يصادف يوم السابع والعشرين من شهر رجب ذكرى البعثة النبوية(1)، هذه المناسبة الكبرى التي تعلقت بأفضل وخير خلق الله سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد بن عبد الله (ص)، اكتنفها تحريف شأنها في ذلك شأن أحداث تعلقت بسيرته، لم تمر عليها أيادي المحرفين دون أن تضع فيها بهتانها، لتُشْكِل مختلقاتها على كل عاقل، فيقف عندها حيران متسائلا: كيف يمكن أن نصدق ما جاء فيها من محدثات مخالفة تماما مع سنن الله في بعثة أنبيائه ورسله.
مناسبة العظيمة الشأن، غبنها كثير من الحفاظ بعنوان ليس موافقا لها، فقالوا إنها ليلة الإسراء والمعراج، مع أن هناك روايات معارضة لها تقول تلك الحادثة ليست في ذلك التاريخ، فقال بعضهم أنها وقعت بعد بسنتين أو ثلاث سنين من البعثة في شهر ربيع الأول، وقال آخرون أنها وقعت قبل الهجرة بستة أشهر في 17 من شهر رمضان، وقال غيرهم أنها كانت ليلة السبت لسبع عشرة ليلة من ربيع الأول(2) هذا الخلاف لم يكن سوى مخالفة لما أجمع عليه أئمة الهدى من أهل بيت النبوّة عليهم السلام من كونها مناسبة البعثة النبوية، وأكرم وأعظم بها من ذكرى إلهيّة، تجلّت فيها رحمة الله والطافه الظاهرة والخفيّة.
ومن أصدق قيلا من بيت اصطفاه الله وطهره، ليكون أصحابه حفظة الوحي، وحملة الشريعة وأحكامها إلى الأجيال المتعاقبة، فيكون اعتماد العنوان الذي طرحه أهل البيت للأمّة، من كون المناسبة متعلّقة بذكرى بعثة سيد الرسل صلى الله عليه وآله، غير قابل للتشكيك في ثبوتها، مقابل اختلاف التواريخ الأخرى في تحديد يوم الاسراء والمعراج.
وبعودتنا إلى الرواية التي أخرجها عدد من الحفاظ بخصوص بعثة النبي صلى الله عليه وآله، نجد أنّ تحمل إساءة لتلك الحالة العالية القيمة، بدسّ ما لا يمكن لمؤمن أن يقبله، مما أظهر فساد تلك الروايات، في نقل حادثة ذلك اليوم العظيم بأمانة، وكان من باب أولى نقلها من مصدر كان ملازما للنبي، ومرافقا له خطوة بخطوة في مكة لا يتركه أبدا وهو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو الذي قال: (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري.)(3)
أخرج البخاري في باب التعبير، عن عائشة قالت في حديث طويل أختصر منه مقدار الإستدلال:
“… فكان صلى الله عليه وآله وسلم يأتي حراء فيتحنث فيه (يتعبد) الليالي ذوات العدد … حتى فجئه الحق، وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني(3مرات)… فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، حتى بلغ ما لم يعلم، فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: يا خديجة مالي؟ وخبرها الخبر، وقال قد خشيت على نفسي …. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي بن قصي… فقالت له خديجة: أي ابن عمي اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال ورقة: هذا الناموس الذي انزل على موسى يا ليتني فيها جذعا أكون حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو مخرجي هم. فقال ورقة: نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا…(4)
كيف يمكننا من خلال هذه الرواية أن نقنع بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدري أنه مرسل حتى نزول جبريل عليه؟ فيكون يحي وعيسى عالمين بنبوتهما ناطقين بها، وهم صبية في المهد ولم يبلغا الحلم، بقوله تعالى: ” يا يحي خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا” وقال أيضا: ” إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا”. وأمّن من الخوف موسى بقوله: ” لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون”. فكيف يكون لرسول الأعظم مستثنى من ألطاف الله خائفا مرعوبا، إلى ذلك الحد الذي صورته الرواية، ومن سنن الله تعالى أن لا يخاف لديه المرسلون؟
ولم تقف الرواية عند ذلك الحد من الدس والتشويه، لتتواصل إلى حد إستبلاه وتقزيم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالادعاء عليه فوق ذلك كله أنه لا يدري ما يفعل به، ولا هو واع بما يجري له، فأخذه إلى ورقة بن نوفل، وتفسير ورقة لما حدث له بأنه الوحي الذي نزل على موسى، لكن لماذا قال ورقة موسى ولم يقل عيسى وهو الذي ذكرت الرواية انه كان رجلا يتنصر ويكتب الإنجيل وعيسى هو آخر الأنبياء، وهو الذي من المفترض أن يستشهد به قبل موسى؟ ليس هناك من تفسير سوى القول، بأن واضع الرواية يعتقد أن الإنجيل نزل على موسى، فتأمل.
ثم تأتي الرواية بمزيد من تجاهل لمقام النبوة، فتفسح المجال لورقة في نبوءاته مقابل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعلمه بأن قومه سيعادونه وسيخرجونه، وهو لا يدري، ومع موت ورقه يفتر الوحي، ولست أدري هنا، إن كانت فترة الوحي حزنا على ورقة، أم ترددا في بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ هكذا إذا يضعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحطون من شخصه ونبوته، ويتباهون بالرواية، دون التعمق فيما تحويه من دسائس وخبائث، من استخفاف بالله وملائكته ورسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، هذا غيض من فيض، وتذكير لمن تنفعه الذّكرى، بأنّ تراثنا مليء بترّهات يجب مراجعتها، وإبعادها عن نشئنا، حتى لا يتلوث عقولهم بأكاذيب، ليست من الدين والعقيدة في شيء، أشرت إليها من خلال هذه الرواية بهذه المناسبة، لتكون عيّنة جديرة بالإعتبار، وفيما يحيي شيعة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله هذه الذكرى العزيزة يتجاهلها مخالفوهم، كأنه لا مكان لها عندهم، وهذا المقال تذكير لمن سلك طريق العبرة، وإتماما للحجة على من أصرّوا على البقاء في مستنقع الخرافة والأكاذيب، لا يهمّهم أحسن الراوي والحافظ أو أساء في نقله، ما رأى فيه أعداء الإسلام، مستمسك الطعن في الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
المراجع
1 – منتخب كنز العمال المتقي الهندي بهامش مسند أحمد ج3ص362/السيرة الحلبية الحلبي ج1 ص384
2 – يوم الإسراء والمعراج https://www.aqaed.com/faq/3314/
3 – نهج البلاغة الإمام علي بن أبي طالب ج2ص157
4 – جامع أحاديث البخاري باب كيف بدأ الوحي ج1ص7ح3 وكتاب التفسير سورة اقرأ ج6ص173ح4953