بقلم: محمد الرصافي المقداد |
إن شئت قلت بأنه رحمة مهداة، ولأجل الرحمة بعثه خالقه، فلم يخالف سببها طوال حياته، كان قولك في محلّه لا تشوبه شائبة، فقد كان مثالا عاليا في ظهورها وتجلّيها من خلال سيرته العطرة، لم يدركه الأولون ولا الآخرون، نجما زاهرا في سماء الاصطفاء الالهي، لم يسبقه نجم من نجومها، نورا وموقعا، فكان الاعلى والاوفى، بما حمّله الله من لطف عنايته، وشكّل بعروجه في الملكوت الاعلى، حادثة خارقة للسنن الكونية، مثبّتة أن معدنه الصافي، متميز عن بقية معادن الصفوة وبقية الخلق، روحا وجسدا، انفرد في قربه من الله وتميّز فيه، فلم يلحقه إليه أحد .. فاستحق لقب حبيب الرحمان.. لتفرّده في ذلك الحب، واستئثاره بتلك المعرفة، تنزّه عن النقائص، فنال عن جدارة واستحقاق لقب الإنسان الكامل، والعبد الذي عرف خالقه حق معرفته، فأعطاه ما هو أهله من طاعة .. رسول مؤيّد ومعصوم مسدد.. هو سيد الكائنات، وافضل المخلوقات، وجامع بديع الصفات، إلى الحد الذي قرنه الله برأفته ورحمته، فقال بشأنه: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) (1).
محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعثه محموده، ليدعو عباده الى حمده، على ما أولاهم من نعمه، فأوفى برسالة الاسلام، بلاغا بلسانه، وتطبيقا بجنانه، فما أخذ عليه بشيء من عائبة يرمى بها، ولا وقف الباحثون على اختلاف مشاربهم العقائدية والفكرية، على زلة ينسجون على اثرها خيوط شنآنهم له.. مبلغ قدحهم أنهم كذبوا عليه، فنسبوا له ما ليس فيه، افتراء عليه وانتهاكا لحرمته، من ذلك، أنهم تأوّلوا أميته (الذين يتّبعون الرسول النبي الأمّي) (2) فحملوا المعنى الى عدم التّعلم، متجاهلين قوله تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) (3)، وقوله جل وعلا معرفا معنى الأمّي ( قل للذين أوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم) (4)بما يعني أن الأمّي هو الذي لم ينزل في قومه كتاب، خلافا لغيرهم ممن اتاهم الله كتابا، مع أن الآية التي تحدثت عن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذكرت أن بعهدته تلاوة الآيات – بلاغ ما حمّل من وحي – وتعليم المسلمين الكتاب والحكمة، فكيف يحسن بمن ليس بمتعلم، ان يقوم بما لا يحسنه؟ وهذا بنظري ونظر كل منصف، اكبر اساءة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، اجتمع عليها اعداؤه وأدعياء ملّته معا.
من سفه القول نسبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الأمّية بمعناها القاصر، ومن رجحانه القول فيه، أن علمه ومعرفته، تعهّد وتعليم إلهي خالص، فهو صفي الله وحبيبه، وعلى هذا تحدّث تلميذه الأنجب علي بن ابي طالب فقال:
(..وَلَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ صلى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً، أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ..) (5)
ونحن المسلمون اليوم، اذا نقترب من ذكرى ولادة سيد الكونين والثقلين، التي اتخذت منها الجمهورية الاسلامية في ايران، بتاريخيها المذكورين في كتبنا الروائية 12 و 17 ربيع الاول اسبوعا للوحدة الاسلامية، سعيا منها لكسر حاجز التفرقة الوهمي، الذي عمل على تثبيته بيننا طويلا اعداء الاسلام، ليبقى قائما بذات وهمه، حائلا دون تحقيق واجب الوحدة، بين مختلف الفرق الاسلامية، في زمن أصبحت فيه الحاجة ملحّة، لتجنب كل ما من شأنه أن يفرق الأمة بمكوناتها، والتمسك بما يجمعهم، وما يجمع الأمة الإسلامية أكثر بكثير مما يفرّقها، حيث لا يبقى للمسائل الخلافية مستمسك لأحد، أمام هذا الكم الهائل من المتوافقات.
التوحيد يجمعنا، والقرآن يجمعنا، والوعد والوعيد يجمعنا، والمصير المشترك يجمعنا، وهذا النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم يجمعنا، على أساس سليم وموقف صلب، لا تؤثر فيه عواصف الارجاف والتشكيك، فلماذا نختلف ونحن أهل ملة واحدة؟ لماذا نختلف والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقرآنه يدعواننا الى تجنب الاختلاف، ويأمرنا بالوحدة؟ اليس من الغبن ومعصية الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أن يستشري فينا التشرذم، ويستقوي بعضنا على بعض، يستضعفون طائفة، يحسبونها خارج التصنيف الاسلامي، والحال أنها من أشد الفرق الاسلامية، حرصا على الدين، ودفاعا عن ثوابته وقيمه وقضاياه؟
نبي جمع من المكارم، ما بوّأه الله بها مكانة رفيعة في الدنيا ( إنك لعلى خلق عظيم) (6) ومقاما محمودا في الآخرة، يغبطه عليه الأولون والآخرون، هو أبو القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي جاء ليخرج الناس من ظلمات الجاهلية، واتباع خطوات الشيطان وحزبه، الى نور الهدى ودين الحق، نبي أوجب الله اتباعه في محكم كتابه ( قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (7)
لذلك ندعو اخواننا المسلمين، على اختلاف فرقهم ومدارسهم وافكارهم، الى نزع رداء العصبية والتطرف، على اعتبار ان الدين هو دين الله، وليس لأحد أن ينصّب نفسه حكما فيه أو مالكا له، وأن يعود من تطرّفه الى رشده، بالنظر في سيرة النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي جمع المسلمين على صعيد واحد، وهو يعلم اختلاف أفئدتهم وأفكارهم، ولم يفرق بينهم أبدا، ووحد ولم يجزئ، وألّف ولم ينفّر ويبغّض، وحبّب ولم يكرّه، ودعا الى اتخاذ سبيل الحكمة والموعظة الحسنة في الحوار مع الآخر، ونهى عن التناحر والاقتتال بين المسلمين، محذرا كل مرة من تربّص الاعداء بهم، واستغلال ثغرة اختلافهم وتفرقهم عن بعضهم.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوال ردهات حياته الشريفة، مثالا للألفة والحب، وعنوانا للإنسان الكامل، يقتبس منه الناس جميعا انوار هداية، تضيء ظلمة قلوبهم، وتفتحها على عبودية حقّة، تخشى الله كما يجب، وتعمل بآداب احكامه وتعاليم كتابه .
الاحتفال بمناسبات الاسلام العظيمة، من السنن التي يجب المحافظة عليها، وتأصيلها في مجتمعاتنا، لتزداد قربا من معين الوحي والنبوة، وأداؤها تعظيم لشعائر الله، التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، لقيمتها الروحية ومنزلتها الدينية الكبيرة، وأجرها الثابت عند الله (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)(8)
ومن صدّ عن تعظيم الشعائر كالاحتفال بذكرى مولد سيد الكائنات صلى الله عليه وآله وسلم فقد بخس حقه وعمل على جفائه وحثّ على هجرانه، وهو الذي يسمع ويجيب ويسال فيعطى، والمتعامل معه على أساس وهابي يعتبر الاحتفال به وبمناسباته الكبرى بدعة يجب تركها مجاف له، متقول في الدين بجهل، وما احياء أي ذكرى من متعلقات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سوى تعبير عن مودة وامتنان له، وتقدير ولما قدمه من تضحيات، حتى وصل الينا دينه الخاتم، واعتراف بجميل وجليل جهوده، والجاحد لها، ناكر لمعروفه، هاضم لحقه، ومن هنا أدعوا اخواننا في الاسلام العظيم، ان لا ينقطعوا عن مواصلة تعظيم شعيرة النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يستجيبوا لدعوة الوهابية الباطلة، في بدعيّة الاحتفال بالمولد النبوي، ويجددوا عهدهم به، احتفالا بذكرى مولده، من باب وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين، فكيف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأيامه المباركة.
المراجع
1 – سورة التوبة الآية 128
2 – سورة الأعراف الآية 157
3 – سورة الجمعة الآية 2
4 – سورة آل عمران الآية 20
5 – نهج البلاغة الامام علي بن أبي طالب / الخطبة المسماة القاصعة رقم: 192
6 – سورة القلم الآية 4
7 – سورة آل عمران الآية 31
8 – سورة الحج الآية 32