الثرمادور مصطلح استعمله ليون تروتسكي في كتابه “خيانة الثورة” للإشارة إلى الثورة المضادة.
يعود أصل المصطلح إلى الثورة الفرنسية، فالثرمادور هو الشهر الحادي عشر حسب تقويم الثورة الفرنسية ويمتد ما بين شهري تموز وآب، وهو الشهر الذي أُلقي فيه القبض على أعضاء لجنة السلامة العامة (قيادة الثورة) برئاسة مكسمليان روبسبير، وإعدامهم بالمقصلة.
يحلو للكثير من المثقفين الذين دعموا ما يسمى “الربيع العربي” اعتبار مآلات هذا الربيع، من دمار وخراب واحتلال، “ثورة مضادة” قامت بها التنظيمات التكفيرية، وبشكل خاص الإخوان المسلمين، التي انقلبت على “الثورة الشعبية” وحادت بها عن أهدافها.
يخفت صوت هؤلاء المثقفين أمام حقيقة الدور الذي لعبته تيارات يسارية وليبرالية اتخذت من العواصم الغربية مركزاً “لثورتها”، بل إن هذه التيارات كانت صاحبة الفضل في إسباغ صفة “الثورة” على المؤامرة التي طالت وطننا العربي.
هذه الرؤية، وإن كانت تنسجم إلى حد كبير مع الموقف التاريخي للتيارات الليبرالية واليسار التروتسكي، إلا أن الغريب أن بعض التيارات اليسارية والقومية التي تدعي الجذرية تبنت نفس المواقف.
الخلاف الرئيسي مع هذا التحليل لا يكمن بالنتيجة التي وصل إليها؛ الثورة المضادة، ولكن في اعتبار أن ما حدث كان ثورة أصلاً.
في كلاسيكيات الفكر الثوري يُشترط لاعتبار أي حركة جماهيرية، ثورة توفر شرطين: النظرية الثورية، والحزب أو الطليعة الثورية.
هذان الشرطان ضروريان لأي ثورة تسعى إلى تغيير نمط علاقات الإنتاج السائد واستبداله بنمط جديد أكثر تقدماً أو رجعية. ما سعت الرأسمالية إلى إقناعنا به عبر العقود الثلاثة الماضية هو أن هذين الشرطين قد عفا عليهما الزمن، وأن الوصول إلى الثورة ممكن من دون تحقيقهما.
لا يتعلق الأمر عند أصحاب فكرة “الثورة المضادة” بما حدث فعلاً، لكنه يتعلق إلى حد كبير بما كانوا يرغبون بحدوثه. لقد أفنى معظم هؤلاء حيواتهم منّظرين ومنتظرين ثورة لم تحدث، حتى جاء “الربيع العربي” فتعلقوا به، وعلقوا عليه آمال ثورتهم المغدورة.
هم يعرفون تماماً بأن ما حدث لم يكن ثورة، لكنهم يختارون تجاوز ما يعرفونه، والتمسك بما يؤمنون به، أو حسب والتر بنجامين “كل شيء يعتمد على إيمان الفرد بما يؤمن به”.
ما حدث في الواقع أن هؤلاء المثقفين وقعوا ضحية التاريخ، وفي معظم الحالات ضحية تاريخهم الخاص. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، وجد كثيرون ممن اعتنقوا الفكر الثوري أنفسهم أمام مفارقة فكرية وتاريخية. فمنحى التاريخ لم يمض تصاعديا من الاشتراكية إلى الشيوعية، ولكنه ارتد على أعقابه لتستعيد الرأسمالية قوتها وعنفوانها وتصبح قطب العالم الوحيد. لقد تهيأ للبعض، كما حدث لفرانسيس فوكاياما، أن نهاية التاريخ قد حُسمت لصالح الرأسمالية بنسختها الديمقراطية الليبرالية، ترافق هذا الوهم مع وهم أكبر منه ألا وهو انتهاء عصر الإيديولوجيا.
رغم أن أصحاب نظرية الثورة المضادة رفضوا ما ذهب إليه فوكاياما، وأعلنوا بمناسبة ودون مناسبة تمسكهم بخلفياتهم الإيديولوجية، إلا أنهم في تعاملهم مع “الربيع العربي” كانوا “فوكاياميين” حتى النخاع. لقد قبلوا دون مقاومة تذكر التعريف الليبرالي للثورات من أنها حركة احتجاج جماهيرية، تهدف إلى تغيير البنى الفوقية السياسية والقانونية بما يتفق مع شروط الديمقراطية الليبرالية، وأضافوا إليها “السلمية”، حسب نصائح جين شارب، لتتناسب مع القناع الإنساني الذي تختفي الرأسمالية وراءه. لقد أطلقوا على هذا المزيج “المسخ” اسم ثورة. واعتبروا أن ما حل بالدول المستهدفة من خراب وتدمير ناتج عن الصراع بين أنظمة الحكم والثورة المضادة، وأن ذلك لا يمس نقاءهم الثوري المزعوم.
إلى أين ينتهي بنا كل هذا التنظير؟
لن نستطيع إقناع من غاصوا في وحل “الربيع العربي”، تنظيراً وتمويلاً، بالتراجع عن مواقفهم ومكاسبهم، وقد لا نكون معنيين بالوصول إلى هذه النتيجة. ما يعنينا هنا هو رؤية هذا “الربيع” على حقيقته: فهو من جهة مؤامرة محاكة بدقة أعدتها الدوائر الاستعمارية الرأسمالية على مدى سنوات، وتصاعدت بعد الانهيار المالي عام 2008. هدف هذه المؤامرة الاستيلاء على ثروات دول الأطراف، وتدمير بنيتها التحتية لتعود إلى حالة الزبون المطيع للأسواق الرأسمالية. لم تفرق هذه المؤامرة بين النظم السياسية في البلدان المستهدفة سواء كانت موالية للغرب الرأسمالي كمصر وتونس، أو مناوئة له مثل سورية وليبيا.
ومن جهة أخرى كان “الربيع العربي” نفسه ثورة مضادة على نضالات الشعوب على مدى قرن من الزمان. لقد استطاعت الشعوب الانتصار على الاستعمار والشروع بالتخلص من البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ورثتها عن المستعمر. وحققت بعض الأنظمة الوطنية نجاحات معقولة باتجاه تحرير إرادتها السياسية والاقتصادية، وإطلاق عجلة التحول إلى اقتصاد الإنتاج والاكتفاء وفك أواصر التبعية للمركز الرأسمالي.
جاء “الربيع العربي” ليعيد الاعتبار للبنى السياسية والاجتماعية البائدة، سواء كانت إثنية أو قبلية، وليطرح مشاريع تقسيمية على قاعدة هذه البنى، وليعمل على ضرب البنى التحتية الاقتصادية وتدميرها للقضاء على فرص ومحاولات الدول المستهدفة تحرير اقتصاداتها من عجلة السوق الرأسمالي.
يشكّل فهم طبيعة وأهداف أي مشروع المدخل لنقضه ومن ثم هزيمته. وبمقابل “الثورة المضادة” التي صنعها “الربيع العربي”، لا بد من العودة إلى الثورة الحقيقية والأصيلة، والتوقف عن الاعتذار عن ماضينا الثوري، وإعطاء أنفسنا مظهراً ليبرالياً مقبولاً لدى الدوائر الرأسمالية. العودة إلى الثورة الأصيلة، لغة ومشروعاً، هي الخطوة الأولى في نقض مشروع الثورة المضادة. ثورة تحمل في مضمونها إيديولوجيا تقدمية وحدوية تحررية، إيديولوجيا منحازة للكادحين ومعادية للمركز الرأسمالي، مهما تغير شكله أو اسمه. ثورة ترسم خطاً يوحد جندياً يقف خلف بطارية صواريخ في بلدة الضمير، بشاب يتصدى للصهاينة في القدس، بمقاتل يتنقل بخفة فهد في محيط مأرب.
لم يعد الأمر حلماً، بل واقعاً نعيشه كل يوم، كل ما نحتاجه “أن نؤمن بما نؤمن به” لنحول الحلم إلى حقيقة وواقع نعيشه.
*كاتب من الأردن