بقلم جنات بن عبد الله |
أكد يوسف الشاهد في الكلمة التي توجه بها إلى الشعب التونسي مساء الأربعاء 17 أفريل 2019 أن “انجازاته” وانتصاراته في مجال مقاومة الفساد خلال سنتين تجاوزت بكثير ما أنجز خلال 60 سنة الماضية.
شهادة أراد من خلالها إثبات نجاح الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي انخرطت فيها حكومته، إلا أننا إذا ما أسقطناها على حياة المواطن التونسي وعلى الاقتصاد الوطني فإننا نصطدم بواقع رهيب يعكس “انجازات” حكومة ولكن في مجال تفقير الشعب وتركيعه، وتدمير الاقتصاد التونسي ورهنه للوبيات داخلية وخارجية .
هذه “الانجازات الكبرى” التي تتقاطع مع “الإصلاحات الكبرى” لصندوق النقد الدولي من جهة، وانتظارات الاتحاد الأوروبي من اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق من جهة ثانية، بشرنا الشاهد بتعميقها وتعزيزها خلال الستة أشهر المقبلة بفضل خارطة طريق، صممت على ضوء مقتضيات هذا التقاطع، والتي تتضمن الجولة الرابعة من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا” التي ستنطلق يوم 29 أفريل الجاري، والتي ستتوج قبل موفى هذه الفترة بالتوقيع عليها رغم رفض عدد من المنظمات النقابية والمهنية لها ومطالبتها، إلى جانب عدد من الخبراء الاقتصاديين، بإيقاف المفاوضات.
والى جانب تهديداتها ومخاطرها على سيادتنا الوطنية وأمننا الاقتصادي والغذائي والثقافي والمالي، تمثل هذه الاتفاقية تهديدات على الموقف الثابت للشعب التونسي تجاه القضية الفلسطينية ورفضه التطبيع مع الكيان الصهيوني بمختلف أشكاله السياسية والاقتصادية والثقافية بما يجعلها أخطر من اتفاقية الحماية لسنة 1881التي تضمن المصالح الاقتصادية والمالية للأجانب .
خطورة اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق تكمن في المبادئ والقواعد التي تستند إليها وذلك بمقتضى أحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة و”الأليكا” جزء منها.
فبعد الحرب العالمية الثانية أرست الدول العظمى مؤسسات النظام العالمي الجديد الذي يضمن لها ديمومة هيمنتها على ثروات العالم ممثلة في مؤسسات “بريتن وودز” وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى جانب الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارة “الغات” لسنة 1947 والتي تركت مكانها للمنظمة العالمية للتجارة التي أنشئت في مراكش في سنة 1994 لتؤسس للنظام التجاري متعدد الأطراف الذي يتكامل مع النظام المالي العالمي.
وقد جاء النظام التجاري متعدد الأطراف الذي يقوم على اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة لـتأمين هيمنة الدول العظمى ووراءها الشركات العابرة للقارات ورأس المال العالمي على الاقتصاد العالمي وعلى ثروات شعوب بلدان العالم الثالث آنذاك والبلدان النامية حاليا بما في ذلك شعوبها وذلك استنادا إلى مبدأي “الدولة الأكثر رعاية” و “المعاملة الوطنية” الذين يرفعان كل الحواجز الجمركية وغير الجمركية أمام تنقل رأس المال العالمي وانتصاب الشركات العالمية في الدول الأعضاء في المنظمة العالمية للتجارة بكل حرية دون تراخيص مسبقة ودون تمييز بين الدول أو بين الوطني والأجنبي.
وإذا ما استندنا مثلا إلى الاتفاق العام لتجارة الخدمات الذي يشكل الإطار القانوني للمفاوضات الجارية بين تونس والاتحاد الأوروبي حول اتفاقية “الأليكا” في باب تحرير قطاع الخدمات، يتجسد مبدأ “الدولة الأكثر رعاية” كما تعرفه المادة الثانية من الاتفاق من خلال هذه الفقرة التي تنص على :”يجب على كل عضو أن يمنح للخدمات ومسدي الخدمات من أي عضو آخر، فورا ودون شروط، معاملة لا تقل رعاية عن تلك التي يمنحها لما يماثلها من الخدمات ومسدي الخدمات من أي بلد آخر”.
بمعنى أن أي دولة عضو بالمنظمة العالمية للتجارة، مثل تونس، تصبح ملزمة بتعميم المزايا التي تمنحها لدولة معينة أو تكتل معين، مثل الاتحاد الأوروبي الذي هو عضو في المنظمة، والذي جمعتنا به اتفاقية شراكة في 1995 وشملت القطاع الصناعي، وينتظر أن تجمعنا به اتفاقية تجارية ثنائية ستشمل قطاع الخدمات، على غرار اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق، تصبح ملزمة اذا ما تم توقيع الاتفاقية، بتعميم المزايا التي تمنحها للاتحاد الأوروبي، على بقية الدول الأعضاء في المنظمة.
ونفس هذا المبدأ يطبق على القطاع الفلاحي وقطاع الصناعة والاستثمار.
وانطلاقا من أن “اسرائيل”منخرطة بالمنظمة العالمية للتجارة منذ 21 أفريل 1995 فان الامتيازات التي منحتها للاتحاد الأوروبي، بمقتضى اتفاقية الشراكة التي تم توقيعها في ظل نظام دكتاتوري في سنة 1995، فان تونس ملزمة بمنحها لهذا الكيان الصهيوني، وأي رفض لنفاذ المنتوجات “الإسرائيلية” إلى السوق التونسية أو رفض انتصاب المستثمر” الإسرائيلي”، يعرض بلادنا إلى عقوبات من قبل المنظمة العالمية للتجارة باعتبار أن تونس قد ثبتت التزامها بالتوقيع على الاتفاقية التي يفترض أن مجلس النواب قد صادق عليها آنذاك.
لقد استطاع النظام التجاري متعدد الأطراف الذي تحكمه اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة التي تقوم على مبدأ “الدولة الأكثر رعاية” دفع الدول العربية الأعضاء في المنظمة، مثل تونس، إلى مربع التطبيع الاقتصادي مع الكيان الصهيوني بطريقة سلسة بعيدة عن الرفض الشعبي لكل أشكال التطبيع السياسي.
والى جانب التهديدات التي تشكلها اتفاقية التبادل الحر على الاقتصاد الوطني، وما يفرضه ذلك من تحرك لإيقاف مسار المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، فان دستور جانفي 2014 ، الذي جاء بفضل ثورة شعبية تصبو إلى استرجاع الشعب التونسي لسيادته على قراره الوطني، يقتضي رفض التوقيع الذي تعهد به الشاهد للاتحاد الأوروبي في بروكسال، كما يقتضي ممارسة مجلس تواب الشعب لصلاحياته وتحمل القوى الوطنية لمسؤوليتها التاريخية والوطنية.
الصحافة