الإثنين , 23 ديسمبر 2024
أخبار عاجلة

الجرح المفتوح…عرض لكتاب “الدم المسفوك”

إهداء الى روح الفقيد الصديق السرياني الطيب  صبري كيلون، وفاء لما وعدته به

(سَيْفوُ) وتعني باللغة السريانية (سنة السيف)، هي التسمية التي أُطلقت على المجازر او حملات الابادة الجماعية التي شنتها ادارة الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الاولى، على الشعب السرياني في منطقة اعالي مابين دجلة والفرات في الجنوب التركي واقسام من شمال العراق وسوريا.  لقد حدثت هذه المجازر في السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى  ولهذا جائت تسميتها بسنة السيف أو (سيفو).

لقد تمت التغطية الاعلامية لجريمة الابادة الجماعية للشعب الارمني بشكل واسع وقليل من لايعرف عنها.  وتم الاعتراف بها من قبل جهات دولية ومحلية عديدة عدا بالطبع الدولة التركية واحزابها المهيمنة.  لكن (بالنسبة لي على اقل تقدير) لم اصادف ان قرأت اوسمعت عن المجازر التي حدثت بحق الشعب السرياني.  وقد يكون ما كتب  عن هذه المجازر من ابحاث وكتابات، نشر في مجال ضيق ولم يكن في متناول الدائرة الواسعة من القراء العرب على اقل تقدير.

فيبقى هذا الجرح في ضمير الانسانية المعاصرة، مفتوح بسبب الصمت والانكار الاجرامي  والاغفال المستمر لما حدث للسريان وبقية المكونات من حملات التطهير.

بالنسبة لي فإن اول مرة يطرق سمعي حملة (سيفو)، كانت في حديث لي مع الصديق الراحل (صبري  كليون)، الذي وافته المنية في الثامن من تشرين الثاني 2020 بسبب مرض الكورونا.  فمنه سمعت أول مرة بمسمى (سيفو).  ومنه سمعت ما يعرفه هو عن حملة (سيفو) للتطهير العرقي ضد السريان والكلدان.  الملفت ان ما ماكان يتحدث به ليس من مصادر تاريخية فحسب، انما كونه هو من عائلة سريانية كانت تعيش في احدى القرى الكائنة في المنطقة التي شهدت حملات التطهير والمجازر الجماعية.  فكان يعكس في احاديثه ما عانته عائلته بالذات.  ومن اهم ما حدثني به هو ما سمعه من والده، الذي كان عمره 10 سنوات وقت الاحداث. حيث تعرض هو وافراد عائلته مع بقية سكان قريته لهجوم وحشي بالسيوف والفؤوس من قبل افواج القتل.  وقد نجى هو بأعجوبة، بعد ان استطاع الاختباء بين جثث القتلى. وبعد انتهاء المجزرة، خرج امام جامع القرية ليبحث عن مايمكن من الجرحى ومن الناجين، فوجده.  فأخبره الاخير عن اخته التي وجدوها على قيد الحياة ايضا.  فأخذهم الامام الى بيته ليحميهم ويخفيهم عن الجلاوزة. وهنا لايخفى بان الامام قد عرض نفسه ايضا للخطر في سبيل انقاذهما.  لقد شجعني هذا الحديث للبحث عن معلومات أوسع عن جرائم الدولة التركية بحق السريان وحملة (سيفو). ومن ضمن ما عثرت عليه كتاب (الدم المراق)،  بعدما قرأته وبعد سماعي بالرحيل المبكر للصديق صبري، فكرت بأن اكتب عن هذه المجازر من خلال  استعراض هذا الكتاب لتعريف القارئ العربي.

أسم الكتاب: “الدم المسفوك” – تاريخ ومذكرات-

مؤلف الكتاب: عبد المسيح  حنّا نعمان قره باشي 1903-1983

ينتمي عبد المسيح قره باشي الى الشعب السرياني، ولد في 1903 في قرية قره باش من قرى آمد والى الشرق من ديار بكر.

دير الزعفران

في 1911 تم قبوله في المدرسة الاكليريكية في دير الزعفران في مدينة ديار بكر، حيث درس اللغات السريانية والعربية والكردية تحت إشراف المطران يوحنا دولباني.  في عام 1921 رجع عبد المسيح الى بلدته قره باش ليغادرها بعد فترة من الزمن الى بيروت ويبقى فيها الى العام 1937.  وتنقل قره باشي بعد ذلك بين عدة مدن.  وقد مارس التدريس في المدن التي يعيش فيها، ليرجع في النهاية الى بيروت حيث درس اللغة السريانية لمدة 3 سنوات. وقد وافته المنية في بيروت عام 1983.

حول الكتاب

لقد خصص المؤلف القسم الأول من الكتاب لتاريخ المسيحية من فترة بزوغها ليمر بالفترات المختلفة التي تعرض فيها المسيحيون للأضطهاد خلال التاريخ.  مبتدءا باضطهاد اليهود لهم مرورا بما لاقوه من اضطهاد على ايدي حقب الامبراطورية الرومانية المختلفة والفارسية انتهاءا بفترة السلطان محمد الفاتح.

أما القسم الثاني وهو ما يشكل محور محتوى الكتاب، فيخصص المؤلف جزءه الاول للأضطهادالذي تعرض له المسيحيون من سريان وكلدان وارمن في عام 1895.  إن الاحداث التي يتم ذكرها في هذا الجزء هي انعكاس لما ورد في مذكرات الأب عبد الأحد وهو من الناجين من النكبات المريرة التي حلت بالمسيحيين في ديار بكر، أديسا (أورفا)، سيفيرك، ملاتايا و ساسون والقرى المحيطة .

أما الجزء الثاني فيورد فيها المؤلف وبشكل تفصيلي احداث مرعبة عاشها  او سمعها من الذين كانوا شهود عيان عليها، او من آخرين نجوا من المجازر التي عصفت بمناطق سكناهم.  انها شهادات حية ويومية للمجازر التي تُرقى الى الابادة الجماعية والتطهير العرقي الذي حصل للشعب السرياني بالإضافة الى الكلدان والارمن.

أسباب و دوافع

قد تتمظهر الاحداث، للقارئ المتسرع للكتاب، على انها قد جرت بدوافع دينية (مسيحية-اسلامية) أو عرقية، اوبسبب الصراع على الاراضي. خاصة وان هذا التصور يكون مدعوما بما يسطره المؤرخون الرسميون  للدولة العثمانية. ولسخرية الاقدار ان تتكرر هذه الاحداث في الوقت الراهن من خلال حروب الارهاب التكفيري في العراق وسوريا وغيرها، ويحاولون اعلاميا تلبيسها لبوس الحرب الدينية او الطائفية.  وان يكون راعيي هذه الحرب التكفيرية احفاد الذين قاموا بتدبير المجازر ضد الارمن والسريان واليونانيين وغيرهم من اعراق.  ويفوت اصحاب التصور بان الدافع الديني هو وراء المجازر التي حصلت ابان الدولة العثمانية، بان عطايا هذه الدولة من مجازر قد وصلت الى اراضي اسلامية مثل العراق، سوريا، لبنان، قبل غيرها. هذا عدا الفقر والتخلف الذي زرعته  الدولة العثمانية في هذه الاقطار (جمال باشا السفاح مثالا).

ان القراءة المتأنية التأريخية لنشوء وتطور وانحدار الامبراطورية العثمانية وطبيعة سلطتها السياسية، وخاصة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر،  توضح بدون لبس ان اسباب المجازر والابادات الجماعية للأرمن والسريان وغيرهم من الاعراق، تكمن في طبيعة الطبقات السياسية التي هيمنت على ادارة الدولة العثمانية.

الخلفية السياسية لما حدث

تمركزت السلطنة العثمانية في بداية نشوئها على يد عثمان الأول في المنطقة الغربية وكانت عاصمتها (بورصة).  مع استلام السلطان سليم الاول السلطة توسعت السلطنة العثمانية لتشمل مناطق كبيرة من الاناضول من ضمنها (طور عابدين)، ما بين النهرين وسوريا، حيث كان يعيش السريان منذ القدم.

وبسبب البعد الجغرافي لهذه المناطق عن مركز السلطنة، لم تكن للحكومة المركزية سيطرة قوية عليها، مما اضطر الحكام ان يقيموا علاقات تعاون مع اصحاب النفوذ فيها من رؤساء القبائل الكبيرة وامراء القبائل العربية والكردية بالإضافة الى اصحاب الاراضي الكبيرة(الاغوات).  كما اعتمدوا على وساطات القادة الدينيين لايجاد حلول للخلافات القبلية.

بعد الازدهار الكبير الذي شهدته الامبراطورية العثمانية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر ومع بداية القرن التاسع عشر، ونتيجة للمشاكل المالية الكبيرة وتضعضع لإدارة الدولة والهزائم العسكرية على مختلف الجبهات، بدأت هذه الامبراطورية بالإنكماش التدريجي.  وأصبحت الدولة العثمانية تجاهد للحاق بالدول الاوربية من الناحيتين الاقتصادية والسياسية وكذلك النشاط العسكري.  وفي هذه الفترة بدأ العالم يطلق على تركيا تسمية (رجل اوربا المريض).

وفي محاولة للرد على الهزائم التي مُنيت بها الامبراطورية العثمانية ولإعادة بنائها على اسس حديثة، نشأت حركة اصلاحية في الفترة التي سُميت تاريخيا (فترة التنظيمات).   تميزت هذه الحركة بمحاولاتها  العديدة لتحديث الدولة العثمانية من خلال اجراء بعض الاصلاحات. وكان محتوى هذه الاصلاحات هو لتوحيد مختلف المجموعات العرقية والدينية تحت جنسية عثمانية مشتركة.  وللوصول لهذا الهدف تم الغاء الامتيازات لبعض الجماعات بالإضافة الى الغاء التمييز ضد غير المسلمين.  وتوجت حركة الاصلاح (1839-1856) (التنظيمات) بإقرار دستور جديد ومجلس وطني منتخب.  كما اصدرت الحكومة بيان يعلن ايقاف اعتبار الغير مسلمين مواطنين درجة ثانية والغاء الضرائب الخاصة المفروضة عليهم.  كما سيسمح  لغير المسلمين من تسنم مناصب رسمية في الدولة وكذلك في الجيش وان يتمكنوا من ان يصبحوا ضباطا. وكذلك سيكون متاحا لغير المسلمين الوجهاء من ان يكونوا اعضاء في المجالس البلدية.

أحد الافواج الحميدية بقيادة ابراهيم باشا

شهد العقد الاخير من القرن التاسع عشر معارضة شديدة للأفكار التقدمية التي تبنتها حركة الاصلاح (التنظيمية).  فقام على اثرها السلطان عبد الحميد بحل المجلس الوطني وتم اقرار دستور جديد، ليمارس الحكم بشكل استبدادي.  ومن اجل تعزيز حكمه لجأ السلطان الى اللعب على مشاعر المسلمين واتخذ دور الخليفة للمسلمين مدعيا قيادة العالم الاسلامي.

ضابط كردي في الافواج الحميدية

وقد اوجد السلطان عبد الحميد روابط قوية للسلطة المركزية مع بعض القبائل من خلال منحهم امتيازات خاصة.  حيث عرض عليهم تكوين افواج من سلاح الفرسان، على ان يكون زعيم القبيلة هو القائد وان يخدم مقاتلي هذه القبائل كجنود في هذه الافواج.  وقد تم تزويدها بالملابس الرسمية الموحدة، كما تم تزويدهم بالأسلحة الحديثة والتدريب عليها.  وقد اُطلق على هذه الافواج اسم (الافواج الحميدية) نسبة للسلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909).  وكانت الخطة الاولية من خلق هذه الافواج هو لفرض النظام!

 

الشباب التركي

لقد ولّد الوضع المتدهور للدولة العثمانية حالة سخط في اوساط البيروقراطيين والموظفين  والدبلوماسيين والمثقفين عموما من ذوي التوجهات العلمانية.  أدى هذا السخط الى ولادة حركة (الشباب التركي) التي كانت تدعوا الى الحداثة.  وتشكل داخل هذه الحركة جناح شبه سري يدعى ( الاتحاد والترقي).  ومن اهداف هذه الحركة هي ارجاع المجلس الوطني، تقليص صلاحيات السلطان، اعادة تنظيم الجيش والادارة، تنظيم انتخابات عامة والسماح للأحزاب.

لقد كان موقف القوميين الاتراك داخل (الاتحاد والترقي) ضد التوجهات المعلنة في الليبرالية والمساوات. حيث كان جوهر توجهاتهم هو الثقافة الاحادية من خلال فرض اللغة التركية على الجميع، وان لتركيا هوية واحدة ودين واحد.

في 1908 تمكن (الشباب التركي) من استلام السلطة بأستخدام الجيش مع ابقاء السلطان عبد الحميد ولكن بدون سلطة فعلية. وتم احياء الدستور والسماح بانشاء احزاب وحصول انتخابات المجلس الوطني.  وقد ضم المجلس الوطني مندوبين من السريان والارمن والكلدان.  واستطاع (الشباب التركي) من تكوين كتلة برلمانية مع المندوبين المسيحيين.

ولكن في 1909 حاول المحافظون الموالون للسلطان قيادة ثورة مضادة حصل على اثرها اضطرابات كان ضحيتها السريان والارمن، حيث تم اعتبارهم من المعادين للسلطان.  ولكن الثورة المضادة فشلت.

على أثر فشل الثورة المضادة، حاول سياسيوا (الشباب التركي) تهدئة الخواطر من خلال الابتعاد عن مؤيديهم من غير المسلمين والتقليل من المساوات الدينية، والإبطاء في عمليات الاصلاح.

 

أنفر باشا

بعد الهزائم الكبيرة التي منيت بها الامبراطورية العثمانية وتدهور الاوضاع الداخلية، استلم الجناح المتطرف (الاتحاد والترقي) السلطة بعد انقلاب دموي في 1913.  على اثر ذلك تم التخلي عن مبادئ التقدم والحرية واصبح البلد تحت سلطة عسكرية ديكتاتورية بقيادة الثنائي طلعت باشا وأنفر باشا، والاثنين يتشاركان الروحية القومية التركية.

وكانا يتشاركان فكرة ان كل شخص في الامبراطورية العثمانية يجب ان يتحول الى (تركي) بغض النظر عن اصله العرقي.  وقد تبلورت هذه الفكرة في الخطة التي وضعها وزير طلعت باشا لصهر الاعراق الغير تركية بغض النظر كونها مسلمة او غير مسلمة داخل المجتمع التركي.  ولإنجاز هذه الخطة كان يجب ترحيل المجاميع العرقية المختلفة من اماكن سكناها  الاصلي وبعثرتها على شكل  مجموعات صغيرة على طول البلاد وعرضها.  وهكذا، حسب الخطة، سيكون من الصعب على هذه المجموعات الاحتفاظ بهويتهم الدينية والعرقية، ليصبحوا أتراك.

نشوب الحرب العالمية الاولى

في تموز 1914 اندلعت الحرب العالمية الاولى.  ونظرا للخسائر العسكرية الكثيرة التي منيت بها الامبراطورية العثمانية سابقا، وافلاس خزينة الدولة، كان هنالك اعتقاد واسع بان تركيا ستختار الحياد في هذه الحرب.  لكن العكس هو ما حدث.  حيث كان وزير الحرب (أنفر) موالٍ لألمانيا، وعلى هذا تم اعلان انضمام تركيا الى جانب المانيا في الحرب.  فتم حل البرلمان على اثرها، وصدور الاوامر بالترحيل الاجباري والاعتقال للأرمن والسريان.

لم تكن مجازر (سيفو) أو (سنة السيف) في الحرب العالمية الأولى ضد السريان سوى ذروة لعشرات السنين من عمليات الابادة والتطهير العرقي لهم في تركيا، خاصة في مناطق أعالي ما بين دجلة والفرات حيث تكثر القرى ذات الغالبية المسيحية او المسيحية الخالصة.

حيث إن حملات الاضطهاد ضد السريان بدأت بشكل تدريجي منذ اواسط القرن التاسع عشر وكانت تجري على يد الامراء والولاة.

لقد تميزت الحياة اليومية لسكان هذه القرى بالأنفجار الآني للعنف وخطف البنات ، فقدان الاراضي بسبب الديون، سرقة المواشي الخ. لم تكن السلطة المركزية معنية بحماية المسيحيين، فكان المسيحيون يلتجأون لأخذ الحماية من بعض القبائل الكردية مما يجعلهم في بعض الاحيان ضحايا الصراعات القبائلية. كما اضطر المسيحيون أحيانا للرحيل الى اماكن أخرى قد يحصلون فيها على الامن.  ومما زاد من التوتر في المنطقة قدوم عشائر عربية وكردية، الشئ الذي ادى الى صراع على المراعي وقضايا اخرى.

عائلة سريانية قبل الابادة

وقد شهدت اربعينات القرن التاسع عشر اولى المجازر الكبيرة بحق السريان.  حيث قاد امير بوتان (بدر خان) والباي نور الله  امير هاكاري، هجمات كبيرة ضد السريان  في هاكاري و بوتان وطور عابدين وكان ذلك في 1843.  وكانت هذه العمليات، حسب مصادر دبلوماسية غربية، قد تمت بموافقة و دعم السلطة المركزية.  وقد تم خلال هذه الهجمات تخريب القرى  وحرقها وسرقة المواشي.  وكانت حصيلة هذه المجازر مقتل ما يقارب 10000 انسان من السريان وغيرهم من الطوائف المسيحية.  ولم تتوقف هذه الهجمات الا بعد ضغوط خارجية على الحكومة العثمانية. مع ذلك لم تتوقف نهائيا، حيث استمرت بشكل اخف.

عرض الكتاب: الدم المسفوك ( تاريخ ومذكرات)

مذكرات عبد الأحد

في الجزء الاول من القسم الثاني من كتاب (الدم المراق) يستعرض عبد المسيح قره باش، مذكرات الاب عبد الاحد وهو أحد الناجين من المجازر التي عصفت بالطوائف المسيحية في مدينة  ديار بكر والقرى المحيطة بها: أديسا، هاربت، سيفيريك، مالاتايا و ساسون وغيرها والتي حدثت في 1895. وقد وجد قره باش هذه المذكرات في مجموعة الكتب التي احتفظ بها  ابن الاب عبد الاحد.

قبل الدخول في استعراض هذه المذكرات حسب ما اوردها عبد المسيح قره باش، لابد من من ان نذكر ان الاضطهاد السياسي للأرمن قد سبق المجازر التي وقعت عليهم.  وكان رد الفعل لهذا الاضطهاد السياسي نشوء الحركة الوطنية للأرمن.  ومن ضمن اهدافها (حسب ما ذكره David Gaunt  في كتابه Seyfo)، هو لأجل المشاركة في تقرير الأوضاع السياسية لمنطقة شرق الاناضول.

يتضح من المذكرات بان حملات التطهير العرقي، والاسلوب الوحشي في عمليات القتل،  كانت تستهدف اثارة الفزع في نفوس سكان القرى المستهدفة مما يجبرهم على الهروب حاملين اطفالهم وكبار السن وما خف حمله الى شتى الاصقاع.

كما يتضح كذلك بان الذين كانوا في طليعة المخططين لهذه الحملات هم من القادة العثمانيين، الذين استخدمو الافواج الحميدية (إقرأ جحوش) والتي غالبيتها من الاكراد لتنفيذ هذه المهام القذرة، في نفس الوقت  تدعي  السلطة المركزية من خلال ممثليها المحليين نيتها لحماية الطوائف المستهدفة.

وللتغطية على الاهداف الحقيقية خلف المجازر ضد المسيحيين، كانت هنالك تعليمات للقوات المناطة بها عمليات القتل والسلب، بان تبدأ العمليات مباشرة بعد الخروج من صلاة الظهر من يوم الجمعة  صارخين بشعارات اسلامية.  محاولة لإعطاء الانطباع بان عمليات القتل كانت باسم الدين، وان ما يجري هو صراع اسلامي- مسيحي.

إن ما حدث في مدينة ديار بكر في تشرين الثاني 1895 يجسد الطبيعة الحقيقية لأهداف المجازر.  ففي يوم الجمعة الأول من تشرين الثاني 1895، حسب ما يروي عبد المسيح قره باش في مذكراته، خرجت الجموع (المُهيجة) من الجامع بعد صلاة الظهر ملوحين بالسيوف صارخين بشعار (محمد صلوات)، وتحت وقع انفجارات القنابل، بدأو عمليات البطش على كل من يصادفهم  وعلى البيوت والمحلات.

واستمرت عمليات القتل والبطش حتى الرابع من تشرين الثاني.  ولكن كان هناك من استطاع الرد على هذه الهجمات بأطلاق الرصاص من النوافذ والذي سبب سقوط بعض القتلى بين صفوف المهاجمين.  وهذا الشيء لم يعجب الوالي العثماني الذي استدعى بطريرك السريان ليطلب منه القيام بتهدئة المسيحيين.  وعندما حضر البطريرك لمقر الوالي شاهد الالاف من مقاتلي الكرد (الافواج الحميدية) مع سيوفهم المصبوغة بالدماء.  وكان قادتهم مع الاغوات في اجتماع مع الوالي.  فطلب الوالي من البطريرك ان يطلب من المسيحيين بتسليم اسلحتهم.  وبعد عمليات التفتيش بفترة قليلة استعادت القوى المهاجمة زخم الهجوم والبطش من قتل واستباحة الاعراض والبيوت والاموال. واستمرت المجازر حتى 18 كانون الأول.

وحدة الاساليب الهمجية

ان حدوث هجمات (الارهابية) المجازر في وقت واحد على مختلف المدن والقرى في منطقة ديار بكر وماحولها، لتدل على وجود مخطط مسبق لترهيب سكان هذه القرى والمقصود السريان، الكلدان والارمن.  ومن الملفت كذلك، وكما ورد في المذكرات، هو وحدة الاساليب الهمجية البشعة لتنفيذ المجازر الارهابية في جميع القرى والمدن المستهدفة، مما يؤكد مرة أخرى بان المخططين لمختلف هذه المجازر هم انفسهم هم ولنفس الاهداف.

 

قتلى أرمن في أرضروم
  • قيام المهاجمين بالسيوف والحربات والفؤوس بمحاصرة المتحصنين بالكنائس او ابراج الحمام و اغلاق الابواب عليهم لئلا يهربوا ثم يقوموا بالقاء المواد الحارقة عليهم من اعلى. ومن ثم يقومون بقتل من يحاول الهرب. وهذا ما حدث في قرى ( سعداية)، (كيتريبال) و (ميافارقات)، حيث احتمى الهاربون من البطش داخل كنيسة البلدة.  وفي قرية قره باش لجأ الهاربون من بطش السيوف الى برج للحمام ( كانت ابراج الحمام منتشرة في المنطقة حيث كان الناس يتاجرون بفضلات الطيور كسماد).  فتمت مهاجمتهم في داخل البرج وبعدها تم تهديم البرج على رؤوس المحتمين به.  وقد أطلق على البرج لاحقا اسم (برج الشهداء).
  • البشاعة في اساليب القتل كانت موحدة في المجازر. ففي قرية (ميافارقات)، عندما دخل الارهابيون احدى المنازل ، وجدوا امرأة جميلة مع طفلها الرضيع.  حاولوا اغتصابها، فعندما حاول زوجها الدفاع بأستخدام مضرب، قاموا بربطه وبتر يديه وقدميه ثم قتله.  بعد ذلك قاموا ببتر يدي المرأة وقدميها ولكن لم يقتلوها.  وانقذها بعد ذلك احد الرجال الطيبين حيث نقلها الى ديار بكر، لكنها توفت بعد ذلك بقليل.
  • وفي قرية قره باش حاولت امرأة مع طفلها الهروب من مهاجميها فبادرها احد الارهابيين بطعنة بسيفه ليخترق جسدها وجسد طفلها مما سبب وفاتهما في الحال.
  • ومن المظاهر البشعة الاخرى للمجازر هي قيام الارهابيين بخطف النساء والبنات والاحتفاظ بهن كرقيق او جاريات او زوجات لأولادهم.

حساب الضحايا

  • في قرية السعدية البالغ مجموع سكانها حوالي 330، لم ينجوا من المجازر سوى ثلاثة رجال.
  • في قرية (ميافارقات) كان نفوس البلدة يقارب 1000 انسان نجى منهم 12 رجل وثلاث نساء.
  • في قرية (سيفيريك) تجاوز عدد القتلى 400 حياة لم ينجوا من سكان القرية سوى اربعة عوائل.

الابادة الجماعية في سنة السيف (سَيْفُو)

1914/1915

قبل عرض لمذكراته الشخصية ،يخوض (عبد المسيح قاره باش) في ارهاصات الحرب العالمية الاولى، ويتطرق الى الوضع السياسي والعلاقات الاجتماعية في المدن والقرى التي شهد فيها المجازر بحق السريان والارمن وغيرهم من المسيحيين.  والاهم من كل ذلك يستعرض كيف تم استخدام ملابسات الحرب كذريعة لتبرير ما جرى.

فبعد ان يتحدث بأختصار عن السبب الذي تم استخدامه لاشعال شرارة الحرب، يسهب في ملابسات مساهمة  وانحياز تركيا العثمانية الى الجانب الالماني في الحرب.  لقد ساهم الاعلام والدعاية الالمانية في دعم توجه السلطة العثمانية للتحالف مع المانيا.  فأكثر من مرة اعلن قيصر المانيا (ويلهلم الثاني) وفي مناسبات عديدة ( على المسلمين في كل انحاء العالم ان يثقوا بان المانيا القيصرية ستكون دائما صديقتهم في كل الاوقات).

وقد لعبت هذه الدعوة وغيرها من التصريحات الدعائية، حسب ما يورده صاحب المذكرات، دور مهم في اسناد موقف السلطة العثمانية وخاصة وزير الحربية (أنفر باشا) في الانحياز لالمانيا القيصرية والتي كانت معها في تحالف مسبق.  حيث يذكر عبد المسيح قره باش بان (انفر باشا)  مع آخرين من القادة كانوا منحازين لالمانيا في وقت مبكر.  وان (انفر باشا) الماسك بمقدرات السلطة، العوبة بيد السفير الألماني الى تركيا.

ويتطرق (قره باش) كذلك الى مسألة مهمة ايضا وهي التناقض الذي وقفته المانيا القيصرية.  ففي نفس الوقت الذي ابرزت فيه ادائعائها بانه ستكون حامية للعالم الاسلامي، غضت النظر عن حملات الابادة الجماعية التي قامت بها السلطنة العثمانية بحق المسيحيين.  وهو لايشير في هذا نحو المانيا القيصرية فقط وانما يشمل في تساؤلاته النمسا كذلك.  فهو يقول بتعجب (كيف سمحت النمسا وهي مسيحية بالكامل، بان تتم عمليات القتل بحق المسيحيين في تركيا، وعلى نفس المنوال، كيف استطاعت المانيا، وهي البلد المسيحي، ان تغض الطرف وان لاتقوم باي شئ لمنع حملة الابادة  الجماعية  للمسيحيين.

ويتوصل (قره باش) الى استنتاج مفاده “بان تركيا ما كان لها ان تلحق ادنى اذى بالمسيحيين بدون اوامر من الالمان”.  (وهذا يجرنا الى الواقع المعاصر وموقف أوربا من  المجازر التي اقترفتها وتقترفها قوى الارهاب التكفيري من قاعدة و داعش واخواتها  في سوريا والعراق، بحق المسيحيين والإيزديين عدا المسلمين.)

وللحقيقة كما يقول قره باش “يجب تحميل المانيا والنمسا مسؤولية دم المسيحيين الابرياء الذي سُفك بتنفيذ السلطة التركية”.

ويتطرق عبد المسيح قره باش في كتابه، الى الحيلة التي استخدمها الالمان للإيقاع بالأرمن لإعطاء الذريعة للسلطة التركية للقيام بحملة الابادة.  حيث أرسل الالمان اربعة جواسيس تحت غطاء انهم مبعوثون بريطانيون، الى منطقة (دورتيول)، و عقدوا اجتماعا سريا مع قادة أرمن وخدعوهم، فقدم  هؤلاء القادة من جانبهم  رسالة يشكون الظلم الواقع عليهم من قبل الحكومة التركية وطلبوا المساعدة من البريطانيين.  وبعدها تم تسليم هذه الرسالة للسلطات التركية لاجل تشجيعهم على المضي في اضطهاد المسيحيين وبالدرجة الاولى الارمن بإعتبارهم خونة.

ولكن هنالك من يعتقد بانه مع بدايات دخول تركيا الحرب، ظهرت مؤشرات مُحذرة حول مستقبل المسيحيين،  فيورد (David Gaunt) في كتابه (أنظر المراجع) نقلا عن مذكرات الميجر (E. M. Noel)، بان اولى هذه التحذيرات جائت في البرقية التي تدعوا الشعب “بان عليهم تقع مسؤولية التعامل مع الخونة”.  ولم يكن في خلد سكان (ماردين) بأنهم المعنيين بهذه البرقية.  خاصة وان اثنين من متصرفي المدينة قد ظمنوا الولاء للحكومة المركزية. كما لم يكن هناك اكثر من 2% من الارمن منتمين للطاشناق. بالإضافة الى ذلك قيام القائد الروحي في خطبة وعظية متوجها بها للأرمن، بعدم جواز الانتماء للتجمعات السرية.

لكن طبيعة ما جرى من احداث ما قبل الحرب العالمية الاولى، بالإضافة الى الخلفية السياسية لمتقلدي السلطة العثمانية وبالأخص (أنفر باشا) وزير الحربية، لاتعطي مجال لأي شك في وجود نية مسبقة لإنجاز المخطط الذي وضعه (أنفر باشا)  والذي تم ذكره سابقا، والذي يهدف في النهاية الى تشتيت طوائف السريان والارمن وغيرهم من غير الاتراك وبعثرتهم في انحاء البلاد وبالتالي وتدريجيا يفقدون هويتهم ليكونوا جزء من النسيج التركي الموحد.

فكان لابد من ايجاد الذرائع لتنفيذ هذا المخطط، وفي مركز هذه الذرائع هو اعطاء الانطباع كون المسيحين خونة ومتواطئين مع الاعداء.   ومن الاحداث الاخرى التي تم التعكز عليها لوصم المسيحيين بالخيانة، هي الهزيمة المريرة التي لحقت بالحملة التي قادها بنفسه (أنفر باشا) على الجبهة الروسية في كانون الثاني 1914، وفيها كاد يُلقى القبض عليه لولا ان يتم انقاذه، وللمفارقة، من قبل جنود أرمن-أتراك.   لقد اثارت هذه الهزيمة الذعر داخل الحكومة التركية، والتي ارادت ان تجد في الجنود المسيحيين والهاربين من الخدمة كبش فداء، على انهم سبب ما جرى.

وكانت الخطوة الأولى التي اخذتها السلطة هي بإشاعة مزاعم كون المسيحيين يخزنون الاسلحة لإستخدامها في انتفاضة ضد السلطة لدعم اعدائها.  فأرسلت السلطة مناديها الى مراكز الاسواق في القرى والمدن، منادين بان “على المسيحيين ان يسلموا ما يملكون من أسلحة الى الجهات الحكومية وسوف يحكم بالأعدام على كل شخص وجد في حوزته سلاح بعد ذلك”.  ولكن، وحسب عبد المسيح قاره باش سارع هؤلاء المنادون بأقتحام البيوت وبحجة البحث عن السلاح قاموا بسرقة ما خف حمله ” والويل للبائس اذا وجد بحوزته ولو سكين صغيرة”.

السفربرلك

(وهي حملة التجنيد الاجباري للرجال الذين اعمارهم ما بين 15 و45 سنة، والتي شملت جميع رعايا السلطنة العثمانية)

وقد ساهمت هذه الحملة في تهيئة الاجواء لحملات الابادة الجماعية التي اتت بعد ذلك.  وهذا ما يؤكده (David Gaunt) في كتابه (سَيْفُو)، بقوله، لإنها (سفربرلك) ادت الى افراغ القرى من الرجال القادرين على حمل السلاح. والملفت بان هؤلاء السريان الذين تم تجنيدهم لم يتم وضعهم في جبهات القتال، فبدلا من ذلك تم اجبارهم على العمل كعبيد في حفر الخنادق  ورصف الطرق بين المدن ونقل المؤونة على ظهورهم الى جبهات القتال.

ويورد عبد المسيح قره باشي في مذكراته كيف كان يتم تجميع الرجال تحت سن 45 سنة وارسالهم مشيا على الاقدام الى جبهات القتال وبدون مؤونة.  كما كانوا يضعون كبار السن في السجن ويستحوذون على النساء والبنات الجميلات ليأخذوهن كزوجات والموت سيواجه اللواتي يرفضن وهذا ما حصل للأغلبية.  لقد حدث ان الكثيرين من الذين تم اخذهم كجنود، قد فارقوا الحياة وهم في طريقهم الى جبهات القتال بسبب الاجهاد البدني او الجوع او المرض.  لقد أدى هذا وغيره من الاحداث الى اثارة الفزع بين صفوف المسيحيين مما جعل الكثيرين منهم يفر الى الارياف المفتوحة وقسم لجأ الى جبل سنجار قرب الموصل، هربا من البطش و من الحياة الصعبة.

مذكرات المؤلف

تبدأ المذكرات في السادس  من شهر آب 1914 مع اعلان الحرب، حيث سجل الاحداث التي جرت في مدينة ماردين و ما حولها.  واهم ما تم تسجيله هو ترحيل المجندين الى ديار بكر.  والشيء الملفت هو ما سجله حول ترحيل المجندين بعد ذلك من ديار بكر، بعد ان امتلأت بهم اماكن الاستيعاب، الى بغداد.  كما يذكر قيام السلطة بمصادرة الحمير والبغال والخيول من الاهالي لإستخدامها في نقل الاسلحة الى بغداد!  كما يذكر حدوث عمليات عصيان شملت الايزيديين  الذين رفضوا ارسال ابنائهم للخدمة في الجيش، وفي اليوم التالي كتب سكان (طور عابدين)، كما تسجل المذكرات، الى حاكم ماردين باستعدادهم الخدمة في الجيش وهو نفس اليوم الذي تم الاعلان فيه بان المانيا هزمت فرنسا.  ولا يفوت ذكره حدوث عصيان آخر في وقت لاحق، تسجله المذكرات، من قبل زعيم كردي الذي كان تحت امرته ما يقارب الألف من الاتباع.  وقد استقدم 300 مقاتل حسني التدريب لقمع هذا العصيان.  وخلال هذه الفترة المذكورة كانت القرى المسيحية عرضة للنهب والسرقة من قبل قوات السلطة التركية واعوانها.

خلال شهري يلول و تشرين الثاني 1914 يسجل عبد المسيح قره باشي المزيد من عمليات التجنيد التي شملت المئات بالإضافة الى مصادرة المؤونة والماشية والتي شملت العشائر العربية ايضا.

إعلان الحرب المقدسة  – تهيئة الاجواء للمجازر اللاحقة

يذكر عبد المسيح قره باشي انه في 12 تشرين الثاني 1914 تم تعليق ملصقات جدارية تعلن عن وجود اوامر حكومية تنص على ” إن من الضروري اعتبار الحرب ضد فرنسا وبريطانيا و روسيا، هي حرب مقدسة”.  والسبب في ذلك حسب الاوامر هو ان ملك بريطانيا قام بتهديد المسلمين وينوي هلاكهم جميعا.  وقد تم الاعتماد في ذلك على خطاب للملك تم تلفيقه من قبل الالمان لاجل اخافة المسلمين وإثارة غضبهم لجرهم للحرب وفي نفس الوقت خلق روح الكراهية ضد المسيحيين في تركيا.

والكلام الذي لُفق على لسان ملك بريطانيا يقول “سوف لن يكون سلام على الارض ولن يرتاح العالم ما لم تتم ازالة القرآن من الوجود”.

سرعان ما تم تلقف هذه الكذبة من قبل أئمة الجوامع، المُشغلين من قبل السلطة، لتنعكس في خطب ملتهبة ضد المسيحيين، الشيء الذي ساهم في خلق الممهدات لتنفيذ مخطط الابادة الجماعية.

البداية

في 18 شباط 1915، تم اصدار الحكم بأعدام 12 سرياني بتهمة الفرار من الجيش، رغم ان فرارهم لم يكن من جبهات القتال بل من مراكز تجنيدهم في ديار بكر.  وقد عرض مطران الارمن في ديار بكر مبلغ 50 الف دينار ذهب الى السلطات  مقابل اطلاق سراحهم، لكن تم رفض هذا العرض، حيث تم شنقهم حتى الموت وفي قرى مختلفة من اجل اثارة الرعب بين السكان.

وتنوه المذكرات بالدور الذي لعبه وجود قيادات المانية ونمساوية في المنطقة في تشجيع الاضطهاد الذي جرى على المسيحيين.  فبالإضافة الى غضهم النظر عما يجري لهم، قاموا بتشجيع الاتراك في التغول بإضطهادهم.

متسلحين بمواقف الألمان والنمساويين المشجعة تم اصدار الاوامر بتهجير المسيحيين.

في الاول من آذار 1915 تم اصدار قرار يقضي بنزع السلاح من كل المسيحيين في الدولة العثمانية.  على اثر ذلك تم نزع السلاح من كل المسيحيين الذين يخدمون في الجيش في ولاية في ولاية ديار بكر.  وقد تم تحويل هؤلاء المجندين للعمل في بناء الطرق.  حيث تم تكليفهم باعمال شاقة مثل تكسير الصخور وحمل الاتربة، الحفر وملئ الحفر.  والقسم الآخر من المجندين تم تكليفهم كحمالين للمؤونة او السلاح .  وقد يصل وزن الحمولة لكل شخص الى 55 كغم، وعليهم حملها لمسافات طويلة تحت مختلف الظروف المناخية من مطر او ثلوج. والويل لمن يتأخر في المشي او يسقط من التعب، حيث ستنهال عليه الهراوات بالضرب المبرح.  وقد فقد العديد من هؤلاء حياتهم قبل ان يصلوا المكان المطلوب.

مجزرة في ديار بكر

مدينة ديار بكر

في 09\04\1915 اصدر حاكم ديار بكر اوامره الى احد قادته المخلصين بايقاف جميع زعماء ووجهاء المسيحيين في ديار بكر وحجزهم في بيت استراحة المسافرين.  وكان عدد المحتجزيين 1200.  وقد أُجريت عمليات تعذيب قاسية على المحتجزيين لإجبارهم على الادلاء بمعلومات عن اماكن وجود اسلحتهم.  بعد ذلك قرر الحاكم ابعادهم نحو الموصل.  وهم في طريقهم الى الموصل عبر نهر دجلة، تم احتجازهم من قبل طاغية كردي، بتوصية من حاكم ديار بكر.  وقد اخذهم هذا الطاغيةالى وادي عميق حيث قتلهم جميعا باطلاق الرصاص.  بعد هذه الحادثة قام حاكم ديار بكر بأعتقال ما يناهز 500 مسيحي آخر واخذهم الى مسافة ليست بعيدة ليتم الاجهاز عليهم ورمي جثثهم في الوديان القريبة.

وتتصاعد المجازر..

ومن هذا التاريخ وصاعدا تبدأ عمليات الاضطهاد والمجازر تحديدا بالتصاعد التدريجي وبشكل اكثر منهجية.  هذا ما يحدثنا به عبد المسيح قره باش فيما تبقى من صفحات مذكراته  والتي تشكل نصف ما احتواه كتابه.

قافلة من اللاجئين الارمن

فهو يغطي احداث تمتد الى ما بعد صيف 1915، جرت على القرى والمدن وما بينها.  جوهر هذه الاحداث هو القتل المباشر والجماعي لسكان هذه القرى.  القتل الجماعي الذي لم يستثني الاطفال و النساء ولا الشيوخ والمرضى.  القتل الذي هدفه الوحيد هو القتل الذي سيثير الرعب بين صفوف الناس.

لقد تم استخدام نفس الاساليب الوحشية لاقتراف المجازر، في مختلف اعالي المناطق مابين دجلة والفرات.   واهم هذه الاساليب : القتل المباشر والغير مباشر لعمال السخرة في بناء الطرق الخارجية؛ تصفية النساء اثناء نقلهم في قوافل خارج قراهم؛ التصفيات الجماعية لسكان القرى؛  اعتقال رجال القرية واخذهم خارجا ليتم قتلهم….ألخ.   وخلال هذا وذاك تتم عمليات اغتصاب واختطاف النساء والبنات ليصبحن جواري.

شهادة من أحد عمال السخرة

يروي عبد المسيح قره باش ماحدثه به احد السريان من الذين أُجبروا على العمل في بناء ورصف الطرق.  في جزء من شهادته يتحدث معاناة هؤلاء العمال الذين يُجبرون على العمل تحت مختلف الظروف الجوية بدون التزود بوسائل الحماية الفردية من ملابس واغطية أو احذية.  وكانوا يُجبرون على المشي لمسافات طويلة بين مواقع العمل، يضطرون فيها المبيت في العراء تحت البرد والمطر والثلوج، مما يؤدي الى القتل العمد الغير مباشر، حيث يمرض الكثير منهم ويُتركون دون علاج ليواجهوا الموت المحتم.  وفي احدى المرات، وكان هذا الشاهد ضمن مجموعة من 300 عامل سخرة، تم نقلهم من قرية (هاباشي) الى قرية (سارمانك) ومن ثم الى ( وادي الشيطان- Shaytan-Dara). و خلال الطريق لم يصادفوا قرية يحتموا بها، فأضطروا لقضاء ليلتهم في العراء بدون غطاء وكانت المنطقة على سفح جبل (ماسيس) المغطى بالثلوج طوال السنة.  فكان البرد قاسي والمطر استمر حتى الصباح والعمال كانو حفاة.  مع ذلك كان عليهم البدء في العمل مع بداية الصباح.  وبسبب هذه الظروف اصبح اكثر من 20% منهم مرضى.  ولتكتمل المعاناة كانت الهراوات تتساقط عليم في لحظة يظهر عليهم التباطؤ.

قرية كلها اطفال

في 08\06\1915، يتحدث الشاهد الى صاحب المذكرات، تم نقل 200 من العمال من (وادي الشيطان) الى ديار بكر مشيا على الاقدام، وقد قام الجنود باجبارهم على قطع مسافة 10 ساعات مشي عادي في ستة ساعات.  وعند وصولهم ديار بكر، تم احتجازهم في موقع استيعاب العمال لمدة ثلاثة ايام.  بعدها غادروا المكان للذهاب للعمل في الطريق المؤدي الى (بيتليس)، وكان عليهم ان يقيموا ليلا في قرية تدعى (كاعبيه – Ka`biye`h).  وعندما دخلوا القرية لم يجدوا اي رجل بالغ، وانما اطفال فقط الذين تراكضوا نحوهم قائلين لهم بان ” المسلمين قتلوا ابائهم”.  ويقول الشاهد بان العمال لم يتمالكوا انفسهم من البكاء.  وعندما لاحظ الحراس ذلك، صرخوا بهم ” ايها الكفرة هل تظنون بانكم ستبقون على قيد الحياة”.

مجزرة في (وادي الشيطان)

ويستمر الشاهد في روايته بانه في 16 حزيران 1915، قام كل من القادة  صدقي و يحيى وثروت مصحوبين ب 150 جندي من الفيلق 15 مع 300 كردي مسلح حسني التدريب، بالذهاب الى (وادي الشيطان) حيث لازال باق قسم من عمال السخرة، فتمت محاصرتهم وربطهم بالحبال ثم قادوهم الى (سيفيرين) حيث تم قتلهم، وكان عددهم 190، نجى منهم اثنان هربا الى ديار بكر حيث بلغوا خبر المجزرة.

عن عزل الأرمن

في 19\06\1915، يستمر الشاهد في روايته، بعد تغير موقع عملهم الى مكان قريب من قرية (ساعدييه –Sa’diyye’h )، وفي الليل بين الساعة السادسة والتاسعة ليلا، وبشكل مفاجئ قام الجنود بمحاصرتنا  وصاح بنا قائدهم (صديقي) بالانبطاح ارضا.  وبقينا على هذه الوضعية لمدة ساعتين، تبين للشاهد بعد ذلك بأنه ستتم عملية عزل للعمال الأرمن فقط.  وفعلا بدأت المنادات على اسماء الأرمن واحدا أثر الآخر.  وفي النهاية تم تجميع 102 عامل سخرة أرمني من مجموع عدد العمال البالغ 200. تم ربطهم بعد ذلك وتجميعهم في الاسطبلات.  ليتم في اليوم التالي ترحيلهم الى منطقة بين  قرية قره باش وقرية (ماترانيا – Matraniye’h) حيث يتم تجريدهم من ممتلكاتهم و يُذبحوا.

مجازر في قره باش

تقع قرية قره باش على بعد حوالي 10 كم  شرق مدينة ديار بكر.  وهي مدينة كاتب المذكرات.  كل سكانها من السريان.  في 20\04\1915 وفي التاسعة ليلا، قام ابن ياسين أغا (دياربكر)، وبدعم من قائد الفيلق 15 وجنوده، بمحاصرة قرية قره باش واستدعاء رئيس البلدية ويدعى (Bshara) والطلب منه “عليك القيام بتسليم جميع قطع السلاح التي بحوزتكم الى الحكومة، وبعكسه ستواجهون الموت الحتمي”.  وإذعانا لهذا الطلب قام رئيس البلدبة برفقة جنود من الفيلق 15 ورجلين من سكان القرية بتفتيش البيوت جميعها، وتم تجميع ما وجدوه من اسلحة، من ضمنها البنادق، السيوف، الحراب والخناجر.  ثم قاموا بتكديسها امام قائد الفيلق وابن الأغا.  فبعدما شاهدوا هذا الكم من السلاح توثقوا من امكانية انجاز ما خططوا له من مجازر.   حيث قاموا بعدها بإعتقال 20 رجل من اهالي القرية وتسفيرهم وحجزهم في مكان يدعى (نزل المسافرين – Musafer- Khane’h).  وبعد خمسة ايام تم اخراجهم مقيدين على اساس تسفيرهم للعمل في بناء الطرق.  وبعد ستة ساعات من المشي  المستمر وصلوا قرية (شارابي – Sharabi)على ضفاف نهر دجلة حيث تم قتلهم.

وبعد يومين من ذلك اي في 22\04\1915، وفي بداية الليل  تم اعتقال جميع رجال القرية، كبار وصغار.  هذه العملية تمت بقيادة  ابن أغا ديار بكر وقائد الفيلق 15. وتم اخبار المعتقلين بانهم سيذهبون الى ديار بكر للعمل في بناء الطرق الخارجية هناك.  ولكن حالما وصلوا المكان تم قتلهم جميعا.  وعندما علمت العصابات الكردية بخلو القرية من السلاح والرجال قامت اعداد كبيرة منهم، في منتصف ليلة 23\04\،1915 باستباحة القرية.  وأوغلوا بالقتل والنهب.  على اثر هذه الاستباحة هرب السكان  ملتجئيين الى قرية (راقلي – Raqli)، حيث لحق بهم الجناة ، ولم ينجوا منه سوى القليل من الذين استطاعوا وتحت جنح الظلام من العودة للقرية  والقصة لاتنتهي هنا …..

مجزرة في قرية (كعباية – Ka’biye’h)

في هذه القرية، تم استخدام نفس اسلوب البطش الذي تم اتباعه في قرية (قره باش).  فتنفيذا لقرار الحكومة التركية في 01\04\1915، القاضي بتجميع جميع الاسلحة التي بحوزة المسيحيين، وفي 10\04\1915 وصل ثلاثة قادة عسكريون من ديار بكر (صديقي بيرنجي، يحيى ياسين و ثروت عثمان) الى القرية بصحبة 70 جندي مسلح من الفيلق 15.  وكان هذا في الساعة السادسة مساء.  وتمت محاصرة القرية، واستدعاء عضو المجلس البلدي (كيواركيس) وطلبوا منه استدعاء جميع الرجال فوق عمر 15 سنة وتجميعهم  خارج القرية، على ان تتم معاقبة كل من لايمتثل للإستدعاء بالحرق مع عائلته.   وحسب ما أُمر به قام عضو المجلس البلدي بإعلان الطلب والتهديد بالقتل، على سكان القرية، وعى اثر ذلك تجمع رجال القرية، فقام الجنود بتقيدهم .  بعد ذلك تم الطلب من القرويين بتسليم اسلحتهم.  وبعد تسليم الاسلحة، لم يقتنع القادة العسكريون بذلك.  فتمت المباشرة بعملية التعذيب، من خلال تعليقهم من ارجلهم وضربهم (فلقة) على ارجلهم بعصا الخيزران.  واستمرت العملية  لمدة تسعة ساعات.  بعد ذلك القي القبض على عدد من كبار الشخصيات الدينية وتعذيبهم ثم قتلهم.  وفي المساء تم ترحيل المعتقلين الى (نزل المسافرين)، حيث تم احتجازهم وتعذيبهم لخمسة ايام متواصلة، ليتم ترحيلهم بعد ذلك للعمل في تكسير الصخور لإنشاء أرصفة الطرق.   وفي النهاية يتم ترحيلهم مشيا الى اعالي جبل يشرف على نهر الفرات ليُقتلوا وترمى جثثهم من على سفوح الجبل.

وفي الخامسة صباحا من 20\04\ 1915، تمت استباحة القرية من قبل عصابات كردية وقتل ما يقارب 50 شخصا.  لقد انخفض نفوس سكان القرية بشكل كبير فمن مجموع 150 عائلة كانت تشكل سكان القرية لم يتبقى سوى خمسة عوائل فقط.

مجزرة في قرية سييرت – Siirt

مدينة سييرت

تقع هذه القرية على ضفاف اعالي نهر الفرات محاطة بجبال تكثر فيها اشجار العنب وبساتين التين، وهي على بعد اربعة ايام مشيا الى الشمال من مدينة ماردين.

في منتصف شهر حزيران 1915، قامت عصابات كردية بمهاجمة القرية واعتقال عوائل وتعذيبهم.  لقد اعتقلوا اعداد كبيرة من العوائل، وبشكل خاص تلك العوائل ذات الوجاهة الاجتماعية.  وقد بلغ عدد المعتقلين 600 رجل.  ثم بدأو بالتحقيق مع رجال الدين ووجهائها مع التعذيب الشديد، بحثا عن عن الاماكن  التي يخبؤون فيها الاسلحة.  واثناء التحقيق تم قطع رأس الأب (أبرهوم)، كاهن السريان الارثودوكس، ورميه في الشارع.  بعد ذلك اقتحموا بيت كاهن الكلدان (كابريال) واعتقاله واخذه الى المحاكمة حيث تم تجريده من ملابسه والقيام بتعذيبه ليقطع رأسه كذلك.

بعد اربعة ايام على اعتقال رجال القرية، وفي صباح اليوم الخامس تم تقييدهم وترحيلهم باتجاه وادي (زرياب – Ziryab) على بعد 5 كم حيث تم قتلهم.  بعد ذلك تم اجتياح بيوت المسيحيين، وتجميع النساء والاولاد والبنات.  وتم تقسيمهم الى ثلاثة قوافل واجبارهم على السير حفاة، عراة مع الجوع والعطش من مجزرة الى أخرى.  عدا انهم يجبرونهم على المشي على اراضي وعرة لمزيد من التعذيب.   انهم قد يعرونهم من ملابسهم لإغتصاب النساء المتزوجات والاعتداء على عفة البنات القصّر، ليتم قتلهم بعد ذلك.

مؤامرة (لجنة الاتحاد والترقي) في ديار بكر

لقد بدأ الضغط على المسيحيين في ديار بكر يزداد كما يذكر عبد المسيح قره باش، منذ المؤامرة التي تم التخطيط لها في (لجنة الاتحاد والترقي) في العاصمة القسطنطينية.  تبدأ المؤامرة، والكلام لقره باش، باختيار (رشيد باشا) ليتم تعيينه كحاكم لمدينة ديار بكر مع منحه صلاحية كاملة.  كما تم تعيين اشخاص معروف عنهم الاجرام والوحشية، تحت امرته.  في 05\04\1915، بدأ رشيد باشا خطته الشيطانية بإرسال خلية جواسيس من ستة ضباط يتقنون الارمنية بطلاقة الى ديار بكر.  وهناك ذهبوا الى الكنيسة الارمنية مدعين بانهم هاربين من العاصمة وقدموا للتحريض على العصيان ضد الحكومة التركية لصالح الروس.  بعد فترة أصدر رشيد باشا كحاكم مدينة ديار بكر اعلان عام يقول فيه “هروب ستة عناصر قيادية ارمنية من العاصمة قادمين الى ديار بكر لتحريض الجماهير ضد حكومتنا”.  وقد اعقب ذلك بحملة تفتيش للكنيسة الارمنية وبيوت لقيادات ارمنية.  بعد يومين من بدء حملة التفتيش، قام رشيد باشا بنفسه مصحوبا بقيادات عسكرية بمداهمة البيوت والكنيسة.  وعندما اقتحم الكنيسة وجد الجواسيس الستة الذين زرعهم هناك.  وهؤلاء اتقنوا الدور المناط بهم، فظهروا متفاجئيين، فبادروا بالصراخ والاحتجاج.  وعلى اثرها امر رشيد باشا بالحفر في الكنيسة والاسقفية للبحث عن السلاح المخبأ.

من يوم الاثنين 12 نيسان الى الخميس 15 نيسان، قامت السلطات التركية باعتقال اكثر من 600 من القادة والتجار الارمن ليتم احتجازهم في مكان يدعى (قصر المسافرين-Karavanserai).  وعندما امتلأ المكان بالسجناء، تم استئناف عمليات التعذيب بأكثر الاساليب البربرية: قلع الأضافر؛ قلع الاسنان؛ خرق الاقدام والأيدي بالمسامير الحديدية.  والكثير من سيئي الحظ الذين يهلكون من جراء التعذيب يتم دفنهم في تل لتجميع (الروث).  وفي نفس الوقت يرسلون القتلة المجرمين للقرى المجاورة ليقوموا باستباحتها.  وفي هذه الاثناء ارسل رشيد باشا عدة فصائل من الجنود ليقوموا بقتل الارمن من الذين كانوا ضمن عمال السخرة على طرق ارضروم وطاربرزون وارزانجان.  ويقدر مجموع هؤلاء الضحايا في حدود 800 انسان.

وفي يوم الاحد 25 نيسان، يتم اقتياد المحتجزين في (قصر المسافرين) والبالغ عددهم 807 الى نهر دجلة حيث يتم وضعهم في طوافات على اساس نقلهم الى الموصل.  ولكن بعد مسيرة ساعة يتم قتلهم جميعا قرب مكان يدعى (Strait Ramma).

وعودة لديار بكر، يتم اقتياد بقية المحتجزين على شكل قوافل ليتم قتلهم تباعا.

موقف السكان المسلمين من ما جرى!

رغم صورة الحرب الدينية التي تمظهرت بها الكثير من الحوادث التي رواها عبد المسيح قره باش في كتابه، لايمكن اخفاء الدافع الحقيقي للمجازر التي لحقت بالمسيحيين.  ففي نفس الوقت الذي تتوارد عبارات مثل (الاكراد هجموا…..؛ المسلمون قتلوا……الخ)، يذكرقره باش الكثير من الحوادث التي لعب فيها العرب او الاكراد في حماية واخفاء المسيحيين من عمليات الاستباحة والقتل.

ومن ضمن هذه الحوادث:

  • في 01\11\1895، وفي قرية قره باش، وبعد تعرضها لهجوم من قبل (الاكراد)، يذكر عبد المسيح قره باش ” يذهب بعض السكان الى بعض القرى المسلمة ليلتجؤا الى معارفهم من المسلمين”
  • قرية (دارا)، وفي حزيران 1914، “قيام عدد من نساء القرية بتوفير اماكن الحماية واللجوء لأطفال ونساء القرية المسيحيين. وعندما هدأت الامور قاموا بترحيل هؤلاء النساء والأطفال تدريجيا الى دير ماردين”.
  • ما حصل في في نصيبين. في حزيران 1915 حصلت مجزرة بشعة بحق سكانها المسيحيين، تمت بأوامر من زعامات كردية وقيادات عسكرية تركية.  ولكن وحسب ما يذكره قره باش ” يعطي زعيم قبيلة طي العربية، اوامره لافراد قبيلته بتوفير الحماية والامن للمسيحيين الذي يلتجؤون للقبيلة.  كما قام زعيم القبيلة بارسال اعداد كبيرة من المسيحيين اللاجئين اليه، الى صديقه امير امراء جبل سنجار لحمايتهم”.
قافلة من أللاجئيين السريان في جبل سنجار

صحيح ان الضحية في هذه المجازر، لايرى في قاتله سوى كونه (مسلم) اذ كان عربي، كردي او تركي، لكن حقيقىة الامر، ان هذا لايعدو كونه قاتل و مجرم بغض النظر عن دينه، استخدم كأداة بيد اصحاب القرار، مخططي التطهير العرقي.  ولتسهيل مهمتهم اصبغوا عمليات القتل بالصبغة الدينية.  وكما تم ذكره، لعبت الحملات الاعلامية دوراً كبيراً لتهيئة الاجواء لذلك.  وهنا لايجب ان يغيب عن البال بان قلب القوة المحركة لحملات التطهير كانت الافواج الحميدية ( الا تذكرنا بمنظمات الارهاب التكفيري التي ترعاها الحكومة التركية الحالية وعلى رأسها وريث السلطنة العثمانية كما يتفاخر)، بالاضافة الى اسناد فيالق  السلطة العسكرية.  ولايفت ذكره كذلك بان الشعب التركي عموما كان عرضة لظلم واضطهاد نفس السلطة. والتاريخ يعلمنا بان ظلم واضطهاد السلطنة العثمانية قد تجاوز تركيا البلد ليشمل جميع الاقطار التي وقعت ضحية الاحتلال العثماني.  لقد عمت سياسة التتريك جميع شعوب تلك الاقطار، والمجازر كانت تطال من يحاول الانتفاض ضد الظلم العثماني (جمال الدين السفاح مثالا).  ولكن يجب التذكير بان المجازر التي شملت به السلطنة العثمانية الاقطار التي احتلتها شملت جميع الاديان والطوائف، بينما ما حصل في (سنة السيف) شمل المسيحيين من سريان وارمن وغيرهم.

ما جرى … وما يجري.. هل من يعتبر؟

من يقرأ مذكرات عبد المسيح قره باش، قد لايصدق ما احتوته من احداث.  وقد يتم تصورها كضرب من المبالغات قد تذهب باصحابها بان ما يروى ليس من الواقع بشيء.  وذلك لما احتوته من بشاعات القتل الجماعي قد يصل الى المئات في بعض الاحيان.  عمليات قتل ليست في مواجهات ميدانية بين فريقين مسلحين يهاجمون او يدافعون.  وانما بين فريق متسلح حتى الاسنان عدا الحس الانساني، هدفه القتل والقتل فقط،  وفريق اعزل من الرجال والشيوخ والنساء والاطفال.

في حديث لي مع صديق عزيز، بعد ان اخبرته عن هذا الكتاب ولمحات عن ماحدث من مجازر عكستها المذكرات.  كان متفاجئ من هول ما سمع. وطلب مني بصوت المتشكك، بضرورة التأكد من هذه المعلومات من مصادر موثقة، وهو محق في ذلك بشكل عام.  فكان جوابي بان ما اقوم به هو استعراض لهذه المذكرات التي سجلها الكاتب الذي دون الاحداث التي عايشها نفسه، وكذلك ماخبره به آخرين عايشوها.  ولكن على من يتم الاعتماد في توثيق الاحداث التاريخية؟  الا يعتمد المؤرخون على ما تحدث به المعايشون وما كتبوه، او السجلات الحكومية؟  ماذا لو كانت السجلات الحكومية ممنوعة على الباحثين عن الحقيقة؟

لنتصور ولو للحظة ان بعد 100 سنة من ألآن يكتب أحدهم عن ما حدثه جده من مشاهدات عايشها او سمعها  اوشهدها، حدثت في سوريا او العراق متضمنة سبي جماعي لنساء ايزديات واطفالهن بعد استباحة قراهن  وقتل رجالهن؛ عمليات تمزيق للصدور واكل اكباد الضحايا؛ مشاهد تلفزيونية لعمليات نحر جماعي للمخطوفين…..ألخ

 

أيتام سريان في مدينة أضنة 1919-1921 ، من ضحايا المجازر

مع ذلك هنالك وفي هذا الزمن من ينكر وجود مثل هذه الاحداث ويعتبرها تلفيقية.  وهنا يحضرني تصريح لنائبة برلمانية عراقية وعلمانية تمثل قائمة تدعي الوطنية، في تصريح لقناة تلفزيونية، حول الاوضاع الاجتماعية والسياسية في مدينة الموصل بعد احتلالها من قبل داعش.  فكان تعليقها ( كونها من مدينة الموصل) بان الناس هناك، حسب المعلومات التي تصلها، مرتاحين ويعيشون بسلام، وهم حقيقة قلقين على الذين يعيشون خارج الموصل.  هذا الوصف والموصل مستباحة من قبل داعش.  فهل نصدقها ونكذب من عايش المأسات؟

 

في تصديره لكتاب الدم المراق، يذكر (Nineb Lamassu) وهو الباحث المساعد في كلية دراسات الشرق الاوسط وآسيا في جامعة كامبريدج، انه وفي زيارته الدراسية  لجنوب تركيا في صيف 2013، قام بزيارة قرية قره باش. واثناء التجوال شاهد صف من الابراج الطويلة المشابهة للمنائر.  وعندما سألوا السكان عن تاريخ قريتهم، اخبروه بان القرية لم تكن مسيحية، بل كانت طول الوقت اسلامية ودليلهم هي ان الابراج التي شاهدوها هي بقايا منارات الجوامع التي كانت موجودة.  وبعد ذلك يقول (Lamassu) تقدم منهم شاب يظهر عليه انه اكثر ثقافة وقال لهم بان القرية كانت قبل حدوث الابادة أرمنية، الأرمن كانوا هنا.  ثم تقدم منهم رجل كبير بالعمر متوكئا على عصاه، متوجها الى المتجمهرين قائلا بان القرية كانت قرية سريانية.  وانها قرية الاستاذ عبد المسيح قره باش.  ويضيف صاحب المقدمة بانهم سرعان ما علموا من الرجل الكهل بانه يعيش الان فعليا في بيت عبد المسيح قره باشي، وانه قد قابله.

ويتحدث (Lamassu) كذلك عن الاب يوسف أكبولات، الذي أعتقلته السلطات التركية في عام 2000 حيث وجهت اليه تهمة الخيانه والسبب جوابه لمراسل صحيفة (حرييت) التركية، عن ابادة الارمن، قائلا” ليس الارمن وحدهم من تعرض للإبادة في 1915 وانما السريان كذلك “.  وتم اطلاق سراح الاب بعد حملة تضامن كبيرة.

وفي لقائه مع الاب يوسف أكبولات، عرف بإنه يحتفظ بسجلات المعمودية لسكان منطقة ديار بكر قبل وبعد الابادة الجماعية للسريان.  وتبين السجلات حسب ما يقول الاب وجود تمايز كبير بين الرقم الكبير لعدد المعموديات قبل (سنة السيف) والانحدار الحاد للعدد مابعد (سنة السيف).  فمنذ نيسان 1915 لم يوجد اي تسجيل لمعمدية حتى تشرين الاول 1917.  كما يوضح السجل بان عدد القرى التي ولد فيها الاطفال المعمدين، قبل (سنة السيف)، كانت اكثر بكثير من عدد القرى التي ولد فيها اطفال معمدين بعد (سنة السيف).

لقد راينا ما جرى، والذي قد يثير بعض الشكوك في  امكانية، على الاقل، وجود مبالغات في سردها.  لكن اذا استقرأنا ماذا يجري من مشاهد وماشهدناه خلال العشرة سنوات الماضية، قد نجد المصداقية لما رُوي من احداث في المذكرات.  فلنقارن!

فمع بداية احداث ما يُسمى (الربيع العربي) وصعود نجم حركات الاخوان (المسلمين)، ومحاولتها للهيمنة على الواجهة السياسية، صحى من نومه ذات صباح، حاكم تركيا المعاصرة على ايقاع حلم راوده بانه وريث السلطنة العثمانية وبه أُنيطت مهمة استعادة الخلافة العثمانية لقيادة العالم الاسلامي(الشئ الذي إدعاه سابقا السلطان عبد الحميد – راجع ما سبق).  فأعاد الى المشهد اساليب القهر والظلم نفسها، مع الاخذ بالاعتبار التطور الحاصل في المجالات المختلفة.  فكان النظير للأفواج الحميدية هو تشكيل منظمات الارهاب التكفيري تحت شعارات الدين والطورانية العثمانية.  والامثلة على ذلك: لواء السلطان مراد؛ الحزب الاسلامي التركستاني؛ تنظيم الدولة (الإسلامية)؛ تنظيم حراس الدين..الخ.  قد يكون الفرق الوحيد هو ان هذه التنظيمات تظم الكثير من الجنسيات من انحاء العالم.  كما ان هذه التنظيمات حصلت على دعم مخابراتي ولوجستي ليس من تركيا فقط وانما من اوربا ايضا بالاضافة الى الدعم الخليجي  والدافع هو الدور المرسوم والمناط لهذه التنظيمات ان تلعبه في الدفع بالمشروع الامريكي الصهيوني لتقسيم المنطقة وتفتيتها.  ان التشابه في اساليب البطش والقتل والاستباحة لايمكن الا الاقرار به. والامثلة كثيرة،: استباحة القرى؛ سبي النساء، بيع وشراء النساء المسبيات؛ نحر الرجال وحتى الاطفال؛ تصوير عمليات النحر ونشرها على التواصل الاجتماعي (وهذا الشيء الوحيد الذي لم يحدث ايام مجازر 1914\1915)؛ مجازر القتل الجماعي في سبايكر في العراق مع التصوير والنشر؛  القتل الجماعي ودفن الجثث في حفر كبيرة.  كل هذا حدث في القرن 21، فهل من المستغرب الا يحدث قبل ما يقارب المائة عام؟

مع ان الاستباحة كانت شاملة ولكن استهداف المسيحيين وكذلك الايزيديين كان الاكثر وضوحا.  كان يُراد ان يتم اعطاء غطاء ديني ومذهبي لعمليات التطهير العرقي، واعتبار ما يجري هو صراع ديني (صراع اسلامي –مسيحي).  ولكن دخول عامل مهم على خط الصراع افشل هذا المخطط.  هذا العامل هو نهوض مقاومة وطنية واعية وتصديها المبكر لقوى الارهاب ومشغليهم في العراق وسوريا ولبنان.  هذه القوى هي فصائل المقاومة الاسلامية. لقد تعدى دور هذه الفصائل بالتصدي للأرهاب ودحره وكشف التواطوء الغربي والاقليمي في خلق هذا الارهاب وتمويله، الى الحماية الفعالة للمكونات الاثنية والدينية في المنطقة والبيوت الدينية لها.  كما استطاعت ان تقوي اللحمة الوطنية فيما بين جميع المكونات المجتمعية بانظمام فصائل مقاومة من بقية المكونات لعمودها الفقري المتمثل في العراق بالحشد الشعبي في العراق . وهكذا استطاعت هذه المقاومة الوطنية من خلال الآلاف من الشهداء من كشف حقيقة  الصراع في المنطقة وافشال المحاولات الغربية لإفراغ المنطقة من مكون اساسي له.

ويبقى الجرح مفتوح ……!؟

ويبقى (جرح) الابادة العرقية التي حدثت للسريان مفتوحا، مادامت العدالة الانسانية للضحايا، لم تتحقق لحد الآن.

لم يكن هو الجرح الوحيد في تاريخ الانسانية.  فقد سبقته وأعقبته الكثير من الجروح التي لازالت تقبح وجه هذا التاريخ.  فعدا جرح إبادة الارمن، شهدت الانسانية جرح ابادة سكان امريكا الاصليين (الهنود الحمر) على يد المستعمرين الاوربيين؛ إبادة   سكان استراليا ونيوزيلنده الاصليين مرة ثانية على يد المستعمريين الاوربيين؛ عدا حملات الابادة التي شنها الاستعمار الأوربي في أفريقيا.ولاننسى حملة الابادة للشعب الفلسطيني التي بدأت ما بعد حملة الابادة للسريان والارمن، والذي اشعل شرارتها وعد بلفور المشؤوم.

ولكن يبقى لجرح ابادة السريان فرادته واهميته المعاصرة.  ليس للشعب السرياني وحده وانما لجميع المكونات الاثنية في المنطقة.  لإن ما جرى للشعب السرياني قبل ما يقارب المائة عام، لا يزال يجري في المنطقة منذ عشرة سنوات ولحد الآن في سوريا والعراق!

ان رد الاعتبار لضحايا الابادة وللشعب السرياني عموما يحتاج اعتراف من الدولة الوريثة للنظام الذي تحت سيادته تمت المجازر، الشيء الذي يبدوا من الصعوبة بمكان، وذلك بسبب النهج القوماني الشوفيني الذي زرعته السلطة العثمانية والأنظمة التي اعقبتها داخل المجتمع، بالاضافة الى الحصار الاعلامي المفروض على احداث المجازر مما ادى الى ضعف في الذاكرة التاريخية.

ان حركة شعبية ينخرط فيها مثقفون وسياسيون، تعز عليهم القضية الانسانية تستطيع استرجاع الذاكرة التاريخية لا لغرض الانتقام بل المصالحة التي تساعد على الغاء الانكار المستمر لما حدث.

حركة تضامن انسانية لا من باب التعاطف والشفقة مع ورثة هذا الجرح الأليم، وانما تضامن ينبع من كوننا اصحاب الجرح ايضا، تضامن مع انفسنا ندافع فيه عن القيم الانسانية التي نؤمن بها.  وبهذا وحده نستطيع جميعا سريان، اكراد، عرب وبقية المكونات الاثنية المترسخة جذورها في المنطقة الإحساس بقوة تنوعنا وجماله.

وهنا لابد من ذكر مساهمة مثقفين اتراك في محاولات استرجاع هذه الذاكرة.  والمثال الذي صادفته هومساهمة الروائية التركية المعروفة (أليف شافاق) في روايتها المتميزة (نغل اسطنبول).  حيث حاولت ابراز مسألة ابادة الارمن على لسان احدى الشخصيات في الرواية، مما عرضها لمتاعب مع الحكومة.

واخيرا لابد من التذكير ان تحقيق العدالة لضحايا المجازر في العالم ومنها المجزرة التي لحقت بالشعب السرياني لايمكن لها ان تتحقق بالصورة الإنسانية المرجوة من خلال اللجوء الى من تلطخت اياديهم بالمجازر او سمحوا وغطوا عليها.  فلا يمكن اللجوء للكونغرس الامريكي، على سبيل المثال، في ذلك.  فعدا جرائم الابادة ضد الهنود الحمر، كلنا يعرف بان حروب الابادة في العراق، من حصار اقتصادي وتدمير حربي مباشر، والحروب الارهابية في سوريا وحصارها الاقتصادي، كلها جرت بإرادة من مجمع الحرب المسمى (الكونغرس الامريكي). ان الذي يحاول الاستنجاد بمثل هذه المؤسسات هو (كالمستجير من الرمضاء بالنار).

 

uruk1934@gmail.com

 

عبدالمسيح قره باشي

كتاباتــه:

خدم الأستاذ عبد المسيح اللغة السريانية طيلة حياته بالتدريس والكتابة. ومن مؤلفاته:

  • سلسلة كتب مدرسية تعليمية: 10 اجزاء.
  • قواعد ونحو اللغة – 4 اجزاء.
  • الدم المسفوك مجازر ومذابح السريان في ما بين النهرين : يتحدث فيه عن القتل والاضطهاد الذي وقع خلال الحرب العالمية الاولى في جنوب شرق تركيا.
  • ترانيم الكنيسة.
  • قصائد مختلفة وخمريات.

ترجماته

  • وهي الكتب التي قام بترجمتها من العربية إلى السريانية:
  • كتاب (النبي ) و (يسوع ابن الانسان) لجبران خليل جبران.
  • مقالة (الوجود) لميخائيل نعيمة.
  • اسطورة جلجاميش.
  • قوانين حمورابي.
  • تاريخ كلدو وآثور للمطران الشهيد ادي شي
  • رباعيات الشاعر الفارسي عمر الخيام (351 بيتا).
  • كتاب (الاوجه) لميخائيل نعيمة.
  • روائع الشاعر الهندي طاغور: غيتانجالي، قطف الثمار، البستاني.
  • قصائد الحب: لشعراء عالميين مشهورين

 

المراجع

  • David Gaunt, The Assyrian Genocide- When, Where, How. SEYFO Center
  • David Gaunt, SEYFO, The Assyrian Genocide – When, Where, How. Gorias Press

شاهد أيضاً

الولايات المتحدة و”إسرائيل” شركاء حقيقيون في الإبادة الجماعية…بقلم م. ميشيل كلاغاصي

بإجماع الدول والقادة ورجال القانون والساسة والإعلاميين وكافة البشر, لا يمكن النظر إلى الإبادة الجماعية …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024