذاً أنا موجود».. لن تعود الحقيقة مهمّة بل إن كانت الإهانة مطية لدخول سوق النخاسة فستصبح في حدّ ذاتها قيمة.. سنعرّف إنسان اليوم بأنه “كائن مهان”.. وستنمو قريباً الرغبة في مبارحة الأضواء.. قيمة العتمة.. قيمة الصّمت.. في زمن موسوم بإمبريالية الإهانة.
يستمر نكأ هذا الجرح كما ذهب برنار نوويل (كاتب فرنسي) في «الموجز في الإهانة» لتسليط الضوء على دور الإعلام فيما يمكن التعبير عنه بتفريغ الإنسان من محتواه الداخلي وخوض معركة حقيقية ضدّ الوعي. المثير فيما قدمه برنار نوويل هو في هذا التدفق الصوراني الذي يغزونا وهو بما أنه يحتلنا يَصعُب تمثل ما يواصل تدفقه واحتلاله لنا.. إنها بالفعل حالة تفقدنا حتى ملك التّمثّل إن صحّ التعبير، ما يؤكد بناء على هذا الرؤية بأنّنا نعيش مرحلة تقويض الملكات الذّهنية.
وسنتأكد من خلال اليومي المكثّف في القول والموقف أنّنا بالفعل -وبناء على كل هذا الخطاب حول الإهانة- بأننا دخلنا مرحلة الاستهلاك العمومي للإهانة.. كائنات مسرنمة فاقدة لأي معنى وأي قيمة ولكن تحضر عندها مفاهيمها كطنين أجوف تندك معه قواعد العقل العملي بلا رجعة.
هذه الإهانة هي في مواكبة مستمرة لأشكال الإهانات التي خلقت منظومة ضائعة وشاردة على هامش التمركز الغربي الذي قام النظام الدولي على “منظومته القيمية” وأهدافه الإستراتيجية..
تلعب العلاقات العامة دوراً كبيراً في تعزيز الإهانة كجزء من لعبة الأمم، نتساهل في هذه الرغبة في الكلام، ننخرط في هذا التضخم الإعلامي الذي ينتهي بأسوأ أشكال الاستهلاك الفاسد لخطاب إعلامي بلغ حالة الانسداد بمُلاوغة تعمم الإسفاف وتصنع الأوهام وتساهم على المدى البعيد في هذا العود الأبدي للرداءة.. إن الشيء الذي لا زلنا نعتبر أنه لم يبلغ النهاية هو تاريخ الزّيف، لأننا أيضاً لا زلنا ننتظر متى يبدأ تاريخ الحقيقة.
لا يمكن للعالم أن يمضي في هذه الرحلة الفاوستية من دون تجرّع الإهانة، بينما الإهانة حتى اليوم هي موضوع لمن لا زالوا يشكلون الحالة المارقة داخل النظام الدّولي ونظام الإهانة. هذه الأخيرة هي مظهر من مظاهر القوة المستعملة في تدبير العلاقات الدولية والعلاقات العامّة. غير أنّ المُهانون الذين لا زالوا يناضلون ضدّ الإهانة سيقعون في تمثّل موقف المُهين وستنقسم المزرعة إلى عبيد المنزل وعبيد الحقل ليستمر فعل الإهانة خارج دياليكتيك السادة والعبيد.. وهناك ما يعزز اعتقادنا بأنّ العالم تجاوز ذلك النمط التقليدي من الصراع بين السادة والعبيد حيث تحول المسرح إلى حالة صراع بين العبيد أنفسهم وهو ما يضيف إلى مكاسب السادة في التاريخ فرصة للفرجة والتسلية وتدبير الصراع بلا كلفة تاريخية.
لنتأمّل ما يجري من محاولات في المنطقة، وكيف أنّ الإقليم يتعرّض منذ سنوات لمقالب الإهانة التي تجعل الإقليم يترنّح ليقع باستمرار داخل أنشوطة راعي البقر. اليوم وبأساليب المكر السياسي يتمّ إخضاع المنطقة لمخططات متشابكة يَصعُب تبيّن وجهتها حيث الغاية تعزيز الحيرة السياسية وتحقيق غرض الإهانة من دون حاجة إلى استعمال القوة، فالقوة حينما فقدت تمركزها في العالم بات بالإمكان العمل بمقتضى التوكيل للقوى الوظيفية.
عالم الغد هو عالم الإهانة بامتياز، أي عالم انهيار ما تبقّى من منظومة القيم الإنسانية لصالح معركة لن يقف فيها السيد خصماً مباشراً للعبد، بل ستكون معركة بين العبيد ما يزيد الوضع إهانة حتى يبلغ العالم عمى الإهانة أي فقدان الشعور بما يقع عليه من الإهانة والقبول به بوصفه واقعية سياسية وشراكة.
عالم الغد سيطرح إشكالية مصير المفاهيم التقليدية عن الحرية والاستقلال والكرامة والعدالة، وسنجد أنّ في هذا التوظيف المتضخم للمفاهيم ذاتها -في إثبات الطرح ونقيضه- مقدمة لانهيار منظومة المفاهيم الكبرى أيضاً ما يجعل الصّمت هو الوسيلة الوحيدة المتبقية للتعبير ضدّ الإهانة.. وعليه سيكون “الكوجيطو” المطلوب هو: “أنا صامت إذاً أنا موجود”!
* كاتب من المغرب