تعمل الولايات المتحدة الأمريكية وفق استراتيجية الاحتواء لمحور المقاومة، وتشمل هذه الاستراتيجية كل العمليات والأدوات ما دون مستوى الحرب المباشرة وفق برنامج بعيد المدى، ويرتكز مسار الاحتواء على ثلاثة أذرع أو حوامل: 1) ردع محور المقاومة ومنعه من المبادرة إلى المواجهة؛ 2) تفادي الاستدراج إلى المواجهة المفتوحة؛ 3) الحصار والعمليات النفسية الهادفة لاستنزاف وتفكيك محور المقاومة .
تمثل هذه الركائز الثلاث آلية متماسكة ومنسجمة تضمن استمرارية مسار الاستنزاف إلى أقصى مدى زمني ممكن، وصولاً إلى الهدف النهائي المتمثل بتفكيك وتبديد التهديد الذي يمثله محور المقاومة. تتساكن وتتوازى هذه الآلية بمسارها بعيد المدى مع مسار بناء القوة العسكرية في محور المقاومة، إذ أنها تفترض أن تراكم القوة سيبقى غير قابل للتوظيف والتسييل بفعل الردع وتفادي الاستدراج، وهما المرتكزين الأولين في الثلاثية اللذين يشكلان الحاضن الأمني لمسار الاستنزاف الاقتصادي والسياسي. تشهد دول المحور منذ حوالَيْ أربع سنوات، وتحديدًا منذ العام 2019، حركة تصاعديّة في مسارات الاحتواء الأمريكي، بدأت الدول تعيش ثقل تداعياتها، وإن بشكل نسبيّ ومتفاوت بين ساحة وأخرى.
إنّ السؤال المشروع ومحل الجدل هو حول الغاية النهائية من الاحتواء، وعليه، تبرز فرضيتان: 1) الاستمرار حتى تحقيق أهداف الاحتواء أو 2) الاكتفاء بتأثيراته المستمرة والاستفادة منها في خلق توازن مستدام.
الأولى: هل يكمل الأمريكي استراتيجية الاحتواء بحيث أنه يرى نجاعتها التدريجية ويريد الاستمرار بها وصولًا إلى الأهداف؟ وهي أهداف وفق طرح منظّري الاستراتيجية ذاتها تتراوح ضمن إطار “منع توسع قوة الخصم أو المنافس لكن دون الاصطدام بها؛ القيام بتفكيك المفاصل الأساسية للكيان المستهدَف، وانتزاع المبادرة منه أو تليين قواه تدريجيًّا بما قد يدفع إلى تغيير الموقف أو التفكّك من الداخل وصولًا إلى الانهيار بعيوبه والاختفاء” .
وعليه، ترى هذه الفرضية أنّ الأمريكي وصل إلى نقطة افتراضية تحليلية يفترض فيها أنّ حركته نجحت في إيجاد موانع أمام قوى المقاومة تحول دون نجاحها في التملّص العسكري الحربي أو الاقتصادي والبنائي تخلصه من سياسات الاحتواء التي تستنزفه.
الثانية: هل يكتفي الأمريكي بالتأثيرات القائمة والجارية وما ينتج عنها من ضبط لحركة محور المقاومة بفعل تجفيف الموارد وبناء حالة توازن “ستاتيكو”؟
هذا السؤال الإشكالي يمثِّل أساس فرضية تعتبر إن المحتوي الأمريكي يعمل على ضبط حركته ويهدف إلى الشراكة والتوازن في المنطقة، وتفترض أنّه ينظر للتوازن مع قوى المحور والتحرّك وفق أوراق القوة المتقاربة، ولا يهدف إلى تفكيك الطرف المحتوى والوصول إلى تحولات جذرية.
حتى اللحظة، فإن آلية التعامل مع أطراف المحور هي اللجوء إلى الضغط الهادئ واستخدام احتواء موازٍ للكل وإنّ فرضية تجميد الوضع أو فرضية مسعى التوازن تختزل النظر إلى أهداف المحتوي المتعددة ضمن المسارات الجارية، وتمثل نظرة جزئية لمسار الاحتواء؛ فهي تطرح رؤية أحادية السيناريو يلحظ المدى القريب أو المتوسط حصرًا، وتغفل حالة عدم الثقة المتبادلة والمخاطر المستقبلية والتهديدات الوجودية الناتجة عن عقود من الصراع الدامي.
في هذا الإطار بالذات، يتبلور النقاش والجدل القائم بين إسرائيل والولايات المتحدة حول تهديدين على الأمن القومي الإسرائيلي: الأول الاتفاق النووي الإيراني والثاني الضفة الغربية وتفجير الداخل الفلسطيني. وتتباين المقاربة للملفين في الآليات ما بين مسار الضغط الناعم والأقصى ومسار التشدّد واستخدام القوة. وتركّز الحركة الأمريكية على محاولة لاختراق الجمود في ملف المفاوضات النووية عبر إخضاع إيران من الداخل لتغيير سلوكها، وإدارة حالة التطرّف اليهودي الصاعدة.
تشكّل كل من عوامل الإخفاق والنجاح في برنامج الاحتواء معايير أو مؤشرات تحديد وجهة أو مسار الاستراتيجية؛ البقاء في حالة التجميد (حصار واستنزاف وخفض تصعيد) كمرحلة تمهيدية بحيث يعمل على تجميد كل الأطراف حتى لحظة انهيار الكل، أو الانتقال إلى مواجهة عسكرية بعد وصول تأثير الحصار إلى مستوى يضمن نجاح الحرب العسكرية الأمريكية المباشرة أو عبر الوكلاء، نظرًا لجفاف الموارد وتفكك البيئات الحاضنة، وقد يكون كافيًا مع وصول تأثير الحصار إلى هذه الدرجة اللجوء إلى الانقلابات السياسية والثورات الملونة لتحقيق تحولات جذرية.
وعليه، تقدم الفرضية الأخيرة، الاحتواء بهدف التفكيك النهائي للمحور، رؤية أشمل للاحتمالين: التجميد؛ واحتواء المنبع والموزّع والأطراف. تمامًا، كما لا تسقط من الحساب احتمال قدرة المقاومة على التملّص. بالمحصّلة، تتبنّى الفرضية الجمع بين القول بالسعي الأمريكي إلى التوازن، لكن بشكل آني مرحلي بالتوازي مع العمل على بناء القوة والقضم التدريجي وقوة الخصم؛ نظرًا لانعدام الثقة بين الطرفين وحضور المخاطر المستقبلية، مع الالتفات للنقاط التالية:
– تعزيز المسارات الناعمة الجارية التي يقوم بها الأمريكي لا يعني تجميد الوضع، وإنما حصار وتقييد لتمرير إدارة الصراع وفق شروطه.
– البقاء في مرحلة الجمود من شأنه أن يشكل تحديًا خطيرًا على الطرفين، فتوقف حركة القضم من قبل أي منهما، يعني خوض الصراع المستقبلي بشروط غير مؤاتية.
– إن الآليات والإجراءات التي لم تصل إلى نتيجة سياسية -على مدى العقود الماضية ضد إيران، وخلال الأعوام المنصرمة في دول المحور- قد تضع المنظّر والمنفّذ أمام قرار المواجهة في حال توفر الظرف الملائم الذي قد ينتجه الحصار في المستقبل المتوسط والبعيد.
– الإجراءات العملياتية المشتركة بين الأمريكي والإسرائيلي ما بين الردع وبناء القوة وإدارة توقعات الحرب عبر اتفاقيات عسكرية ومناورات نوعية.
متى ينجح الاحتواء؟
على الرغم من أنّ المحتوي يعمل وفق ديناميات محددة ضمن البعد الزمني؛ إلا أنه لا يستطيع أن يتوقع مسبقاً لحظة تحقيق الهدف وتفكيك الخصم، وإن كان يراهن على الزمن، ويتحرك بموجب بعض المحطات الزمنية الفاصلة، ويحدد المدة المتوقعة لنجاح سياساته وإجراءاته، ويعتمد الصبر واليقظة ويدرس مدى تأثرهما بالعامل الزمني، إلا أن التوقيت عنده يبقى غير معروف لمعايير عدّة؛ عنوانها العام أن سياسة الاحتواء تقوم على المواجهة بـ “الاحتواء الطويل الأمد والصبور، لكن الحازم والحذر”، مع عدم القدرة على التنبؤ المسبق بتحديد لحظة الصفر.
وبناء على ما تقدّم، يتحرّك العدو ضمن ضابطتين: منع الاستدراج، وردع الطرف الآخر؛ فيعمل على بناء القوة بالتوازي مع الاحتواء في عملية استباقية مع الخصم. إجراءات الاستعداد للحرب عند العدو هي إما لمنع الحرب ضمن مفهوم الردع والمنع، أو لوجود احتمال واقعي لديه لحصول الحرب. بيد أنّ اعتقاد الخصم الشرعي بمهمة إزالة إسرائيل عامل أيديولوجي لا يمكن للعدو تجاوزه، لأن العلاقة الأمريكية الإسرائيلية مهما شهدت من تجاذبات وإشكاليات إلا أنها لا تتخطّى الأمن القومي الإسرائيلي الوجودي، والنقاش بين الطرفين الأمريكي والصهيوني هو في إطار هذه الحدود.
وعليه، فإن الحركة الأمريكية يسكنها هاجس القلق من زوال الكيان المؤقت، الأمر الذي يشكّل دافعًا قويًّا للتقدّم لمنع الطرف الآخر من الوصول إلى هذا الهدف، خصوصًا مع التحولات التي شهدتها البيئة الفلسطينية برمتها منذ معركة سيف القدس، واستمرار عمليات الانتفاضة في التصاعد وفشل السلطة الفلسطينية في التعامل معها. لكن السؤال الذي لا بد منه:
هل يتحرّك الأمريكي في سياساته في منطقة غرب آسيا وهو يعتقد فعلًا أن سياسة المنع وبناء الردع عبر استراتيجية الاحتواء ستمنع الحرب ضد إسرائيل حتمًا ويرجح عدم حصولها مستقبليًّا أم العكس؟ إنّ النظر في مسار كل من البرنامج النووي الإيراني، والمقاومة الفلسطينية، والقدرات الصاروخية يوفّر العديد من المؤشرات التي ترجّح أنه لا يحتمل عدم حصول الحرب، خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار المشكلات العديدة التي تواجه برنامجه في مختلف دول المحور، ثغرات وتهديدات، وقدرة الخصم على الاستفادة من وقت الاحتواء في استنزاف المحتوي نفسه، في وقت تنمو معه تحديات المنافس الصيني والخصم الروسي. أضف إلى ذلك كله، المشكلة الصهيونية البنيوية التي يعاني منها الكيان المؤقت مما قد تستنزف مسار الاحتواء وتخرب المسار المتبّع، بما يحتمل معه أن يؤدي إلى الحرب أو إلى تفكّك الكيان ذاتيًّا.
من هنا، وبينما يركّز الدور الأمريكي عبر الاحتواء والاستنزاف على الدفع نحو السبق والنجاح في الاحتواء قبل نجاح الطرف الآخر في الاستنزاف وخصوصًا في البيئة الفلسطينية، يبرز السؤال المحوري في تحديد مآل الحركة الأمريكية رسم ومصير المنطقة وتعيين لحظة السبق: هل توازي إجراءات المحور الإجراءات الأمريكية الإسرائيلية في الزخم والسرعة؟