السبت , 9 نوفمبر 2024

الجولة الثانية للإنتخابات التركية في ميزان الصراعات الداخلية والدولية…بقلم المهندس ميشيل كلاغاصي

على الرغم من الأزمات والصراعات والحروب التي تعصف حول العالم , استطاعت وسائل الإعلام سرقة كافة الأضواء وتسخيرها لخدمة الإنتخابات الرئاسية التركية , وما رافقها من إنتخاباتٍ برلمانية , ستكون تركيا وعشرات الدول معنيةً بنتائجها لعقود قادمة , فالحديث عن تركيا لا يشبه الحديث عن غير دول , وهي التي تنفرد بموقعها الجغرافي المميز الذي ضمن لها دائماً مقعداً أمامياً في المشهد التاريخي والسياسي والعسكري والتجاري والإقتصادي , ووضعها في قلب كافة الأحداث الإقليمية والدولية , ومنحها مكانةً جيوسياسية , ضمنت لها الأرباح في لعبة أرجحة التوازن ما بين الشرق والغرب , بما يتجاوز خسائرها ومشاعر الكراهية الغربية تجاهها , وأصبحت على مدى 20 عاماً , رقماً صعباً في علاقات السلم والحرب , والصراعات الإقليمية والدولية , خصوصاً في ظل حكم الرئيس رجب طيب إردوغان.
فقد استطاع من خلال قدرته على المناورة والخداع والتنصل من الوعود الداخلية والإتفاقيات الدولية , وبراعته بكسب اللحظة , تحصين الموقع والدور الجيوسياسي لبلاده , ورفع سقف المقامرة السياسية والعسكرية لبلاده , وبتفاديه الوقوف مطولاً على الألغام الدولية شديدة الخطورة قبيل انفجارها , وبات الحمل ثقيلٌ على من سيخلفه في حال خسارته الإنتخابات الحالية.
ومع ذلك , لم يستطع إنقاذ نفسه من تبعات سياساته الداخلية والإستبداد والهيمنة والقبضة الأمنية الحديدية , ومصادرة الحريات , وخطورة زج ضباط الجيش ومعارضيه السياسيين والصحفيين والإعلاميين والنشطاء الحقوقيين والمدونين على مواقع التواصل الإجتماعي , في السجون, ناهيك عن الأخطاء الفادحة لسياساته المالية والإقتصادية , وسط تفشي الفساد , وإعتماده على طبقة الفاسدين في العائلة الحاكمة , والمقربين داخل حزب العدالة والتنمية , أمورٌ تسببت بمجملها بإدخال البلاد بحالة التضخم , وبتراجع القيمة الشرائية لليرة التركية ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة , لامست في كثير من الأوقات اقتراب إقتصاد الدولة التركية من الإنهيار, وعليه تضاعفت أعداد من يبحثون عن الخلاص من حكمه , ويجدون في الإنتخابات الحالية الفرصة الملائمة للخلاص.
وعلى المقلب المعارض , وجد المرشح الرئاسي كمال كليجدارأوغلو الفرصة لعقد التحالف المعارض من ستة أحزاب وقيادتها تحت زعامته , وقدم برامج إنتخابية غير واضحة , بدت عناوينها تصب في خانة الردود على حملة إردوغان ومجمل سياساته , والتصويب على نقاط وأماكن ضعفها , وقدم من الوعود “الوردية” ما يكفي لإظهار تركيا في حال فوزه , دولةً ديمقراطية , مسالمة , قادرة على العيش يودٍ ووئام في محيطها الإقليمي والدولي , متجاهلاً طبيعة تركيا كإمبراطورية استعمارٍ قديم – حديث , وكدولة أطلسية وحليفة لروسيا في اّنٍ واحد , وكدولة دينية مسلمة عثمانية القلب والهوى , إخوانية السلوك , والحائرة ما بين التدين والعلمانية , وما بين القومية الواحدة وتعدد القوميات , ما بين الإختلافات الإيديولوجية في مجتمعاتها.
هكذا اتجه ما يقارب الـ 64 مليون ناخبٍ تركي في صباح يوم الأحد 14/مايو , نحو صناديق الإقتراع داخل وخارج تركيا , في يومٍ انتخابي طويل , ترقبت فيه عيون العالم بحذر فوز أو سقوط الرئيس رجب طيب إردوغان , وسط الصراع الداخلي والخارجي , في عالمٍ مضطرب لم يحسم معاركه بعد في جميع الساحات الإقليمية والدولية المجاورة لتركيا , والحرب الغربية – الأطلسية – الأوكرانية على روسيا , وعلى ضفاف عالمٍ عربي تتغير ملامحه ويتجه نحو الاستقرار والتوازن والمصالحة مع ذاته ودوله وشعوبه , ومع جيرانه ومن كانوا ألد أعدائه في الأمس القريب , وعلى وقع استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة والشعب الفلسطيني , وهو الكيان والحليف الإستراتيجي لتركيا سواء كان إردوغان الذي قدم نفسه “قائداً سنياً” , أم كليجدار أوغلو “كقائد علوي” على رأس السلطة فيها.
ساعات طويلة , وانتهى اليوم الإنتخابي وعملية فرز الأصوات , وبحسب وكالة الأناضول , فقد حصد فيها الرئيس إردوغان 49.50% من مجمل الأصوات , فيما حقق منافسه كليجدار أوغلو على 44.89% منها , واكتفى المرشح سنان أوغان بنسبة 5.17 % , والذي فاجىء الجميع بتلك النسبة , وحصل المرشح المنسحب محرم إينجه على نسبة 0.44% , ووفق هذه النتائج , تأجل الحسم إلى الجولة الثانية المقررة يوم 28 مايو/أيار , وانحصر السباق الرئاسي بالمرشحين إردوغان وأوغلو.
ومن اللافت أن تمتدح كافة الأطراف المتنافسة نتائج الجولة الأولى للإنتخابات الرئاسية والبرلمانية , وسط التهليل والمفاخرة بالديمقراطية التركية , وهي التي لا تملك تاريخاً يؤيد وصفها بالديمقراطية الخالصة , وبخلوها من عمليات التلاعب والتزوير, ومع ذلك دعت المخضرمة ميرال إكشنار كلا الطرفين إلى إحترام نتائج الانتخابات , وسط تأكيد إردوغان وكليجدار أوغلو , على قبولهما برأي الشعب وما ستسفرعنه النتائج النهائية للإنتخابات.
وفي أجواء غابت فيها الإنتقادات الداخلية والخارجية , أثارت “ديمقراطية” العملية الانتخابية التركية , إعجاب بعض البرلمانيين الأردنيين , ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين , التي اعتبرتها “مكسباً جيداً” , فيما وصفها الرئيس التركي بـ “العرس الديمقراطي الجديد” , في مشهدٍ يستحضر المثل القائل “إن حضرت الملائكة انصرفت الشياطين” , ويدعو للتساؤل أين ذهب استبداد السلطة , قمعها للحريات , وملاحقة طلاب الجامعات , وإكتظاظ السجون بالضباط وبأصحاب الأقلام والصحفيين وكل من يخالف “السلطان” , أي حدثٍ هذا وأي يومٍ “مبارك” , حلت فيه الديمقراطية وغسلت عار السنوات الماضية , وغابت فيه أجهزة الإستخبارات التركية , وحلت فيه الملائكة محل الشياطين؟.
في وقتٍ تحدث فيه المسؤولون الأتراك عن إتمام العملية الانتخابية بعيداً عن التدخلات الخارجية , يمكن ملاحظة تكثيف وسائل الإعلام الأمريكية تركيزها للترويج على هزيمة الرئيس إردوغان , وتأكيد المتحدث بإسم الكرملين ديمتري بيسكوف بأن تركيا “دولة ديمقراطية ناضجة قادرة على إجراء انتخابات شفافة ومنع حدوث مخالفات قانونية” , كذلك تأكيده على”أمل موسكو في استمرار العلاقات الوثيقة مع تركيا بعض النظر عن الفائز بالإنتخابات”.
في الحقيقة , لا يمكن التعويل على فكرة عدم التدخل الخارجي في الإنتخابات التركية , وإن بدت الأجواء هادئة , فمن المعروف أن جميع مفاصل الدولة التركية الحديثة أمريكية وغربية الصنع , ومع ذلك فهي تبدي تداخلاً معقداً وقوياً في العلاقات مع روسيا والصين وإيران ودول الإتحاد الأوراسي , والدول الاّسيوية , ما يجعل القرار التركي خارجي أكثر منه داخلي , وقد يفسر الهدوء الحالي , بتوافقٍ أمريكي – روسي , على عدم حسم المعركة , والإبقاء على الرئيس إردوغان , بنسب نجاحٍ تقيد نظام حكمه الرئاسي , وبنزع أظافره في البرلمان التركي بتقاسم المقاعد الـ 600 بالمناصفة مع التحالف المعارض , وهنا يبرز دور المنسحب سنان أوغان الحائز على بنسبة 5.17 % , بما يقارب الـ 3 ملايين صوت , وعليه قد يكون لتلك الأصوات أهميتها الكبيرة , وقدرتها على ترجيح كفة الرئيس إردوغان أو أوغلو في الجولة الانتخابية الثانية , فهل يفعلها سنان أوغان وعلى طريقة ميلونشون الفرنسي , الذي قامر بأصواته ما بين لوبان وماكرون في فرنسا ؟ , وهل سيمر التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية عبر “ملعبه” ؟.
لكن , وعلى ما يبدو تعمّد تحالف الأجداد على إظهار الإختلافات الحقيقية والجدية داخل التحالف , لتبريرعدم وقوفه في الجولة الانتخابية الثانية وقفة رجلٍ واحد , وانقسامه التكتيكي على قاعدةٍ مصالحية إلى فريقين , ما بين سنان أوغان وأوميت أوزاغ رئيس حزب النصر, فمن جهةٍ أعلن الأول دعمه وتصويت مؤيديه لصالح الرئيس إردوغان , فيما ذهب الثاني نحو دعم مرشح المعارضة كليجدار أوغلو , وعلق كل منهما مواقفه على شماعة الشعارات والمواقف التاريخية الثابتة لحزبيهما , وعلى قاعدة عدم التوافق ما بين أصوات الأكراد والقوميين اليمينيين.
ومن خلال مؤتمرٍ صحفي عقده سنان أوغان يوم الاثنين الماضي , دعمه الصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التي ستجري في 28 من الشهر الجاري , أكد فيه بأن المعارضة التركية “لم تستطع إقناعنا ولم تتمكن من الحصول على أغلبية البرلمان”، مشددا على أن الرئيس الجديد يجب أن يكون في حالة توافق مع البرلمان , ونفى مطالبته بأي مناصب , وأن ما يهمه هو المصالح التركية , في وقت كثر فيه الحديث الداخلي عن إتخاذ سنان اوغان موقفه الداعم لإردوغان بعدما استقبله هذا الأخير في قصر “دولمة بهجة” في إسطنبول , ويبقى السؤال عن الطريقة التي أقنع فيها الرئيس إردوغان ضيفه بالتصويت له , في ظل نفيه المطالبة بمنصب نائب الرئيس ؟.
على الرغم من إستياء كل من موسكو وواشنطن , والتنافس الحاد بينهما للإستحواذ على مواقف الرئيس إردوغان لصالح كل منهما , إلا أنهما تبدوان بحاجةٍ إلى بقائه في السلطة , وبحاجة إلى استمرار أدوره اللا أطلسية , في عديد الملفات كإستعداده لتحدي النظام العالمي الحالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة , كذلك دوره في إتفاقية الحبوب , وبتحويل تركيا إلى مركزٍ دولي للغاز الروسي , وبإطلاقها كدولة نووية , ناهيك عن الصراع في أوكرانيا , وبالرغم من التواجد العسكري الإحتلالي في سورية والعراق , ودعمه الإرهاب , وانخراطه في الوقت ذاته في مفاوضات السلام والتسوية مع سورية تحت الرعاية الروسية والإيرانية , بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية ورفع مستوى التبادل التجاري مع روسيا , وهي بمجملها أمورٌ تعبر عن المستوى الرفيع للتعاون التركي الروسي , والتي لا تملك واشنطن سوى إظهار إمتعاضها منها.
ومع ذلك تحتفظ المعادلات التركية الداخلية بأهميتها , وبقدرة تأثيرها على الناخبين , في لحظة حاسمة من تاريخ تركيا , والتي يحتل فيها الإقتصاد مكانته على سلم إهتمامات المواطن التركي , في ظل الظروف الحالية التي تعيشها تركيا وغالبية دول العالم , كذلك تحافظ المعادلات الداخلية على حضورها في الانتخابات , على أنها جزء من مواجهةٍ ما بين الحركة الإسلامية التي يمثلها أردوغان والحركة العلمانية التي يمثلها كيليجدار أوغلو , وسط رهان البعض على إعتبار الانتخابات فرصةً لتغيير نظام الحكم في تركيا من نظام رئاسي إلى نظام برلماني , قادر على توزيع وتفاسم السلطة بشكل أكثر إنصافاً.
أخيراً .. يبدو الرهان على فوز كليجدار أوغلو , فرصة لإقتراب السياسة الخارجية التركية نحو الولايات المتحدة والغرب , في حين يبدو فوز الرئيس إردوغان فرصةً للحفاظ على التوازن ما بين الغرب وروسيا وحلفائها.

شاهد أيضاً

هوكستين ينسف القرار 1701.. مؤتمر باريس للدعم أم للتهويل والرشوة ؟… بقلم م. ميشال كلاغاصي

نجحت وسائل الإعلام الأمريكية والفرنسية بتعميم مصطلحات جديدة لتوصيف تحركات الموفد الأمريكي إلى لبنان عاموس …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024