“قانون تعديل الجنسية”، الذي صوّت عليه مؤخرا البرلمان الهندي بمجلسيه، يشرّع (بوضوح أقصى، صاعق وصارخ، وصفيق أيضا إذْ يصدر عن هيئة ديمقراطية منتخبة) تسهيل منح الجنسية للاجئين من أبناء الأقليات ذات الانتماء إلى كلّ أديان بنغلاديش وباكستان وأفغانستان، أي الهندوس والمسيحيين والبوذيين والسيخ والبارسيين والجاينيين؛ ولكنه يستثني دينا واحدا وحيدا، هو الإسلام. ورقة التين، التي يُراد منها أن تغطي سوءات هذا القانون الأخلاقية والمدنية والحقوقية، لا تقول الكثير أبعد من اللغة الغوغائية الجوفاء: أنه ليس ضدّ مسلمي الهند (14% من السكان، وقرابة 200 مليون)، ولا يستهدف سوى إنصاف أبناء الأقليات من الأديان الأخرى.
وحين يُسأل أميت شان، وزير الداخلية الهندي ومهندس المشروع والرجل الثاني الأقوى في البلاد بعد رئيس الوزراء نارندرا مودي: ماذا عن لاجئي الروهينغيا المسلمين، الهاربين من الاضطهاد العرقي والديني في ميانمار؛ فإنّ الوزير لا يميل إلى أية لغة دبلوماسية، إذْ… لا يكترث، أصلا، بالإجابة عن السؤال!
ذلك لأنّ هذا القانون كان أحد أبرز الوعود الانتخابية التي أمّنت لحزب مودي، جاناتا بارتا (“حزب الشعب”)، أغلبية كاسحة في الانتخابات التشريعية لشهر أيار (مايو) الماضي، إذْ فاز مرشحوه بعدد من المقاعد فاق ما حققه الحزب في دورة 2014.
وكان على أجندة مودي وعد ثان يسير في نفس السياق، جرى الالتزام به فعليا، وهو إجراء تدقيق إداري صارم، وشبه تعجيزي في الواقع، يُلزم جميع مواطني ولاية أسام بإثبات حقهم في حمل الجنسية على أساس معيار سكنهم في البلد منذ عام 1971. وهنا، أيضا، وبالنظر إلى الأغلبية المسلمة في هذه الولاية، كان واضحا أنّ الديانة الإسلامية هي المستهدفة، وأنّ سحب الجنسية على نطاق واسع من سكانها (قرابة مليونَيْ نسمة) سوف يُكسب الهندوس توازنا ديموغرافيا من نوع ما؛ حتى على حساب القانون، وضمن معايير تمييزية دينية وعرقية فاضحة.
وفي الخلفيات الثقافية لهذه الانتصارات، اعتمد “حزب الشعب” خطابا قومويا هندوسيا لا تخفى عصبياته الكبرى، التي تأتي في طليعتها حكاية إحلال المعبد الهندوسي محلّ أيّ مسجد، أو على أطلاله إذا تعرّض للهدم أو الإحراق أو النسف بأيدي غلاة الهندوس؛ الأمر الذي ينطوي، استطرادا، على تأثيم التراث الذي صنعه ويواصل صناعته مسلمو الهند، حتى إذا كان في قلب تراثهم مبنى تاج محل، أيقونة الهند الكونية. المآل المنطقي التالي هو انفتاح الحزب على رجال الأعمال الأكثر ثراء في الهند، واعتماد السياسات الاقتصادية والاستثمارية الأفضل خدمة لمشاريعهم، والتي يحدث أنها الأشدّ وطأة على ملايين الفقراء؛ حتى إذا اقتضى الأمر إجراءات تحدّ من القدرة الشرائية للمواطن العادي، على غرار إلغاء الأوراق النقدية من فئة 500 و1000 روبية.
ومن نافل القول إنّ “حزب الشعب” صعد إلى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع، وليس البتة بفعل أيّ تطوّر غير ديمقراطي أو غير شرعي، وكذلك لأنه هزم أحزاب المعارضة الكبرى وعلى رأسها “حزب المؤتمر” الذي تسيّد الحياة السياسية في البلاد طوال عقود، وإليه يُنسب الإرث السياسي العلماني والاقتصادي ــ الاجتماعي الليبرالي لآل غاندي وآل نهرو.
وبهذا المعنى فإنّ القوانين التي يسنها الحزب الحاكم، عبر أغلبيته المريحة في المجلسين، لا تتسم بالشرعية القانونية فحسب؛ بل لا تصحّ مقاومتها إلا بالوسائل السلمية عن طريق الاحتجاج المشروع والعصيان المدني واللجوء إلى سلطة القضاء. وهكذا تُفهم التظاهرات التي اجتاحت الهند بأسرها، وليس في المناطق ذات الأغلبية المسلمة وحدها؛ وهكذا يُفهم اللجوء إلى المحكمة العليا لنقض “قانون تعديل الجنسية”، بوصفه مخالفا للدستور ومبدأ مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات.
مظاهر انحراف “حزب الشعب” الهندي نحو العنصرية وترجيح مبدأ الديانة في احتساب المواطنة، والتطهير العرقي استطرادا، ينبغي أن تثير القلق، والخوف الشديد على التجربة بأسرها أيضا
وهكذا، على المنوال ذاته، يُفهم موقف هارش ماندير، الكاتب والناشط الهندي البارز في ميدان حقوق الإنسان، الذي أعلن التالي: “لقد اتخذت قراري حول شكل العصيان المدني الذي سأعتمده. إذا سُنّ قانون تعديل الجنسية، سوف أتضامن مع أولئك الذين ستتأذى جنسياتهم أوّلا، عن طريق إعلان نفسي مسلما.
وحين ينتظم تدقيق قيد النفوس الوطني، سوف أقاطعه، وسأرفض تقديم أية وثيقة تثبت جنسيتي الهندية. ثمّ سأطلب أن تُفرض عليّ العقوبة ذاتها التي سوف يخضع لها أخواتي وأخوتي المسلمون بموجب القانون الجديد، سواء شملت التوقيف أو سحب حقوق المواطنة التي أتمتع بها”. وماندير، للإيضاح المفيد، وليد عائلة من السيخ لا يتضامن مع ضحايا القانون الجديد على أيّ مرتكز آخر سوى المواطنة والمساواة في الحقوق واحترام الدستور.
ويجدر التذكير بأنّ الهند، حين أحرزت استقلالها في العام 1947، كانت تُسمى “درّة التاج” البريطاني، لأنها بالفعل توّجت عشرات الشعوب التي حكمها الاستعمار الإنكليزي في مشارق الأرض ومغاربها. ويومذاك، قبل 70 سنة ونيف، كان جواهر لال نهرو قد قطع على نفسه ثلاثة وعود، ألزم بها حزبه أيضا: تأسيس نظام ديمقراطي تعددي، واجتثاث انعدام المساواة الاجتماعية، وإقامة بنية اقتصادية وطنية حديثة وحداثية.
ولقد بدت تلك الوعود أقرب إلى أحلام غير قابلة للتحقق، في ضوء سلسلة من الحقائق التي التصقت على الفور بالدولة الوليدة: أنها قارّة هائلة المساحة مترامية الأطراف، تراثاتها الدينية والثقافية الآسيوية متقاطعة متنافرة أحيانا، تحمل على كاهلها أثقال التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، قوامها خليط عالي الانفجار من موزاييك إثني ومذهبي، وانشطرت ساعة استقلالها إلى هند هندوسية/ مسلمة وباكستان مسلمة/ هندوسية…
لكنّ الزمن حوّل الهند إلى واحدة من أبرز مكوّنات النظام ما بعد الاستعماري الذي عرفه التاريخ تحت اسم “كتلة عدم الانحياز”، حين كان العالم منشطرا إلى استقطابَين موزّعَين على كتلة رأسمالية وأخرى اشتراكية؛ ثمّ وضعها على خارطة العالم المعاصر تحت صفة الديمقراطية الأكبر على الإطلاق: بمصطلح الأرقام أوّلا (قرابة 900 مليون ناخب، ونحو مليون مركز اقتراع)، وزمن التصويت (سبع مراحل، على امتداد 39 يوما)، والإنفاق المالي على الحملات الانتخابية (سبعة مليارات)، في الانتخابات الأخيرة؛ أمّا في انتخابات 2014، فقد كانت الأرقام هكذا: 551 مليون ناخب، صوّتوا في 930,000 مركز اقتراع، واستهلكوا من حبر التصويت قرابة 15,000 لتر!
كذلك يجدر التذكير بأنّ انتصارات مودي وحزبه اقترنت بسلسلة أسباب تخصّ شخصه، ليست جميعها محلّ اعتزاز؛ لأنه متهم بتشجيع أعمال العنف ضدّ المسلمين في ولاية غوجارات، التي تولى حكمها طوال سنوات، وأسفرت عن مقتل المئات؛ وماضيه، غير البعيد تماما، يشير إلى انتماءات قوموية الطابع، متأثرة بالنازية، عنصرية بصفة عامة، وضدّ الإسلام والمسلمين خصوصا.
لكنّ الناخب الهندي شاء ترقيته، لأسباب كهذه دون ريب، ولكن أيضا لاعتبارات سياسية واقتصادية تتصل بسوء أداء “حزب المؤتمر”، وتعلّقا بآمال وعد بها مودي: تنشيط الاقتصاد، وتفعيل الاستثمارات، وإخراج سوق العمل من الركود الراهن، وتطوير اقتصاديات البلد. اليوم، وبعد خمس سنوات في الحكم، لا يلوح أنّ تلك الوعود قد تحققت بالزخم الذي بدت عليه عند إطلاقها، ولعلّ هذا يفسّر ركون مودي إلى الإجراءات الشعبوية التي تكفل له إعادة رصّ صفوف أنصاره على ركائز عنصرية وقوموية وهندوسية.
ولأنّ تجربة الهند يتوجب أن تكون غالية على جميع ديمقراطيي العالم، ولدى الشعوب النامية خاصة؛ ولأنّ دستورها، في جوانبه العلمانية والتعددية تحديدا، بدأ أمثولة وهكذا يستحقّ أن يبقى؛ فإنّ مظاهر انحراف “حزب الشعب” الهندي نحو العنصرية وترجيح مبدأ الديانة في احتساب المواطنة، والتطهير العرقي استطرادا، ينبغي أن تثير القلق؛ والخوف الشديد على التجربة بأسرها أيضا.
(القدس العربي)