بينما تموج منطقة الشرق الأوسط في أمواج متلاطمة من الاضطرابات السياسية والأمنية، يسير الكيان الإسرائيلي بخطوات ثابتة في ترسيخ حضوره داخل القارة الإفريقية، مستند في ذلك إلى حزمة من الأدوات والإستراتيجيات التي نجح من خلالها في فتح قنوات اتصال دبلوماسي مع دول وشعوب كان من الصعب قبل ذلك الحديث عن أي انفتاح بينه وبين تل أبيب، إسرائيل تعود إلى إفريقيا بشكل كبير، وإفريقيا قد عادت إلى أحضان إسرائيل من بوابة “التطبيع”..
إنّ القراءة الإستشرافية لمسار محاولة تعميم التطبيع على كامل المنطقة المغاربية، تقود إلى الاستنتاجات الآتية؛ إنّ تحقيق الأهداف المدرجة على الأجندة الإسرائيلية، لا يمكن أن يتم إلا عبر إغراق بعض الدول في مستنقع التطبيع؛ الأمر الذي يحتاج إلى بوابات اختراق للبلدان المغاربية، تنظر إسرائيل إلى دول المغرب العربي؛ ضمن مشروع التطبيع والتفتيت العام، والمستند إلى محاولة تحقيق أهداف راهنة تتلخص في أهداف جيوستراتيجية وتتمثل في عناصر تتعلق بشكل مباشر بالصراع العربي الصهيــ.ـوني، وبمحاولة تطوير تغلغلها في عمق القارة الإفريقية والإمساك بغربها، وهي: إيجاد مرتكز للتغلغل في القارة الإفريقية من جهة الشمال، حيث ترى أن التطبيع سيلعب دورًا حيويًا في تكريس دورها في كافة القارة الإفريقية، وفي هذا الصدد أعطت أهمية كبيرة للتطبيع مع المغرب، و أن تلجأ اسرائيل وبعض القوى الغربية إلى العمل على الكسر بالقوة للدول المغاربية الرافضة للتطبيع، والتي تحوز من الامكانيات ما يؤهلها لأن تكون طرفًا مؤثرًا في الصراع العربي الإسرائيلي، وفي هذا السياق؛ جاء تدمير ليبيا؛ عبر تداخل أدوات متعددة، والمتوقع أن يتم التركيز في المرحلة القادمة على الجزائر التي قد تجد نفسها أمام ضغوط عديدة خارجية يواكبها تحريك بعض الأدوات الداخلية، و أن تتكثف محاولات دفع تونس في مسار التطبيع، بوصفها عقدة الربط بين بلدان المغرب العربي، ولأن الإمساك بها يعني توفير الظروف الملائمة لاستكمال مشروع الكسر للجزائر، وفي ذات الوقت الفصل بين مشرق المغرب العربي ومغربه ، وفي سياق هذه المحاولة؛ نستطيع تفسير كثافة اختراقات ومحاولات التطبيع الذي تتعرض له تونس الآن؛ من بوابة الاقتصاد تحديدًا،..
التطبيع بين الكيان الاسرائيلي ومملكة المغرب يكتسي خطورتين، بغض النظر عن آثاره وانعكساته على القضية الفلسطينية والأمن القومي وما يمثله من تردي أخلاقي وقيمي، تتلخصان بأمن المغرب واستقراره، مع الاخذ بنظر الاعتبار المشروع والاطماع الصهيـ.ـونية التوسعية، وايضا بأمن عموم المنطقة واستقرارها، امتدادا من الصحراء الغربية الى الجزائر الى عموم القارة الأفريقية التي تمثل صفقة القرن لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية للاستحواذ على ثرواتها..، و من المفهوم الجيو-استراتيجي، فإن المغرب بات يشكل بوابة الكيان الصهيـ.ـوني إلى شمال إفريقيا ومن ثم إلى القارة السمراء ككل، و في الوقت الذي يقدم الكيان الصهيـ.ـوني نفسه بأنه القوة الوحيدة في الشرق الاوسط، فإن المغرب يقدم نفسه من جهة أخرى بأنه الدولة الوحيدة التي تحقق أحلام الكيان في شمال القارة الأفريقية..
الحقيقة أن الوجود الاسرائيلي في إفريقيا ليس جديدا ولكنه يتزايد بشكل لافت ولعلّه ليس من باب المبالغة القول بأن اسرائيل تطوّق أبواب الديبلوماسية العربية من إفريقيا لكن الخطير في الأمر هو موقف العرب مما يجري في القارة الافريقية وهو موقف أقل ما يقال عنه أنه يتّسم بنوع من اللاّمبالاة وكأن هذه القارة جزيرة معزولة تسكنها الأرواح رغم أنها تشكّل مجالا حيويا وحديقة خلفية للعديد من الدول الافريقية و العربية ، وبالرغم من الأهمية الاستراتيجية لهذه القارة بالنسبة الى الدول العربية بما في ذلك تلك الدول الواقعة جغرافيا في قارة آسيا إلا أن الاهمال ظلّ عنوان السياسة العربية تجاه إفريقيا.. الآن القوى الاستعمارية تتهافت وتتسابق على افريقيا كمنطقة غنية بالموارد الطبيعية لنهب ثروتها ومعادنها وأراضيها الخصبة، وهذا هو معنى التغلغل والتسلل الصهيــ.ـوني الى قلب افريقيا مستغلة هذا الضعف العربي.. و إنّ الدور التخريبي نفسه الذي قام به كيان الإسرائيلي في الأمة العربية، سيقوم به هو نفسه على المستوى الافريقي، إذ استغلت اسرائيل ارتباطها بالغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وركزت على إبراز أهميتها بالنسبة للسياسة الغربية وتحركها على المستوى الاقليمي والافريقي في اطار دورها في النظام العالمي الجديد الذي يُرسّخ مبدأ الهيمنة الاسرائيلية باعتبارها وجها من وجوه الهيمنة الغربية و الأمريكية ، و إنّ السياسة الاسرائيلية وسعيها المستمر لتطويق الوطن العربي من مختلف جهاته خاصة الاستراتيجية بغية التحكم في أمن كل الدول العربية والاضرار بعلاقاتها مع الدول الافريقية فضلا عما تحققه الدولة العبرية من مصالح اقتصادية وسياسية وعسكرية من خلال سياسته في أفريقيا.. لقد تأكدت أهمية القارة الإفريقية بالنسبة لإسرائيل و ثمة مميزات واضحة لسعي إسرائيل من أجل كسب أصدقاء لها في الكتلة “الأفروآسيوية” المتزايدة الأهمية، وبسعيها ذلك تكسر طوق العزلة الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها في الشرق الأوسط، ولهذا، فإن التغلغل الإسرائيلي في القارة الإفريقية تصاعد مع الزمن وتحوّل إلى قوة اقتصادية وسياسية تستقطب عددًا وافرًا من الدول الإفريقية، من هنا، يجب النظر إلى التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا على أنه: أولًا، عمل مكمل للنشاط الاستعماري في القارة الإفريقية، و ثانيًا، مجال للجهد الصهيــ.ـوني الهادف إلى كسب أكبر عدد ممكن من الأصدقاء وتأمين التأييد السياسي لإسرائيل في المحافل الدولية و تنفيذ سياستها التوسعية..
إنّ المطلوب اليوم في المرحلة القادمة هو مواجهة الدور التخريبي للكيان في افريقيا، و مواجهة الاستعمار ومشاريعه ولمواجهة الصهيـ.ـونية الاستعمارية التوسعية.. إن الواقع يفرض على البلدان العربية تبنّي مشروعا قوميا للتحرك على المستوى الافريقي دون حساب الربح والخسارة الآنية وتأجيل ذلك الى الامد البعيد، حتى يتمكنوا من استعادة دورهم في منطقة لهم بها روابط كثيرة فضلا عن تشابه الواقعين العربي والافريقي..و ثمة مؤشرات في غاية التعقيد تُبرز أن التغلغل الإسرائيـــلي في منطقة المغرب العربي من بوابة المملكة المغربية هو بداية لفوضى خلاقة أو حروب قادمة من الجيل الرابع والخامس تهدف إلى خرق النسيج الاجتماعي للدول تمهيدا لزعزعة استقرار شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، من خلال التطبيع و التحالفات مع القوى الأجنبية (فرنسا، إسرائيل) برعاية أمريكية ضد إرادة شعوب المنطقة.. و في ظل هذه المتغيرات الجيوسياسية و التحولات الإقليمية والدولية..، وإذا كانت الهواجس الأمنية حاضرة بقوة عند الحديث عن التغلغل الصهيــ.ـوني في الدول الإفريقية، فإنَّ الجانب الأخلاقي يجب ألاّ يغيب هو أيضا عن حساباتنا..و ليست الاعتبارات الأمنية ولا الجيوسياسية هي وحدها التي تستفزّ الأحرار من الدول العربية والإفريقية للتصدي للتغلغل الإسرائيـــ.ــلي المشبوه في إفريقيا، بل أيضا الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية والدينية؛ فالمكانة والشرف اللذين حصلتهما الشعوب الإفريقية في نضالها ضد الاستعمار يجب ألاّ يُلطّخا بالتعامل مع ربيبة الاستعمار؛ دولةِ الاحتـــــلال الإسرائيلي..