بقلم: الدكتور بهيج سكاكيني |
القرار الذي جاء من البيت الابيض الذي اعلن عنه الرئيس ترامب بشأن سحب ما يقارب 10000 جندي امريكي او اكثر من القواعد في المانيا حيث تتواجد اكبر قاعدة امريكية في اوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أثار جدلا واسعا في أوساط الصحافة الغربية والسياسيين الاوروبيين والامريكيين. وعبر البعض منهم عن مخاوفا على مستقبل حلف الناتو والعلاقة بين الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الى جانب ما قد يتعرض له الامن الاوروبي نتيجة هذا الانسحاب الجزئي ورأى فيه البعض تخلي أمريكا عن الأمن الاوروبي ووصل البعض الى وصف هذه الخطوة على انها اكبر “هدية لبوتين”. فهل هي فعلا “هدية لبوتين” كما وصفها البعض؟
ما يجدر الاشارة اليه الى ان هذه ليست المرة الاولى الذي يصرح فيها الرئيس ترامب تصريحا تبدو على السطح وكأنها بالضد من الامن الاوروبي وأن الولايات المتحدة اصبحت غير معنية بأمن الدول الاوروبية. فلقد سبق وأن هدد بالانسحاب من حلف الناتو ووصفه بالمؤسسة التي عفى عليها الدهر وتضح لاحقا ان كل هذا الهراء لم يكن الا لحلب دول الاتحاد الاوروبي لدفع المزيد من دخولها االى الحلف وأن عليهم أن يقوموا بدفع ورفع مستحقاتهم مقابل “الحماية” الامريكية. وحقيقة الامر ان تواجد القوات الامريكية في الدول الاوروبية تحت غطاء حلف الناتو ما هو الا جسرا اوروبيا حيويا للامبريالية الامريكية.
فالولايات المتحدة هي من قام بالضغط على دول الاتحاد الاوروبي القيام بضم جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة مثل بولندا وجورجيا ودول البلطيق لاتفيا واستونيا وليتوانيا والتي لها حدود متاخمة للاراضي الروسية اما اوكرانيا فقد اعطيت عضو شريك للناتو نظرا لبعض الحساسيات الاوروبية. والاسباب الرئيسية للضغوط الامريكية على اوروبا لقبول هذه الدول هي اسباب سياسية محضة تصب في صالح الدول استراتيجيتها التي تقوم على إحاطة روسيا بقواعد عسكرية في هذه الدول الى جانب الوقوف حجر عثرة أمام أي تقارب أوروبي روسي مستقبلا واستخدام القوة التصويتية لهذه الدول داخل الاتحاد الاوروبي لصالحها.
والسؤال المطروح هو اين ستنقل هذه القوات الامريكية إذا ما تم سحبها من المانيا. بالتاكيد لن تنقل الى خارج أوروبا بل سيعاد تموضعها إما في بولندا أو دول البلطيق أو أوكرانيا وكلها بمحاذاة الاراضي الروسية. ومن هنا الكذبة الكبرى للاعلان عن نية الولايات المتحدة لسحب قواتها من اوروبا. والسخافة في طرح فكرة ان سحب هذه القوات سيكون “هدية لبوتين”. ولمن خانته ذاكرته نقول ان نفس السيناريو حصل يوم “الانسحاب” الامريكي من العراق عام 2011 على عهد الرئيس أوباما حيث تموضع الجزء الاكبر من هذه القوات في الكويت وبعض الدول الخليجية.
الاعلان عن سحب هذه القوات من المانيا هدف الى تحقيق هدفين. أولهما الى عملية إبتزاز مالي لألمانيا التي تعتبر من اغنى دول الاتحاد الاوروبي وهو يريد منها ان تساهم اكثر في ميزانية الناتو وهذا ما اشار اليه السفير الامريكي في المانيا الذي انهى خدمته هناك بشكل غير مباشر والذي بالمناسبة كان من اكثر السفراء الامريكيين وقاحة , حيث قال ” ان دافع الضرائب الامريكي لم يعد ان يحتمل دفع النفقات لحماية امن دول اجنبية”. هذا في الوقت الذي استخدمت امريكا حلف الناتو كمطية منذ انتهاء الحرب الباردة في مطلع تسعينات القرن الماضي. فقد تم استخدامه في يوغسلافيا عام 1999 ودون غطاء دولي من مجلس الامن زمن كلينتون الديمقراطي وعمل على تقسيم البلد. كما استخدم في غزو أفغانستان عام 2001 وما زالت بعض قواته الاوروبية للان متورطة في هذا البلد مع القوات الامريكية دون ان يكون لها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في ذلك. كما استخدم في تدمير ليبيا 2011 واسقاط نظام العقيد معمر القذافي وتحويلها الى بلد فاشل منقسم ومرتع للمجموعات الارهابية المرتبطة بداعش وتنظيم القاعدة ومركزا لتهريب البشر الى الشواطىء الاوروبية واستخدم ايضا في العراق والعدوان على سوريا بحجة محاربة الارهاب وتم عن طريق بعض دوله بيع الاسلحة وتوريدها الى المجموعات الارهابية. ترامب يريد من الدول الاوروبية ان تدفع تكلفة المغامرات العسكرية الامريكية في العالم تحت ذرائع واهية مثل حماية المدنيين ونشر الديمقراطية والقيم الغربية الى جانب ثوراتها الملونة لتغيير الانظمة كما حدث في جورجيا وأوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر. والرئيس ترامب لم يستشر حلفاؤه في الناتو عندما عرض على الرئيس البرازيلي قدوم قوات من الناتو يكون وظيفتها الرئيسية هي استخدام الاراضي البرازيلية لشن عدوان عسكري على فنزويلا, كما عرض عليه ان تقوم الولايات المتحدة بإقناع الدول الاعضاء بقبول البرازيل كحليف استراتيجي خارج الناتو.
أما السبب الاخر هو الضغط على المانيا سياسيا وخاصة في علاقاتها مع روسيا فما يخص اعتمادها على النفط والغاز الطبيعي الروسي ولا يخفى على احد ان الولايات المتحدة وإداراتها السابقة حاوت جاهدة الضغط على الدول الاروربية قاطبة والتي تعتمد على سد احتياجاتها من النفط والغاز من روسيا عبر الاراضي الاوكرانية. ونتيجة الاحداث والثورة الملونة (الثورة البرتقالية) في أوكرانيا التي مهدت لها أجهزة المخابرات الامريكية والسفارة الامريكية في كييف والتي كان نتيجتها اسقاط نظام الرئيس يانكوفيتش الذي كان له علاقة مميزة مع روسيا والمجيء بنظام شاركت فيه احزاب فاشية وذات اصول نازية في حكم البلاد. عندها قررت موسكو بعدم الاعتماد على خطوط انابيب الغاز المارة في الاراضي الاوكرانية لتوزيعها في الاسواق الاوروبية لما يشكله ذلك من خطورة على بيعها الغاز والنفط الى اوروبا مع مجيء هذا النظام الموالي والمدعو من قبل الولايات المتحدة. وقامت بتمديد خط متجاوزة الاراضي الاوكرانية سمي بنورد ستريم وقد ساهمت فيه بعض الشركات الاوروبية. ولقد هدد ترامب بفرض عقوبات على الدول والشركات الاوروبية التي ستساهم في بناء البنية التحتية لهذا الخط بالاضافة الى تهديد الدول التي سيصلها الغاز عن هذا الطريق. ولكن المانيا وهي اكثر الدول المنتفعة من هذا الخط والتي تستورد ما يقارب من ثلث احتياجاتها من الغاز المسال الطبيعي من روسيا لم تعر التهديدات الامريكية اي انتباه. الرئيس ترامب يدرك جيدا لما لألمانيا من ثقل سياسي وإقتصادي وازن في أوروبا وهو يسعى الى تقليم أظافر المستشارة الالمانية ميركل التي بالتأكيد لا تبدي حبا أو إحتراما للرئيس ترامب, وهي التي رفضت دعوة الرئيس ترامب مؤخرا لحضور إجتماع الدول السبع الصناعية الكبرى في واشنطن الذي إقترحه ترامب.
ونقطة أخيرة يجب التنويه اليها بشأن القواعد العكسرية وهي أن الولايت المتحدة أقامتما يقارب من 800 قاعدة عسكرية ومن جميع الاحجام ومنتشرة في جميع انحاء المعمورة وهذه القواعد لم تكن في يوما من الايام لحماية البلدان المعنية من اي خطر خارجي يهددها بل كانت وما زالت لحماية المصالح الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة وتأبيد السيطرة والهيمنة الامريكية بالدرجة الاولى والاخيرة. والولايات المتحدة ترسل اساطيلها البحرية لعشرات الالاف من الكيلومترات عن شواطئها وتصرح ان هذا دفاعا عن أمنها القومي. قواعدها في الفلبين لم تكن للدفاع عن الفلبين بل كانت في محاولة لإحتواء الصين وتنامي دورها الاقتصادي خاصة على الساحة الدولية. وكذلك لقواعدها في كوريا الجنوبية التي أقامتها منذ خمسينات القرن الماضي في محاولة لتطويق الصين وروسيا ومنع توحيد شطري الكوريتين الجنوبية والشمالية. وارسلت اساطيلها الى بحر الصين الجنوبي ليس لحماية اليابان وحلفاءها في المنطقة إنما ايضا في محاولة لاحتواء الصين والسيطرة على الطرق البحرية التي تستخدم لايصال النفط الى اليها بمعنى التحكم في طرق امدادات النفط الى جانب مضايقة الصادرات الصينية.
عندما إرتات الولايات المتحدة أن الصين الصاعدة إقتصاديا والتي اصبحت تحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي تشكل التهديد الرئيس لهيمنها الامبريالية على العالم قامت بتوجيه ثلثي طواقمها واساطيلها البحرية الى المنطقة الاسيوية والمحيط الهادىء (الباسفيك). وكان هذا التطبيق العملي لما سمي في حقبة رئاسة الرئيس أوباما “التوجه الى آسيا” عام 2011 . نادرا ما تتم الاشارة في الصحافة الغربية عن تواجد 400 قاعدة عسكرية امريكية تحيط بالصين بالسفن والصواريخ وقوات من الجيش الامريكي على الارض في قوس يمتد من شمال استراليا عبر المحيط الهادىء الى اليابان وكوريا وعبر أوراسيا الى أفغانستان والهند.
والقواعد العسكرية أقيمت في منطقة الخليج حتى قبل الثورة الاسلامية في لإيران لم تكن لحماية الامرات والممالك الكرتونية هنالك إنما لحماية مصالحها في منطقة استراتيجية للغاية وتأمين السيطرة على منابع النفط وطرق إمداداته الى الاسواق العالمية والتحكم بأسعاره في هذه الاسواق. وربما القليلون الان يتذكرون قيام الولايات المتحدة بتشكيل ما أطلق عليه في سبعينات القرن الماضي “بقوات التدخل السريع” لحماية آبار النفط والاستيلاء عليها لضمان تدفق النفط اليها على اثر حرب 1973 حين اقدمت السعودية بالقيام بحظر جزئي على إمداد الولايات المتحدة بالبترول نتيجة ضغوط عربية وشعبية على آل سعود.