لا يختلف معي اثنان بالجزائر أو خارجها على أن فرنسا كانت بوصفها دولة استعمارية أحد أسوأ أنواع النماذج المحتلة لانتهاجها الإبادة وسيلة إخضاع وبسط نفوذ ومن أوجه الإبادة المختلفة بالجزائر التجارب النووية، فقبل أيام مرت علينا ذكرى قرار فرنسي والذي ترك بالجزائر ما يمكن أن نطلق عليه الإرث الاستعماري المشع،حيث أنه بتاريخ 15 جويلية من سنة 1957 قرر وزير الدفاع الفرنسي “اندري موريس” إقامة مركز التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية و بعد هذا التاريخ بدأت معاناة الشعب الجزائري في الصحراء إلى يومنا هذا …
وإذا كانت بعض الدول الكبرى كفرنسا قد اختارت إنتاج أسلحة الدمار الشامل لتعزيز قدرتها النووية ودخول نادي الدول النووية لحماية نفسها من الغزو كما حدث لها خلال الحرب العالمية الثانية مع الاحتلال النازي، وبسط سيطرتها على العالم من خلال امتلاكها للأسلحة النووية بعدما نجحت في تجربتها على أراضي الغير في ظروف الحرب والاستعمار كحال الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا – الأولى باليابان والثانية بالجزائر- بعدما تركت أثار جرائمها المستمرة والمدمرة على حياة ملايين من البشر والمساحات الواسعة من البيئة لهذه البلدان على مدى عقود طويلة من السنين في شكل تلوث دائم قاتل ومرعب .
فرنسا التي استباحت حرمة الأرض والإنسان لا يمكن مقارنتها مع غيرها ، مارست سياسة التعتيم المتعمد على الأعداد الحقيقية للضحايا وسير التجارب ومديات الطاقات التفجيرية وكميات النفايات التي خلفتها تجارب التفجيرات النووية وعمليات دفن النفايات المشعة، وأخفت وأحجمت الإحصائيات المتعلقة بالموضوع ومنعت النشر العلمي الموضوعي لضمان استمرار إخفاء ومنع المعلومات التي يحتاجها البحث العلمي لمتابعة تغيرات البيئة وتقدير الأضرار الحقيقية التي تواجهها المنطقة ومكوناتها الحيوية .
سلسلة التفجيرات النووية الفرنسية المتعددة الطاقات امتدت لسنوات طويلة متجاوزة حدود المعقول، بدأتها منذ 13 فيفري 1960 تاريخ أول تجربة لتفجير نووي فرنسي عندما فجر الاحتلال الفرنسي قنبلة بقوة 70 كيلوطن في الجو، وهو ما يعادل أربعة أضعاف قنبلة هيروشيما”، في عملية سُميت بـ (اليربوع الأزرق) بمنطقة “رقان” الصحراوية جنوب الجزائر،تلتها تجربة في 01 أفريل 1960سميت “باليربوع الابيض” فجرت بطاقة حوالي عشرة كيلو طن، ثم تلتها تجربة ثالثة في 27 أفريل 1960 سميت “باليربوع الاحمر”، وتجربة رابعة سميت “باليربوع الاخضر” في 25 أفريل 1961 وبطاقة حوالي 10 كيلوطن ، واصلت فرنسا تجاربها التفجيرية النووية بمنطقة الهقار باختيار جبل “ان ايكر” بمحيط 40 كيلومتر يمتاز الجبل بصلابة صخوره وصفت التجارب بأنها باطنية (عددها 13 تجربة واحدة منها اعتبرت فاشلة أجريت بتاريخ 22 مارس 1965) أجريت هاته التجارب للفترة مابين (1961-1966).
بعد ثلاثة أيام من التفجير النووي الاول عام 1960 أكّدت السلطات الفرنسية أنّ النشاط الإشعاعي في المنطقة بأسرها غير مؤذٍ بتاتاً لأن مستوياته هي أدنى بكثير من مستويات الإشعاعات الخطرة ، لكنّ وثائق رفعت عنها السرية في عام 2013 كشفت أنّ مستويات النشاط الإشعاعي كانت أعلى بكثير من تلك التي أقرّت بها باريس في ذلك الوقت، وأنّ أضرارها طالت غرب أفريقيا بأسره وجنوب أوروبا ،أما المواد التي استخدمتها فرنسا في تجاربها النووية فكان أغلبها من (البلوتونيوم ) شديد الإشعاع يستمر إشعاعه لأكثر من 4.5 مليار سنة ، بالإضافة إلى مادة (اليورانيوم) التي يستمر إشعاعها إلى أكثر من 24 ألف سنة.
حيث أُصيب نتيجة هذه التجارب النووية أكثر من 40 ألف نسمة بالإشعاع بين عامي 1960 وَ 1966، جراح تلك التجارب لم تندمل بعدُ ويعاني سكان رقان من تفشي التشوهات الخلقية خصوصا لدى المواليد الجدد إضافة معدلات كبيرة من الأورام الخبيثة والتعقيدات الجينية المختلفة وتلتزم الحكومة الفرنسية الحالية الصمت تجاه هذه القضية رغم أن المنطقة لم تكن فارغة من السكان ،إذ أن المشكلة الرئيسية لا تكمن في تأثيره الخطير على الجسم الحي فقط وإنما تعدي هذا التأثير إلى الأجيال اللاحقة بسبب التأثيرات الوراثية التي يحدثها ،فضلا عن الخراب البيئي خصوصا ما تعلق بمشكلة التخلص من النفايات النووية المشعة المدفونة .
رفع متظاهرون في عديد المناسبات المتصلة بذكرى التفجيرات النووية شعارات تندد بما فعلته فرنسا بالجزائر واستخدامها للجزائريين “كفئران تجارب في الصحراء الجزائرية خلال المرحلة الاستعمارية – استخدام 42 ألف جزائري كفئران تجارب حسب الكاتب الفرنسي برينوباريلو- و يطالب الجزائريون كلما حلت ذكرى هذه التفجيرات بتخصيص تاريخ 13 فبراير- ذكرى أول تجربة سنة 1960-، يوم وطني لضحايا هذه التفجيرات التي وصفوها بـ”الجريمة ضد الإنسانية”. وبتحمل السلطات الفرنسية مسؤوليتها عن تلك التجارب المدمرة للإنسان والمحيط الحيوي للمنطقة وكذا في مجال جمع النفايات، التي خلفتها تفجيراتها النووية بالصحراء الجزائرية ، وعلى المياه الجوفية بها ، تقول المحامية الجزائرية “فاطمة الزهراء بن براهم” في هذا الشأن “إن التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر، تمثل جريمة كاملة ضد الإنسانية، وتظل غير قابلة للتقادم”، مشيرة إلى أنه يجب محاسبة فرنسا ضمن الأطر القانونية والأعراف الدولية، كما أعلنت الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان عام 2017 عن رفع دعوى قضائية ضد فرنسا، على خلفية هذه التجارب النووية وطلبت مساعدة الجزائريين بالخارج لإيجاد محامين مختصين لجرها للمحاكمة بالهيأت الدولية .
وهذا يعني أن مطالب الاعتراف بهذا الجانب من الجرائم لاستعمارية لا يزال حاضرا على المستوى الشعبي كما الرسمي، وبهذا الموضوع أكد “الطيب زيتوني “وزير المجاهدين – قدامى المحاربين في حرب الاستقلال ضد فرنسا- قبل شهر فيفري الماضي أنّ “هذه المأساة تندرج ضمن السجلّ الدموي للمستعمر الفرنسي الحافل بالجرائم والمجازر التي اعتمدها للنيل من شموخ الشعب الجزائري”،ويضيف “الطيب زيتوني”: “وهي دليل على الجرائم المقترفة في حق الإنسان والبيئة الصحراوية والتي ما تزال إشعاعاتها النووية تلقي بأضرارها الوخيمة على المحيط العام”،وشدّد الوزير “زيتوني” على أنّ خطة عمل الحكومة “تتناول بصراحة ملف التفجيرات النووية الفرنسية بالجزائر، وهو من ضمن الملفات الكبرى العالقة، أوقفت الجزائر التفاوض بشأنها مع الطرف الفرنسي لعدم لمس جدية فرنسا في تلك المفاوضات و التي يتوجب تسويتها لإقامة علاقات طبيعية بين باريس والجزائر”. وقال الوزير خلال زيارة إلى منطقة رقان (جنوب البلاد) في ولاية “أدرار” حيث جرت التجارب النووية الفرنسية بين عامي 1960 و1966 أن هذه التجارب كانت “جريمة استدمارية ضد الإنسانية ارتكبت ضد الأبرياء من شعبنا وأن تسوية ملفها مطلب رسمي ثابت للدولة الجزائرية إلى جانب كونه مطلبا شعبيا لكل الجزائريين”
إذا الأمر بالنسبة للموقف الجزائري الشعبي والرسمي واضح المطلب ولا غبار عليه ، في حين الجانب الفرنسي لم يشر خطاب ألقاه الرئيس “إيمانويل ماكرون” بشأن السياسة النووية الفرنسية في ففيفري 2020، ولو بكلمة واحدة للموضوع، فيما تؤكد لجنة التعويضات الفرنسية أنها استجابت للمطالب التي تفي بالمعايير المنصوص عليها في القانون سواء فيما يتعلق بتعويض الضحايا أو تطبيع العلاقات السياسية الفرنسية الجزائرية بشكل كامل ، ما يعني أن بالنسبة لفرنسا تنظر للأمر من ناحية تعويضات مالية بملايين اليورو، وهو الأمر الذي لمسه الجزائريون من عدم جدية بالملف لجرائم لانقاش فيها ارتكبتها فرنسا حينما كانت قوة استعمارية ، وبالتالي تلاعب بالمفاوضات أدت إلى توقفها كما أشار لذلك وزير المجاهدين “الطيب زيتوني “.
إن تكريس الأمية النووية والجهل من طرف فرنسا عندما يتعلق الأمر بقراءة ظروف الحاضر والمستقبل للمناطق التي ابتليت بأخطار المواد المشعة في أراضيها وسياسات إعلامية تضليلية عن قصد وسياسة التعتيم المتعمد لسير التجارب وضحاياها وكميات النفايات المشعة وعمليات دفنها وإخفاء ومنع المعلومات العلمية الضرورية للبحث العلمي لتقدير الأضرار ووسائل جبرها وغيرها ،لهو جريمة إضافية لا تقل خطورة عن الأولى ، ما يزيد القلق والاحتقان كما يمكن القول أخيرا أن الظروف الدولية وتطور وسائل الاتصال والتزام الدول باتفاقيات دولية لن يبقي مأساة التجارب النووية الفرنسية بالجزائر القريبة والبعيدة مخفية إلى الأبد.