تشهد الساحة العربية حراكا شعبيا كبيرا، تعلق بالسودان من اجل تحقيق مطالب شعبية، ضرورية للنهوض بمسيرة جد متعثرة لبلد، عانى من تبعات حكم عسكري، أقلّ ما يقال فيه أنه كاتم للحريات، وغير مستجيب لتطلعات الشعب السوداني.
السودان تمتلك من الامكانات المخزونة والغير مستغلة، ما يؤهلهما لتبوء مكانة متقدمة بين الدول العربية والافريقية، خلافا لما هي عليه الان من تأزم اوضاع اقتصادية، والحكومة السودانية فوق ذلك وضعت بلادها في ورطات عديدة، بدا من حرب الخليج الاولى، الى حرب اليمن اليوم، حيث ظهر انحيازها الى جانب قوى العدوان في الحربين، دون مراعاة لشيء من دين أو انسانية.
وبالتوازي مع ما ذكر فإن للسودان تاريخا حافلا بانقلابات العسكر، حيث سجل استيلاء ابراهيم عبود، سنة 1958 على الحكم بعد انقلاب على الحكومة المدنية، وقاد السودان على رأس حكم عسكري لمدة 6 سنوات، قبل الإطاحة به في ثورة شعبية في العام 1964، لكن الجيش أبى الا أن يعيد السلطة الى ضباطه ( الأحرار) – وما هم كذلك – بعد انقلاب قاده الدكتاتور جعفر النميري، سنة 1969 معطلا بذلك الحياة السياسية، بما فيها من دستور، وحل برلمان وأحزاب، واعتقال قادتها، تخللته على 16 عاما من الحكم، انقلابات فاشلة، سفكت فيها دماء كثيرة، ونجح عمر البشير سنة 1989 في الاطاحة بالحكم المدني، الذي فسح له (سوار الذهب) المجال بعد الاطاحة بالنميري، لكنه لم يدم سوى اربع سنوات، فحلّ البرلمان، والعمل بالدستور، والعمل الحزبي، وكان بحق كارثة على الشعب السوداني، حيث لم يختلف مع حكم النميري في شيء، وتاريخ العسكر في السودان، يثبت عقلية الاستبداد لدى قادته، باستثناء (سوار الذهب)، الذي كان بمفرده استثناء، وسط غابة من عبيد السلطة.
أما في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، فإننا لا زلنا نتذكر الحراك الشعبي الذي مضى فيه الشعب السوداني، انخداعا بما جرى في عدد من البلاد العربية، المنتفضة شعوبها على حكامها، لكن ذلك الحراك لم يكتب له الاستمرار، وما اجهضها في نظري سوى، اختلاف المعارضة الحزبية، ومحاولة ركوبها على الهبّة الشعبية العفوية، وفانطفأت جذوتها، لأنها لم تحضى باهتمام الدول الراعية للخريف العربي، فدخلت في جمود انهى حراكها.
وبعودة الوعي الى طلائع الشعب الحية من طلبة وعملة وموظفين، دخل السودان في ثورة حقيقية أفزعت أعداءه من عملاء في الداخل والخارج، فحاولوا التصدي لها لإخماد حركتها المتصاعدة بقمعها، مما أودى الى حد الان بحياة العشرات من المواطنين، وحصل العكس، واذا بالجماهير السودانية تزداد تكاتفا، وعزما على تغيير أوضاع بلادها، وهي التي تعرف كيف تثور، وتاريخها يشهد بثورتين شعبيتين، انهى العسكر طموح ابنائها.
والفريق (عبد الفتاح البرهان) هو قائد القوات البرية السابق والمشرف على القوات السودانية في اليمن بالتنسيق مع (محمد حمدان دقلو)، قائد قوات الدعم السريع السودانية، وهو أيضاً المفتش العام للقوات المسلحة السودانية، وقائد الانقلاب العسكري، وأمضى أكثر حياته مؤخراً متنقلاً ما بين اليمن والإمارات، كما أنه المرشح الأول لشغل رئاسة المجلس الانتقالي.
ويكشف اعلان النظامين السعودي والاماراتي عن دعمهما لقادة الإنقلاب الجديد في السودان، نوعا من الحماقة، أثبتت تورطهما في ازاحة عمر البشير ، وعبّرت عن مدى عمق الشراكة القائمة بين القيادة العسكرية السودانية، والنظامين السعودي والاماراتي، وتحركهما الخطير الذي اشرفا عليه في السودان، لم يكن بدافع ذاتي، فأمريكا اليوم تتحرك مع عملائها في المنطقة، من اجل تحقيق اهداف استراتيجية، تكون مقدمة للامساك بزمام السيطرة الكاملة على المنطقة باسرها، لن تكون ضحيتها الشعوب المستهدفة وحدها، وانما كل الذين اشتركوا في الاستهداف.
(البرهان) الذي حل محل سابقه وشريكه (ابن عوف)، قائد المجلس العسكري الانقلابي، هو من يشرف على قوات بلاده المشاركة في العدوان على اليمن، وقوامها يزيد على 5000 عسكري، قتل منهم لحد الآن ما يزيد على 1200، ما يجعل القيادة العسكرية تحت المساءلة القضائية، في حال سقوط النظام السوداني، وهم بطبيعة الحال طرف اساسي فيه، وارسال جنود سودانيين موكول اليهم حماية السودان من أي عدوان، واقحامهم في عدوان سافر لا مبرر له على شعب شقيق، جريمة حرب نكراء لا تغتفر، وخيانة شعب اخذ منه ابناؤه خداعا فماتوا معتدين، ولم تعد جثامينهم الى السودان.
ابن عوف الذي ترأس المجلس العسكري الانقلابي أرادته أمريكا للقيام بهذا الدور منذ 2009 حسب احدى وثائق (ويكيليكس)، ذلك أن المخابرات الامريكية اقترحته رئيسا بديلا عن عمر البشير، وها أن عملاءها ينفذون رغبتها، لكن ضغط الجماهير السودانية ورفضهم له، فرض ازاحته واستبداله ب(البرهان)، ورب سيء، ترك مكانه لمن هو أسوأ منه.
اكثر من نصف قرن من تاريخ الانقلابات في السودان، جعلت تجمع المهنيين وتحالف المعارضة يستوعبون الدرس، ويعلنون رفضهم للانقلاب وقادته ومقرراته، بعدما أثبتت الانقلابات السابقة، عقمها في تغيير أدوات الحكم، من التسلط والدكتاتورية، الى الحرية المدنية، في تحذير للشعب السوداني من خطورة الاستجابة للإنقلابيين، مطالبة الجماهير بالاستمرار في اعتصامها أمام مبنى قيادة الجيش، حتى تحقيق أهدافها في حكومة انتقالية مدنية.
لذلك فان استباق الجماهير السودانية الثائرة، في محاولة لإفشال ثورتها، والتمويه عليها بان الانقلاب الذي حصل بإزاحة عمر البشير، سيكون في خدمة الشعب، بينما كشف التصريح الاخير لقائد الانقلاب بقاء الجيش السوداني الى جانب قوى العدوان على اليمن، في تعبير عن التزام مقررات عمر البشير السابقة، يكشف عمالة الانقلابيين للنظامين السعودي الاماراتي.
جريمة ارسال الجيش السوداني للقتال في اليمن استجابة لطلب النظام السعودي، في شان لا يعنيه، لا يمكن ان تمر دون مساءلة ومحاسبة، وهذا ما لا يريد نظام العسكر هناك ان يحصل، وبانقلابهم الذي نفّذوه يعملون على منعه، وقد يصل بهم الامر الى سفك دماء الاف المدنيين السلميين السودانيين، المطالبين برحيل النظام باسره، ويبدو أن مجلس قيادة الانقلاب ذاهب الى فك الاعتصام بالقوة، بعد استنفاده سبل المناورة، فلمن ستؤول الكلمة في السودان؟ للشعب الذي عانى الكثير من أجل عتق رقاب مواطنيه؟ أم للعسكر فيذهبوا به الى حضيض الشعوب المغلوبة على أمرها؟ اعتقد أن دماء السودانيين لن تبقى رخيصة الى هذا الحد تسفك هدرا، وأن مستقبل أهله سيبدأ مبشرا بنجاح ثورته الحالية، رغم انوف أعراب الخليج.