تلعب المصادفات دورًا كبيرًا في التاريخ، ولكن التاريخ ليس مجموعة مصادفات بالأكيد، فالثورة التونسية التي انطلقت بحادثة تصادفت مع وضع اجتماعي واقتصادي وسياسي مهيأ لها شكلت نقطة انطلاق لمنعرج كبير في تاريخ الوطن العربي.
كذلك يمكن اعتبار تاريخ رحيل الرئيس الباجي قايد السبسي مباشرة بعد امضائه على دعوة الناخبين لإجراء الانتخابات التشريعية مصادفة تاريخية أثرت في مجريات الانتخابات الرئاسية والتشريعية ولو بشكل جزئي، وقد تؤثر هذه النتائج في مجريات الأحداث في المنطقة مرة اخرى، هذه المصادفة أثرت لأن المناخ العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي بدوره كان مهيأ لإحداث هذا الزلزال خاصة في مستوى الانتخابات الرئاسية.
الانتخابات الرئاسية في دورها الأول: سباق حول شعارات السيادة والتأميم والتنمية المستقلة ومقاومة التطبيع
تقدم 26 مترشحًا للانتخابات الرئاسية في دورها الأول من مختلف المدارس الفكرية والسياسية من لبراليين وقوميين ويساريين وإسلاميين وغيره، فإذا استثنينا مرشحي المنظومة القديمة ومرشح حركة النهضة الذين كانا أوفياء إلى حد بعيد للخطاب الرسمي للدولة التونسية منذ الاستقلال في علاقته بالأمن القومي والسياسة الخارجية وغيره، ولكنهم جميعا لم يجاهروا بمعارضتهم للسيادة وتجريم التطبيع وتنويع العلاقات… فإن البقية الباقية وهم الأغلبية الساحقة من المترشحين باستثناء بعض المرشحين الهامشيين كان الصراع ضاريًا بينهم على من يكون المعبر عن شعارات السيادة على القرار والثروات ومقاومة التطبيع وحماية الأمن القومي والوحدة العربية والمغاربية كل بطريقته وأسلوبه. فهناك من قدمها في إطار قيم وثوابت المشروع التحرري التاريخي للشعب التونسي والأمة العربية، وهناك من قدمها في شكل فلكلوري شعبوي، ولكن في النهاية جميعهم تبناها قناعة أو انتهازية، وربما كان مرشحي اليسار وأبرزهم حمة الهمامي الأكثر تماسكًا في طرحه لهذه الغايات، ولكن تشتت القوى التقدمية وأدائها الباهت لمدة خمسة سنوات وصراعاتها من أسباب هزيمة مرشحيها في الانتخابات الرئاسية، دون إغفال معطى آخر مهم، حيث لم يعد يجدي نفعًا تجاهله من قبل القوى اليسارية والتقدمية في تونس والوطن العربي، وهو موضوع التعاطي مع التدين الشعبي لعموم الجماهير وكيفية تسفيه رواية الرجعية حول معاداة التقدميين واليسار تحديدًا لهوية الشعب؛ لأن الموقف الداعم بدون تحفظ والمندفع بشكل مبالغ فيه لتقرير لجنة الحقوق والحريات التي شكلها الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي كان أحد عوامل هذه النتيجة، حيث تبين لكل من خاض الانتخابات أن الشعب التونسي شعب محافظ في علاقته بهذه المسائل، ولكنه يذهب بعيدًا مع التقدميين واليسار في علاقته بالمشروع السيادي، فهو حساس كثيرًا تجاه الهيمنة، ويذهب بعيدًا في علاقة بالعدالة الاجتماعية وحتى الاشتراكية، لما يتعلق بدور الدولة في الاقتصاد وتوفير الخدمات اللائقة للشعب، ويذهب بعيدًا بعيدًا وأبعد منها جميعا في رفض التطبيع مع العدو الصهيوني ومقاومته إلى غير ذلك من المسائل، ولكن مستعد للتخلي عن كل هذا مقابل ما يستشعر أنه يمس تدينه الشعبي وهويته.
هزيمة قاسية للقوى التقليدية سلطة ومعارضة
انتهى الدور الأول من الانتخابات الرئاسية بهزيمة قاسية للطبقة السياسية التقليدية سلطة ومعارضة، وصعد للدور الثاني رجل القانون الدستوري قيس سعيد ورجل الأعمال والإعلام نبيل القروي. فالأول كان خارج المقاييس المتعارف عليها في المشهد السياسي سياسيًا واتصاليًا، حيث ركز على القيم والمثل العليا مثل إرادة الشعب “الشعب يريد” وعلوية القانون وسيادة الشعب وسلطة الشعب والتعامل مع العدو الصهيوني خيانة عظمى وغيرها، فافتك الشباب والمتعلمين والنخب برغم خطابه المحافظ في مجال الحريات الفردية، فالمفارقة أن كثيرًا من الشباب والشابات الذين دافعوا بقوة عن تقرير الحقوق والحريات وما ورد فيه خاصة المساواة في الميراث، وجدناهم داعمين وداعين للتصويت للأستاذ قيس سعيد، برغم مواقفه المعلومة في هذا المجال، وهي أمور لا بد من التوقف عندها كثيرًا في تحليل هذه الظاهرة.
اما الثاني أي رجل الأعمال والإعلام نبيل القروي، فقد افتك الكثير من الشرائح الاجتماعية المسحوقة التي ازدادت معاناتها طيلة هذه السنوات من عمر الثورة، حيث عوض لهم من خلال جمعية “خليل تونس” عن غياب الدولة وتخليها عن دورها من جهة، وغياب برنامج وطني تقدمي للقوى التقدمية يقنع هؤلاء ويحتضنهم ويعطيهم أملًا من جهة أخرى.
الانتخابات التشريعية تحت ظلال الرئاسية
انطلقت الحملة الانتخابية التشريعية يوم الصمت الانتخابي في الدور الأول للانتخابات الرئاسية لتكون بمثابة استمرار لها في الحملة والنتيجة، حيث لم يختلف كثيرًا ترتيب التشريعية عن الرئاسية مع استثناء الاستاذ قيس سعيد الذي لم يكن يملك قائمات، وكذلك التبادل الطفيف في الترتيب بين حزب رجل الأعمال نبيل القروي قلب تونس وحزب حركة النهضة، حيث أثر اعتقال القروي بتهم الفساد وتبييض الأموال على نتائج حزبه في التشريعية، ناهيك عن هشاشة الحزب التنظيمية وغياب أي رؤية لديه باستثناء شعار”تقطيع تسكرة الفقر” الذي لم يجد رواجًا عند الشباب والنخب والطبقة الوسطى، وحتى رجال الأعمال تجنبوا دعم نبيل القروي وحزبه إلا القليل القليل منهم.
والملاحظات الأولية التي يتوجب الوقوف عندها، هي:
أن الاقبال في التشريعية كان أقل منه في الرئاسية، برغم أن مركز الحكم الرئيسي في البرلمان الذي تسفر عنه الحكومة التي تتولى تقريبًا إدارة البلاد سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وحتى أمنيًا فصلاحيات الرئيس محدودة جدًا.
صعود التيار الليبرالي بشقيه، حيث صعد التيار الإخواني المتشدد بكيفية تجاوزت 2011 ذروة صعود هذا التيار، حيث تحصلَّ ما يسمى ائتلاف الكرامة الذي يضم عناصر إخوانية وسلفية متطرفة على أكثر من عشرين مقعدًا، زائد حزب الرحمة السلفي بأربعة مقاعد، ناهيك عن حزب حركة النهضة الأول في الترتيب، وكلها تشكيلات يمينية ليبرالية محافظة يليها رجل الأعمال نبيل القروي قلب تونس اليميني الليبرالي، وحزب رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد تحيا تونس الذي لا يختلف عن حزب القروي إلا في التسمية، والحزب الدستوري الحر بقيادة المحامية عبير موسي يمين ليبرالي وعدد من المستقلين ذوي التوجهات اليمينية، ناهيك عن وجود عدة عناصر تحوم حولها شبهات التهريب والتهرب وحتى دعم الإرهاب والتورط في اختراق أجهزة الدولة فيما يعرف بقضية الجهاز السري.
التركيبة البرلمانية إذا استثنينا حزب التيار الديمقراطي وسط ليبرالي، وحزب حركة الشعب ذات المرجعية القومية والتي تقف وحيدة في توجهها الاشتراكي داخل قبة البرلمان في انتظار تشكيل الحكومة، وتوضح موقفها من مشاركة القوى الليبرالية فيها من عدمها، فإن البرلمان بأغلبية ساحقة هو برلمان ليبرالي يميني يقف على النقيض تمامًا من توجهات الشارع في علاقته بالرئاسية.
قيس سعيد رئيسًا للجمهورية: حملة القيم والمثل تنتصر على حملة مقاومة الفقر!
اكتسح المرشح قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية بشكل كبير وغير منتظر، وبدعم كبير شعبي وحزبي من مختلف الحساسيات والشرائح، برغم استمراره على نفس الخطاب، وعلى نفس الشعارات في ظل غياب برنامج رئاسي واضح، باستثناء نقطة تغيير طبيعة النظام السياسي التي لم ينتبه إليها ولم يفهمها أغلب المصوتين وترفضها أغلب الأحزاب التي دعمته، وهي مفارقة مضافة، ولكن في المقابل، فإن الغالبية الساحقة ممن صوتوا لقيس سعيد صوتوا لمثل وقيم عليا عبَّر قيس سعيد عن البعض منها، والبعض تخيلتها جموع الشعب في قيس سعيد حتى وإن لم يعبر عنها صراحة.
هذه الحالة الفريدة فسرها البعض بالرغبة في التغيير ومعاقبة المنظومة والطبقة السياسية التي تسيَّدت المشهد السياسي والإعلامي لمدة أكثر من ثماني سنوات، وذلك لتفرد الرجل في المشهد شكلًا ومضمونًا، حتى وإن بدا هذا المضمون غائمًا، وفسرها آخرون بتدخل خارجي باستعمال تطبيقات ومنظومات إعلامية عبر اختراق الفضاء السيبراني لتونس وتوجيه الرأي العام لغايات استراتيجية ستظهر لاحقًا تتعلق بمستقبل وحدة الدولة والمجتمع ودور تونس في إعادة تشكيل المشهد في الإقليم، ولكنها تبقى إلى حد الآن مجرد تحاليل لا دليل على صحتها، ولكنها تأخذ في حسبان.
قيس سعيد المدعوم بشرعية شعبية كبيرة والمحمل بأحلامها ما أدركه منها وما لم يدركه في مواجهة منظومة يمينية محافظة ومرتبطة بشبكة المصالح الداخلية وقوى الهيمنة الخارجية.. أي علاقة بينهما؟
يدخل الرئيس الجديد قصر قرطاج وهو يردد أن الشعب التونسي دخل التاريخ من أوسع الأبواب، ولكن أوسع أبواب التاريخ في الوطن العربي لا تؤدي في أغلب الأحيان منذ 2011 إلى اليوم إلا للفوضى والخراب، فهل يتمكن قيس سعيد من قيادة الشعب التونسي من دخول التاريخ من أوسع أبوابه نحو السيادة والرقي الاقتصادي والاجتماعي؟ هذا ما نتمناه، ولكن هناك ملاحظات أولية لابد منها في انتظار تشكيل الحكومة والإفصاح عن توجهاتها.
أولى الملاحظات: وهي أن قيس سعيد يربط ربطًا أوتوماتيكيًا بين الأزمة الاقتصادية وطبيعة النظام السياسي التي يعتبرها متخلفة، وهذا يعني أوتوماتيكيًا أن تغيير النظام السياسي وفق رؤية قيس سعيد هو المدخل لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وتطوير البلاد، ولو سلمنا مع الرئيس سعيد برؤيته هذه، فإن أولى العراقيل التي ستواجهه هي الاغلبية البرلمانية التي لا تؤمن برؤيته في ضرورة تغيير النظام السياسي، ناهيك عن الصعوبات الجمَّة دستوريًا في الوصول إلى استفتاء في هذا الشأن.
ثاني هذه الملاحظات: وهي من هنا إلى غاية تغيير النظام السياسي ماذا بإمكان سعيد أن يقدم للشعب التونسي الذي حملَّه آمال وأحلام كبيرة، وهو لا يملك من السلطة التنفيذية شيئًا، وحتى مشاريع القوانين التي بإمكانه تقديمها يجب أن تمر عبر الحكومة وبالتعقيدات القانونية كلها حتى تصل للجلسة العامة للمصادقة، فلو فرضنا مثلًا أن الرئيس قيس سعيد في إطار الالتزام والأمانة بشعار الشعب يريد تحرير فلسطين وتجريم التطبيع مع العدو الصهيوني الذي عبر عنه هو بالخيانة العظمى، وباعتباره رئيسًا لمجلس الأمن القومي، وباعتبار الخيانة العظمى قائمة الآن؛ لأن أفراد وشركات ومؤسسات تونسية ترتكب هذه الخيانة من خلالها تعاملها مع الكيان الصهيوني، فمن واجبه وضع حد لهذه الخيانة، وتنقيح فوري للمجلة الجنائية حتى يتسنى محاكمة كل من يرتكب هذه الخيانة. فالسؤال للأغلبية البرلمانية التي رفضت مجرد فصل أو قانون لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني هل ستقبل لقيس سعيد بهذا؟ وماذا لو سقط مشروع قانون مثل هذا في البرلمان يتقدم به الرئيس؟ ناهيك عن قانون المالية القادم الذي يتوجب على سعيد امضائه، وهو القانون الذي أعدته بعثات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ودوائر الهيمنة، والمطلوب تمريره دون نقاش. ناهيك عن تنقيح قانون المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء… يبقى السؤال معلقًا كيف سيتعاطى الرئيس مع الأغلبية البرلمانية والحكومة التي لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بمشروعه المعلن منه والخفي؟! والأهم أنه لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بآمال وطموحات الشعب.
لذلك إن أبرز التحديات التي سيواجهها سعيد هي عدم الخضوع لعمليات الاحتواء التي ستقوم بها الأغلبية البرلمانية، وأخطرها: كيف سيستمر الدعم الشعبي لقيس سعيد دون أن يكون هناك تأثير ايجابي لوجوده في سدة الرئاسة على حياة الناس اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا؟
مقارنة خارج الزمان والمكان حتى نفهم أكثر!
فقد لاحظت أن كثيرًا من أبناء شعبنا الطيب بدأ يقيم المقارنات بين رئيسنا المنتخب وزعامات تاريخية غيرت كثيرًا وأثرت كثيرًا في تاريخنا.
فمثلًا لو أخذنا أبرز مثال لهذه الزعامات وهو الزعيم الخالد جمال عبد الناصر ولست في وارد المقارنة، ولكن لأقول أن الزعيم جمال عبد الناصر كان صاحب مشروع سياسي التفت حوله الجماهير في مصر ومنها الجماهير العربية وهي في الأغلب لا تعرف كنه هذا المشروع، فلا أعتقد أن فقراء وفلاحي مصر كانوا يفرقون بين الاشتراكية والرأسمالية، وبين الديمقراطية النيابية والديمقراطية التشاركية، وكانوا يفهمون شعار ديمقراطية الاقتصاد واشتراكية السياسة، ولكن ما جعلهم يستمرون في دعمهم لعبد الناصر أنه وهو يحدثهم عن القيم والمثل العليا في التحرر والحرية والاشتراكية والوحدة والمقاومة كان يملك جهاز الدولة التنفيذي ويحقق لهم نسب نمو عالية وتعليم وصحة وبنية تحتية ويمكنهم من ضيعات فلاحية بعد أن كانوا عبيد يعملون فيها عند الإقطاع، ومكنهم من تحرير أرضهم، وتأميم ثرواتهم، وقاوم بهم ومعهم الاستعمار والصهيونية، فاستمروا معه طالما هو يحولّ شعاراته ومشروعه إلى واقع عملي يؤثر في حياتهم للأفضل، ولو لم يفهموه فكريًا وسياسيًا وهنا تكمن المفارقة التي وجب حلها الآن.
المصدر: مجلة الهدف