على الرغم من هزيمتها في الحرب العالمية الثانية إلى جانب حلفائها الغربيين , إلاّ أن الكثيرين يعتقدون أن ألمانيا مُنحت دوراً خفياً داخل الشراكة المتوحشة التي إبرمتها الولايات المتحدة مع دول غرب أوروبا بعد انتهاء الحرب , نظراً لتجذر الجينات والنزعات العنصرية في إيديولوجيتها النازية , والتي لا تزال تجد لها أرضية خصبة لدى بعض الأحزاب وأجزاء من الشارع الألماني , بالإضافة إلى قدرتها على إدارة وتحريك الإقتصاد الألماني , الذي أثبت قوة كافية لإعتباره نواةً ومركزاً للإتحاد الأوروبي , لكنها اصدمت على مر العقود بالإصرار الفرنسي على منافستها في قيادة أوروبا والإتحاد الأوروبي , في وقتٍ لم تستطع فيه برلين إثبات قدراتها السياسية والعسكرية لقيادة الغرب الأوروبي , في حين استطاعت فرنسا كسب بعض جولات المنافسة بالنقاط , وأظهرت تفوقاً عسكرياً , لطالما أثار حفيظة القيادات الألمانية , ودفعها لتكثيف جهودها على إعادة بناء قدراتها العسكرية , ليس بهدف قيادة أوروبا فحسب , بل لأجل المشروع الألماني القديم – الجديد , الذي دفعت ألمانيا ثمنه هزيمةً عسكرية قاسية وتقسيماً وجداراً اسمنتياً فصلها في وقتٍ من الأوقات إلى شطرين.
على مرّ الزمن , لم تؤمن ألمانيا يوماً بتراجع مكانتها التي لطالما حلمت بها , واستمر اعتقادها خلال السنوات الأخيرة ، حيث حاولت المستشارة انجيلا ميركل استغلال المخطط الأمريكي في أوكرانيا منذ عام 2014 , واندفعت نحو قيادة الأوروبيين سياسياً في مواجهة روسيا , وضحت لأجل ذلك بالعلاقات الألمانية – الروسية , على أمل تنصيبها زعيمةً العالم الليبرالي على يد “المعلم” دونالد ترامب , وأتى من بعدها المستشار أولاف شولتز , ليستغل العملية العسكرية الروسية الخاصة , للإعلان عن برنامج تعزيز قدرات الجيش الألماني , ولنشر القوات الألمانية في أوروبا الشرقية.
لقد أدت محاولات ألمانيا لإعادة نفخ أكتافها ، إلى إثارة المخاوف والقلق المزمنين في عدد من الدول الأوروبية , رغم محاولاتها لإخفاؤهما حتى فيما بعد الحرب العالمية الثانية , وشكلا معاً أسباباً كافية لسعيهم بضم ألمانيا إلى حلف الناتو , في محاولة لكبح وضبط قدراتها الدفاعية من خلال الناتو ولاحقاً في ظل الإتحاد الأوروبي .
حاولت ألمانيا مع الأشهر الأولى للعملية الروسية الخاصة في أوكرانيا , أن تتصدر المشهد الدولي على أكتاف الموقف الألماني الداخلي , من خلال مواقف تبرز مصالحها الوطنية أولاً والأوروبية في الدرجة الثانية , على عكس الرئيس الفرنسي الذي واجه غضب شعبه حتى أثناء الإنتخابات الفرنسية , وتمسك بأعلام ومواقف الإتحاد الأوروبي ، وسجلت ألمانيا – على نهج ميركل – مواقف ورغبة أقرب إلى الإعتدال والإقتراب النسبي من المواقف الروسية , والرغبة بإنهاء الصراع والخصومة مع موسكو , عبر توحيد وتطوير نظام الأمن الجماعي في أوروبا , لكن شولتز ما لبث أن ابتعد عن هذا المنحى , وانخرط بشكلٍ كبير في دعم سياسة التعامل الحازم وبالعقوبات على روسيا , وتتالت المواقف الألمانية وسط تأكيدها يوماً بعد يوم دعمها السياسي والعسكري والمالي لنظام كييف , وسارت بعكس مصالح شعبها , الذي ترفض غالبية أحزابه ومتظاهريه استمرار الحرب على روسيا , واستقبال النازيين الأوكران على الأراضي الألمانية .
لقد فضح ضعف إئتلاف شولتز نفسه بنفسه , بعد أن مارس الألاعيب والخداع بحق الفرنسيين , الذين عادوا اليوم لإعادة إطلاق محطاتهم النووية , بعدما أوهمهم الألمان بإتجاههم نحو الطاقة البديلة والخضراء , كذلك خضوعهم لدفع التعويضات التي تطالب بها بولندا , ومثلها اليونان أيضاً , في وقتٍ أصبحت فيه أوكرانيا تملي على برلين ما يجب عليها فعله , ونوعية السلاح الذي ترغب به , ومقدار الأموال التي تحتاجها , لإستمرار حرب شولتز وإئتلافه على روسيا
لقد قصم تفجير أنابيب نورد ستريم 1 و2 ظهر ألمانيا , سياسياً ونال من هيبتها وسمعتها , ومن مستقبلها الاقتصادي , ومع ذلك لم تجرؤ على إدانة عملية التفجير, على الرغم من كونها أكبر المتضررين , وذهبت لتتعلق أكثر فأكثر بعربات قطار الفوضى الأمريكي , الذي يبحث عن سبب أو تبرير لعدم إلتزام أوكرانيا بإتفاقية مينسك , وقد يكون إتهام روسيا بتفجير تلك الخطوط , والتحقيق بعيداً عن وجود محققين أو خبراء روس مدخلاً أمريكياً خبيثاً , قادراً على جر الموقف الألماني ورائه , لإلقاء اللوم والمسؤولية الكاملة على روسيا.
إن توقف وصول الغاز الروسي الرخيص إلى ألمانيا , فعل فعلته ورفع أسعار الطاقة , ومواد التدفئة مع اقتراب البرد والثلوج الألمانية , ناهيك عن تضاعف تكاليف إنتاج كافة السلع في ألمانيا , وسط إغلاق العديد من المنشاّت الصناعية والإنتاجية.. كان من الأجدى للحكومة الألمانية أن تعترف بضعفها السياسي , وعدم قدرتها على قيادة الإتحاد الأوروبي , في ظل “الزعيم” والمحارب أولاف شولتز , الذي وصف العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا بأنها ” جزءٌ من “حملةٍ صليبية واسعة ضد الديمقراطية الليبرالية” , وانضم إلى ماكرون لجهة رفض الحرب العالمية واستمرار الحرب على روسيا , وانتقلا معاً إلى مرحلة تزويد نظام كييف بأنظمة دفاعٍ جوي مضادة للطائرات والصواريخ الروسية , متجاهلين ما صدر عن الكرملين بأن :” توريد أنظمة الدفاع الجوي إلى كييف سيطيل أمد الصراع , لكنه لن يؤثر على أهداف موسكو”.
يبدو أن أولاف شولتز قد ورط نفسه , وبات مجبراً على تعريف “الديمقراطية الليبرالية الغربية” التي ابتكرها الكاثوليك الأوروبي , وبتوضيحها للنازيين الأوكران ولصديقه فولوديمير زيلينسكي وصديقته الجديدة ليز تروس , ليكون أهم من أدولف هتلر بالنسبة لألمانيا وأوكرانيا وأوروبا والعالم.
الوسوماوكرانيا ميشيل كلاغاصي
شاهد أيضاً
ألمانيا تدفع ثمن أخطائها الإستراتيجية من غزة إلى أوكرانيا…بقلم م. ميشال كلاغاصي
لطالما دعيت بالمحرك الأوروبي بفضل صناعاتها التي ضمنت لها مكانةً إقتصادية هامة, وقوةً عسكرية لا يستهان بها, استطاعت من خلالها رسم حكايتها مع التاريخ القديم والحديث, هي ألمانيا التي خاضت حروبها العالمية وكادت...