أطلق مشروع ترامب لحلّ أزمة «الشرق الأوسط» الذي أعلنه تحت عنوان «رؤية للسلام«، وروّج لها او تمّ التداول بها بعبارة «صفقة القرن» وكان جوهر هذه الرؤية إعطاء «إسرائيل» كامل أرض فلسطين التاريخية على مراحل ولا تستثني منها سوى قطاع غزة، أما ما تبقى شاملاً حق الفلسطينيين بأرضهم وحقهم بالعودة وحقهم بكيان سياسي على تلك الأرض، فإنّ كلّ ذلك تبخر مع المشروع الترامبي ذاك. هذا المشروع الذي رأى صاحبه انّ نجاحه وتثبيته بما يؤسّس لـ «إسرائيل» النهائية في فلسطين ولتصفية قضية فلسطين نهائياً، رأى أنّ ذلك يستحيل حصوله ما لم يتمّ اعتبار «إسرائيل» جزءاً أساسياً من المنطقة وإقامة علاقات طبيعية بينها وبين دول المنطقة العربية ضمن ما يروّج له تحت عنوان «التطبيع«.
فالتطبيع الذي تريد أميركا و«إسرائيل» فرضه يعني أموراً ثلاثة أوّلها اعتراف من الدول العربية والإسلامية بـ «إسرائيل» كدولة شرعية، الثاني اعتراف بنهائية هذا الكيان اليهودي وحقه في التعامل مع المحيط بصفته الشرعية النهائية، والثالث إسقاط أيّ مطالبة أو مراجعة بالأرض والثروة التي وضعت «إسرائيل» يدها عليها، ما يعني أنّ التطبيع المطلوب لا يتوقف عند إسقاط صفة العداء القائمة بل يتعدّى به الأمر الى التعامل الطبيعي بين الطرفين المتبادلي الاعتراف ببعضهما كدول نهائية، ويتطوّر الى حدّ إمكان إقامة التحالف بينهما ضدّ من يرتؤونه أنه عدو مشترك.
بيد انّ التطبيع الذي تعمل «إسرائيل» لفرضه على العرب، هو في الحقيقة يستعمل العبارة في غير محلها ومدلولها القانوني، فالتطبيع قانوناً يعني إقامة العلاقة وفقاً لطبيعة الأمور و«إسرائيل» قائمة فعلياً على أرض الغير وهي هنا معتدية ليس على فلسطين فقط بل على سورية حيث تحتلّ وتقتطع الجولان من أرضها وعلى لبنان حيث تحتلّ مزارع شبعا والغجر و 13 منطقة حدودية على خط الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة، وكلّ ما تقوم به «إسرائيل» يصنّف وفقاً للقانون عدواناً ويجعل منها عدواً وبالتالي انّ إقامة علاقة طبيعية مع «إسرائيل» قبل تصفية العدوان تعتبر استسلاماً وليس سلاماً ولا تطبيع قانوناً قبل إعادة الحقوق لأصحابها، وهذا الامر لا ينطبق فقط على الدول العربية المحتلة أرضها والمنتهَكة حقوقها فحسب بل وعلى جميع الدول العربية الموقعة على ميثاق الجامعة العربية وعلى اتفاقية الدفاع العربي المشترك.
وعليه… إذا كانت الدول التي وقعت سابقاً اتفاقيات سلام مع «إسرائيل» زاعمة أنّ تلك الاتفاقيات هي سبيلها الوحيد لتحرير أرضها، وهو تبرير لم يأخذ به معظم العرب خاصة أنه لم يحفظ حقوق الفلسطينيين، فإنّ إقدام دول لا تتصل جغرافياً بفلسطين المحتلة ولا تهدّد «إسرائيل» أرضها أو ثروتها، تجعل من الصلح والتطبيع بينها وبين العدو هدايا مجانية ونصرة لمعتد ظالم واستسلاماً موصوفاً مطلقاً له وهدراً لحقوق الشعب الفلسطيني وانتقالاً صريحاً من صفوف المطالبين بتحرير فلسطين وعودة شعبها إليها وتأمين حقوقهم، انتقال الى معسكر العدو، وهو انتقال لم يتأخر من بدأ بالتطبيع بممارسته كما فعلت الإمارات الخليجية بعد صلحها مع العدو والدخول مباشرة في حلف مع «إسرائيل» ضدّ إيران أحد أقطاب محور المقاومة الأساسيين والعاملة من أجل القضية الفلسطينية والتي تعتبر قضية القدس وفلسطين قضيتها المركزية.
وقد يرى في هذا التطبيع انقلاباً استراتيجياً وتحوّلاً دراماتيكياً في المشهد الإقليمي والدولي، تحوّل يوحي بأنّ صفقة القرن التي أطلقها ترامب لتصفية قضية فلسطين وحرمان شعبها من العودة اليها وحرمانه من كيان سياسي يحميهم، يوحي بأنّ هذه الصفقة تخط طريقها للنجاح، وبأنّ التطبيع مع الدول العربية انطلق قطاره وانّ المنتظرين لتوقيع الاستسلام مع «إسرائيل» أكثر من الذين وقعوا حتى الان وانّ هناك خريطة جيوسياسية جديدة في المنطقة تختلف عن سابقتها لأنّ في الجديدة «إسرائيل» تحالف وتقود وتحاصر بعد ان كانت معزولة ومحاصرة، فهل هذا صحيح؟
قد يسارع كثر من الأشخاص والكيانات الى تأكيد ما تقدّم والقول انّ القضية انتهت وانّ قطار التصفية المنطلق لن يستقرّ إلا في المحطة التي يعلن فيها انّ «إسرائيل» باتت كما حلم شمعون بيرس وكتب في مؤلفه «الشرق الأوسط الجديد»، وقال للعرب «بمالكم وعقلنا ننتج وننمي الثروات ونحكم العالم» (أيّ إسرائيل).
لكننا وبكلّ موضوعية لا نوافق على هذا الرأي والتصوّر، ونستمرّ متمسكين بالمبدأ الأساس القائل بأنّ «إسرائيل» كيان ولد خلافاً للطبيعة وانّ حياته وعناصر استمراره غير متحققة في ذاته، بل انّ وجوده مرتبط بعوامل خارجية ثلاثة لا يمكنه التحكم بها: عامل دولي يؤمّن له قوة الحماية المركبة، وعامل إقليمي متصل بالجوار اللصيق والبعيد، عامل أهل القضية متمثل بالفلسطينيين أنفسهم وهم الأساس.
ويقودنا هذا المنطق الى القول بأنه مهما تحشدت الدول التي تطبع مع «إسرائيل» فإنّ الأخيرة لا يمكنها ان تطمئن لمستقبلها ان لم تتحقق من وجود العناصر الثلاثة مجتمعة، وإذا كانت أميركا اليوم تعتبر «إسرائيل» خطاً احمر يتقدّم أمنها ووجودها على أيّ اعتبار فإنّ هذا الأمر ليس ثابتاً الى الأبد لأنه رهن بمتغيّرات ليس المجال هنا مكاناً لمناقشتها.
أما بالنسبة للتطبيع مع المحيط فإننا نميّز بين الحكومات والشعوب، ونعتقد جازمين بأنّ ما يكاد يصل الى شبه إجماع لدى الشعوب العربية والإسلامية يرفض أيّ تطبيع مع العدو وانّ جزءاً مهماً من حكومات عربية يتمسك بالرفض أيضاً، هذا فضلاً عن وجود محور المقاومة الذي لا يرفض التطبيع فحسب بل انه يعمل لحشد القوة من أجل التحرير، وانّ هذا المحور الذي أثبت في العقدين الأخيرين امتلاك قدرات غيّرت مسار الأحداث وأسقطت المشاريع الاستعمارية الكبرى ومنعت قيام النظام العالمي الأحادي القطبية بقيادة أميركا، انّ هذا المحور قادر رغم الملاحقة والحصار والتضييق الاستعماري عليه، قادر على الثبات والاحتفاظ بصفته ناصراً قوياً ومؤثراً للشعب الفلسطيني حاضراً للعمل معه في ميدان القتال حتى استعادة الحقوق.
اما العامل الأهمّ والركن المبتدأ في الطمأنينة والمعول عليه أساساً في إفشال مسار التصفية، فهو موقف الشعب الفلسطيني الذي أجمع بشكل لا يعتوره شك وأكد على التمسك بحقوقه دون مساومة… ومن يستمع لمواقف قادة الفصائل الفلسطينية المقاومة يستطيع ان يطمئن الى قرارها بالثبات على المبادئ والحقوق، وان لا استعداد عند أحد منهم للتنازل، وننوّه بالمناسبة بالموقف الفلسطيني هذا الذي تمّ التأكيد عليه في مؤتمر بيروت منذ أيام في الأسبوع الأول من أيلول/ سبتمبر 2020.
وفي الخلاصة نقول إنه في قواعد الصراعات المسلحة مبدأ يقول «لا ينتهي الصراع إلا إذا وقع الأطراف على وضع حدّ له باستسلام احدهما للأخر او صلح يعطي كل طرف ما تتيح له إمكاناته اخذه مما يراه انه حق له»، وبما انّ الفلسطينيين يرفضون التوقيع على الاستسلام و«إسرائيل» ترفض التراجع عن الاغتصاب، وبما انّ محور المقاومة مستمر في احتضان القضية، فإننا نقول انّ كلّ مراسم التطبيع التي يطبّلون لها ويحتفلون بها ورغم ما تحدثه من تغيير ظاهر في الخريطة الاستراتيجية للإقليم، رغم كلّ ذلك لن يكون لهذه العملية قيمة في صنع الاستقرار لـ «إسرائيل» وهو أصلاً تطبيع لم يغيّر في الخريطة الاستراتيجية الحقيقة للقوى، فمن يطبع اليوم كان حليفاً تحت الطاولة لـ «إسرائيل» منذ عقود وكلّ ما فعله التطبيع مع هؤلاء هو الانتقال من التخفي الى الجهر بالعمالة للعدو ونقول للمطبّعين المستسلمين انكم وان خنتم قضية فلسطين فان لفلسطين أهلها وأنصارها الذين لن يفرطوا بها وهي لن تكون إلا لأهلها.
أما «إسرائيل» فستبقى في أعماقها تبحث عن أمن لها ولن يتحقق في ظلّ الرعب الذي تعيشه بسبب خوفها من الصواريخ والانتفاضات والمواجهات والقتال على الجليل، وطالما انّ من يرفضها عرف الطريق الى امتلاك القوة بما فيها العسكرية والميدانية وامتلاك إرادة المواجهة والسعي لاستعادة الحقوق فإنّ «إسرائيل» لن تدوم مغتصبة حقاً وراءه من يطالب به دون هوادة… ففلسطين تضيع عندما يستسلم شعبها ويتنازل… وهوّلن يتنازل ولن يُترك وحيداً.
_ أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي
(البناء)