لا تكاد تمر ليلة أو يمضي نهارُ يومٍ دون وقوع عمليات اعتقالٍ متعددة الأشكال والوجوه لأهلنا في الضفة الغربية، حيث تُداهم بيوتهم وتُقتحم محلاتهم، وتُوقف سياراتهم ويقطع الطريق عليهم، ويتم إنزالهم منها بالقوة، أو يسحبون من على البوابات والمعابر، ومن أمام نقاط العبور والحواجز، بينما يبقى كثيرٌ منهم في مراكز الاحتجاز خلال المقابلات والمراجعات الأمنية، في الوقت الذي يلقى القبض على المصلين والمرابطين والمشتبه فيهم من العابرين، وغيرهم ممن لا تروق وجوههم وأشكالهم لجنود الجيش أو ضباط المخابرات، فيما بدا وكأنه نشاطٌ يومي اعتيادي يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وكأن الاعتقالات ليست أكثر من طقوسٍ عادية، أو وجباتٍ يومية يجب أن يعتاد عليها الفلسطينيون ويتفهموها ويقبلوا بها، ولا يحق لهم الاعتراض عليها أو الثورة بسببها، أو إبداء التذمر والضيق لسلطتهم وأجهزتها الأمنية التي تنسق مع سلطات الاحتلال، حتى بات الفلسطينيون يتوجعون من هذه الظاهرة، ولا يأمنون على أنفسهم العودة إلى بيوتهم أو الوصول إلى أماكن عملهم دون تعرضهم لإطلاق النار عليهم أو اعتقالهم.
لا تقتصر الاعتقالات على الرجال أو الشبان، ممن تدعي سلطات الاحتلال اشتباهها بهم، كأن يكونوا أعضاءً في خلايا عسكرية أو مجموعاتٍ أمنيةٍ، أو ممن تتهمهم بالتحضير لعملياتٍ فردية مثل الطعن والدهس، بل تقوم باعتقال كثيرٍ آخرين ممن هم براءٌ من ادعاءاتهم، وممن لا يشكلون خطراً عليهم، كاعتقال الأطفال والنساء والشيوخ، والمصلين والعابرين، وأقرباء النشطاء والمسؤولين، أو أهل وذوي المطلوبين، كما تعتقل التجار والطلاب والأساتذة، والعائدين من سفرهم والمغادرين إلى الأردن، ولا تتردد في اعتقال المرضى والجرحى، والعاملين في مزارعهم، والمبكرين إلى حقولهم، والساعين إلى قطف ثمارهم وجمع زيتونهم، وغيرهم من مختلف قطاعات شعبنا في الضفة الغربية.
الضفة الغربية كلها مستباحة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، فهو يدخل ومخابراته إلى أي مكانٍ فيها، ولا تقوى السلطة الفلسطينية على منعه من اقتحام مدن الضفة ومخيماتها وبلداتها، رغم أنها تعلم الكثير عن تحركاته وفعالياته، وذلك من خلال غرف التنسيق الأمنية القائمة مع المخابرات والإدارة المدنية الإسرائيلية، إلا أن جيش العدو يقتحم بوحشية، ويداهم بهمجية، ويجتاح بأعدادٍ كبيرة، ويطلق النار بغزارة، ويصل بسياراته العسكرية المصفحة وجرافاته التي تواكب حركته إلى عمق المخيمات، وإلى آخر بقعة في المدن والبلدات، وينفذ عملياته بكل طمأنينة وثقة، غير خائفٍ من سلطةٍ تمنعه أو مقاومةٍ تردعه، ويقوم أحياناً بتصوير عمليات المداهمة والاعتقال، وكأنه يبدي فخره بما يقوم به، ويعبر عن عدم خوفه مما ينفذه.
لا تشعر سلطات الاحتلال الإسرائيلي أنها تخنق الفلسطينيين وتقتل بسياستها أبناءهم، وتضيق عليهم وتدفعهم بالقوة نحو الثورة والانتفاضة، والثأر والانتقام، والقيام بعملياتٍ فرديةٍ أو الانتساب إلى خلايا ومجموعاتٍ عسكرية، فهذه الاعتقالات المتوالية، والسياسة اليومية المتبعة، ترهق أهلنا في الضفة الغربية، وتفقدهم الإحساس بالطمأنينة والاستقرار، وهي تقصد إذلالهم وإهانتهم، وتسعى إلى تيئيسهم وإحباطهم ونزع الثقة بقدراتهم من نفوسهم، حيث يصل عدد المعتقلين يومياً إلى العشرات، بينما يوجد في السجون والمعتقلات الإسرائيلية أكثر من ستة آلاف معتقل من أبناء الضفة الغربية.
إلا أن الفلسطينيين يدركون سياسة العدو ويعرفون مكره، ويطلعون على أهدافه وغاياته، ويعلمون أن عينه على الضفة الغربية مركزة، وشهيته لابتلاعها مفتوحة، ورغبته في السيطرة عليها والاستيطان فيها كبيرة، فهو يراها “يهودا والسامرة”، التي كان فيها قبل آلاف السنوات وعاد إليها قبل أقل من قرنٍ، ولهذا فهو يتطلع إلى تفريغها من سكانها، إما بقتلهم أو اعتقالهم، أو بطردهم وترحيلهم، أو بحصارهم والتضييق عليهم ليهربوا بأنفسهم، ويغادروا موطنهم إلى مكانٍ يستطيعون فيه العيش مع إخوانهم العرب، ولعل العدو يطمح إلى ذلك بسرعةٍ كبيرة ليحول أحلامه إلى واقعٍ، وأمنياته إلى حقيقة.
ربما تظن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أنها بسياستها القمعية التعسفية التي تمارسها ضد أهلنا في الضفة الغربية، تستطيع أن تفت في عضدهم، وأن توهن هزيمتهم وتحل عريكتهم وتنتصر عليهم، ونسوا عمداً أو غباءً أن أبناء الضفة الغربية ورجالها، هم أبطال المدى والسكاكين، وأنهم من فجروا موجات الدهس والصدم، وأنهم رواد العمليات الفردية، وأبطال عمليات القنص والاصطياد بالأسلحة الأتوماتيكية، وأن منفذي كبرى العمليات العسكرية هم من أبنائها، وقد دوخوا جيش العدو ومرغوا أنف مخابراته في التراب، إذ نجح أغلبهم في تنفيذ عملياتهم والانسحاب بسلامٍ، والتواري عن النظار بسريةٍ ناجحة لأيامٍ وأشهر، إنها ضفة أحمد نصر جرار، وأشرف نعالوة، وعمر أبو ليلى وصالح البرغوثي ويحيى عياش وغيرهم، ممن تحدوا إجراءات الاحتلال، وثبتوا أمام سياسته، وأثبتوا أنهم الأقوى والأصلب، وبرهنوا أنهم يقاومون ولا يستسلمون، ويصمدون ولا يترددون، ويتقدمون ولا يتقهقرون.