بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي |
يكاد الإسرائيليون الذين صدمتهم ظاهرة الطائرات الورقية والبالونات الحارقة الآتية من قطاع غزة، يصابون بالجنون والخبل، والخرف والهبل، فقد اعترتهم حالة هستيريا وغضب، وترقبٌ وخوفٌ، وتيهٌ واضطرابٌ وقلقٌ، فالسماء باتت تمطر لهباً وتسقط عليهم من عليائها كِسَفَاً، وترسل إلى الأرض نيازك مشتعلة، تنتشر نيرانها بسرعة، وترتفع ألسنتها عالياً، ويتصاعد دخانها الأسود والأبيض في كل مكانٍ، فتحرق الحقول والبساتين، والمزارع والأشجار، والبيوت والمساكن وكل ما تقع عليه وتصيبه، وهي حرائقٌ تتابع، ونيرانٌ تمتدُ، وهشيمٍ يزيدُ، وخرابٌ يتعاظم، وأضرارٌ تتزايدُ، والمستوطنون ينظرون إليها بعجزٍ، ويتطلعون إلى السماء بخوفٍ، ويسألون حكومتهم الحماية بيأسٍ.
وزاد في قلق الإسرائيليين وضاعف مخاوفهم، أنهم مقبلون على فصل صيفٍ قائضٍ شديدِ الحرِ، إذ يتنبأ خبراء الطقس أنه سيكون فصلاً حاراً ولاهباً، ترتفع فيه الحرارة إلى أعلى من مستوياتها في السنوات الماضية، ما يجعل الأجواء مهيأة لاشتعال الحرائق وانتشارها لأبسط الأسباب، خاصةً في الأحراج والغابات، فكيف في ظل وجود عوامل مساعدة ومواد قابلة للاشتعال، وهو ما توفره الطائرات الورقية والبالونات الحارقة، التي يتقن الجميع صناعتها، ويحسنون تزويدها بالمواد الحارقة والفتائل المشتعلة، الأمر الذي يجعل من احتمالية تزايد الحرائق في فصل الصيف أمراً متوقعاً وسهلاً، خاصةً أن الفلسطينيين قد أدركوا خطورة هذا السلاح وفعاليته، وشجعتهم عليه نتائجه وآثاره، ما يعني استمرارهم في استخدامه، بل وعزمهم على تطويره وتفعيله.
يؤكد المسؤولون الأمنيون والعسكريون الإسرائيليين للمستوطنين من سكان بلدات غلاف قطاع غزة مخاوفهم، بل ويزيدون في هواجسهم، عندما لا يترددون في إظهار عجزهم عن مواجهة هذا النوع الجديد من السلاح، الذي يُصنع بسهولة، ويُسَيَّرُ بقوة الرياح، ويُحَمَّلُ بمواد حارقة، ويُطَيُّرُه الصبية والأطفال، ويُطورُه الشباب والرجال، ويستطيع أن يصل إلى كل مكانٍ ويصيب كل الأهداف، فهو غير موجه ولا يمكن رصده، كما لا يمكن إسقاطه أو اعتراضه، وضاعف من خوفهم أكثر تصريحات وزير حربهم أفيغودور ليبرمان الذي أكد صعوبة تغيير سلوك سكان قطاع غزة، رغم أن جيشه يحاول إسكات الفلسطينيين ومنعهم من إطلاق هذه البالونات “الملعونة”، ولكن هذا الهدف يبدو صعباً، ويستغرق الوصول إليه بعض الوقت.
أما رئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، الذي اصطحب معه وزير حربه وقادة أركان جيشه، في جولةٍ له إلى المدن والبلدات الإسرائيلية المتاخمة لقطاع غزة، وهي الزيارة التي جاءت في ظل مناورات قام بها جيشه في محاولة لمحاكاة عملية عسكرية واسعة إعادة احتلال قطاع غزة، هو بدوره أكد أنه لا سبيل لمواجهة هذا السلاح الجديد، ولكنه سيبذل جهوده مع أصدقائه وحلفاء كيانه، لإرغام الفلسطينيين على التراجع عن تهديد أمن وسلامة سكان الجنوب، وبدلاً من تطمين مستوطنيه إلى أن جيشه قد وعيَ الدرس وفهم المهمة التي سيقوم بها، قال لهم إن حكومته ستعوضهم عن كل ضرر، وستقف إلى جانبهم لمواجهة أي اعتداء على ممتلكاتهم ومحاصيلهم.
نشرات الأخبار الإسرائيلية المحلية المتعددة، التلفزيونية والإذاعية وعلى صفحات الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، كلها تنشر أخبار الحرائق، تعددها وتذكر مناطقها، وترصد آثارها وتبين نتائجها، وتجري مقابلات مع أصحاب المرافق المحترقة، وملاك الحقول المشتعلة، تسألهم عن حجم خسائرهم، وعن الأضرار التي لحقت بهم، وتستوضح منهم عما قدمته الحكومة لهم، وما حققه الجيش لضمان أمنهم وسلامتهم، وما إذا كانوا مطمئنين إلى خطط الجيش ووعود الحكومة، إلا أن المستوطنين الذين يتملكهم الرعب من الحرائق الجديدة، يرون أن إطارها يتسع، ومداها يكبر، وآثارها تزداد، وحكومتهم لا تملك حلولاً ناجعة لمواجهتها، وجيشهم ووزيره ورئيس أركانه يحاولون طمأنتهم بطريقةٍ أقرب إلى الخديعة منها إلى الحقيقة.
لا تتوقف هواجس الإسرائيليين ومخاوفهم عند حجم الخسائر ومدى الأضرار المالية التي تلحق بهم جراء كتل اللهب التي تسقط عليهم من السماء، وتنزل على رؤوسهم وكأنها الحمم، في تتابعٍ لا ينقطع، وتواصلٍ لا يتوقف، وهي خسائر كبيرة يقدرونها بعشرات ملايين الدولارات، ولكنهم يتحدثون عن آثارٍ نفسيةٍ وجوانب سلبية كبيرة تصيب المستوطنين وأطفالهم، جراء سقوط بعض الطائرات الورقية على المدارس والأسواق، ومناطق التجمعات السكانية والمحال التجارية، حيث تتسبب حالاتُ التزاحم والتخبط، ومحاولات الهروب والفرار للنجاة بأنفسهم، في حدوث صدماتٍ نفسية، وحالات خوفٍ ورعبٍ تترك آثارها على بعضهم هستيريا واضطراب، وارتباك وعدم اتزان.
لم يكد سكان مستوطنات الغلاف المتاخمين لقطاع غزة في شماله وشرقه، يستفيقون من كابوس صواريخ المقاومة الفلسطينية وقذائفها، التي كانت تسقط عليهم من حينٍ لآخر وقت الحرب وخلال عمليات الرد والانتقام، وتصيب بعض مناطقهم، وتثير الرعب بينهم إن لم تتسبب في مقتل بعضهم أو إصابتهم بجراح، يرون أن هذه الصواريخ أقل خطراً، حيث كان يمكن السيطرة على بعضها أحياناً واعتراضها، أو كان يسهل تنبيههم وتحذيرهم منها، قبلها أو أثناءها، ليتسنى لهم الهروب إلى الملاجئ، والنجاة بأنفسهم من آثارها.
لهذا لم يستفق الإسرائيليون بعدُ من صواريخ المقاومة، ورعب الأنفاق، وقلق القنص، وخطر الطائرات المسيرة والغواصات القادمة، حتى جاءتهم هذه “الفِنعة … التقليعة” الفلسطينية الجديدة، التي سيعيشون فيها طويلاً، وسيعانون منها كثيراً، لأن الفلسطينيين سيلجأون إليها دوماً، وسيستخدمونها عند كل مواجهة، ولكن بعد تطويرها وتحديثها، واكتساب مزيدٍ من الخبرة فيها، والممارسة الأكثر دقة على استخدامها.
خوف الإسرائيليين يجب أن يكون أكبر وأعمق، وأكثر بعداً وجديةً من الطائرات الورقية والبالونات الحارقة، حيث أن الفلسطينيين الذين يبتدعون كل يومٍ وسائل مقاومتهم من طين أرضهم، ومن تراث بلادهم، ومن عادات أطفالهم وأحلام أولادهم، وينسجونها من أثواب نسائهم وحقائب تلاميذهم، فإنهم سيأتون غداً بجديدٍ آخر، وسيبتدعون وسائل أخرى، تقربهم من وطنهم، وتعيد لهم الأمل باستعادة أرضهم، والعودة إلى قراهم وبلداتهم، فهؤلاء هم الفلسطينيون لمن لا يعرفهم، لا ينامون على الضيم، ولا يسكتون عن الظلم، ولا يقبلون بالهوان، ولا يعيشون بذلٍ، ولا ينسون الحق، ولا يفرطون في الأرض، ولا يتخلون عن الوطن.