بقلمے / الناشط السياسي محمد البراهمي |
أصبحت تونس خلال الأسابيع الأخيرة من بين الدول الأكثر تضررا من الموجة الرابعة لجائحة كورونا ، هي دولة منكوبة اليوم بكل ما تحمله الكلمة من معنى خاصة بعد الإعلان عن انهيار المنظومة الصحية، لكن مقابل كارثية هذا الوضع الذي من المفترض أن يخلق وحدة وطنية لمجابهة الوباء، نرى أن الجائحة أصبحت وسيلة من وسائل الصراع على الحكم بين رموز الدولة ومؤسساتها..، و لن تنجح الطبقة السياسية الحاكمة في السيطرة على فيروس كورونا لأنها لم تتعامل معه من منطلق صحي ، وإنما تعاملت مع هذا الوباء عبر محاولة تسييسه وتوظيفه في صراعات سياسية جانبية و عبثية لا تمت للواقع الصحي بِصلة ،
مشكلتنا في هذه البلاد أن بناء الدولة لم يكن، في حالات عديدة، غاية القوى السياسية أو الحزبية أو الاجتماعية، بقدر ما كان حاجة لبعضها للتسلط و التعامل مع الدولة بعقلية الغنيمة، وبالتالي تم بناء منظومة “أنانية_ غنائمية” تستحوذ على كل شيء، في دولة لا تملك من يراقب ويحاسب في مؤسساتها ، وهذه كلها نتاج طبيعي أفرزتها وبلورتها وقادت إليها منظومات الفساد السلطوي التي لا تخضع لأي قانون، ولا تجد من يحاسبها أو يراقب أعمالها..مما جعل الدولة تبقى في دوامة من الفشل والشلل السياسي الحاد.. و لا أحد يستطيع إخفاء حقيقة أن النظام السياسي التونسي تشكل وفق مُخططات رخوة، لا تنسجم مع أسس النظام الديمقراطي السليم، وبدأ هذا الخطأ مع كتابة الدستور الذي فُصّل على مقاس ترويكا ذلك الوقت و كُتب بمنطق الغنيمة و تقاسم النفوذ، أنتج نظام سياسي مُعقد قائم على التقسيم المحاصصاتي و نظام إنتخابي أعرج ومخادع، منح الساسة امتيازات فاحشة، ورسخ أقدام نُخب وأحزاب سياسية فاسدة، لم ينتح عنها إلاّ فساد دمر الحرث والنسل وحطم اقتصاد البلاد ، وبدد ثرواتها وضاعف البطالة والمشاكل الاجتماعية، حتى أصبحت آفة الفساد في المشهد التونسي جزءًا بنيويًا في النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، هذه مؤشرات تدل على أن المناخ السياسي في تونس لا تنطبق عليه حقيقة مفاهيم الديمقراطية.،فقد أصبح الاختلاف السياسي خلافا يهدد مكاسب التونسيين ودولتهم..،
في الوقت الذي تعاني فيه تونس من تفشي جائحة كورونا، ووصولها إلى مستويات قياسية، فإن الأزمة السياسية المتفجرة في البلاد منذ فترة تقف حجر عثرة أمام مكافحة الوباء، وتعيش تونس تحت وطأة أزمة سياسية بسبب الاستقطاب السياسي بين مؤسسات الدولة برئاساتها الثلاث وقد تسببت هذه الخلافات والتجاذبات بين مكونات المشهد السياسي في سوء إدارة أزمة كورونا، وجعلت عملية اتخاذ القرارات الصحية معقدة، وهو الأمر الذي سمح بتفشي الوباء، وانتشاره بصورة سريعة.. مايحصل اليوم للأسف هو نتيجة أخطاء ارتكبت منذ نهاية الموجة الأولى، بإقالة الوزراء، و إسقاط حكومة الفخفاخ ، وبتولي حكومة جديدة مأزومة المهام، وبإستهانة البعض بالفيروس واعتقادهم بعدم عودته؛ مما أدى إلى خسارتنا للمعركة الوقائية، وهو ما كان منتظرا، لأن المعروف أن الحرب التي تربحها هي التي لا تخوضها،
منذ عشر سنوات تُدار الدولة بمنطق الغنيمة والولاءات، و لم يعد اليوم خافياً على جُل التونسيين الذين ما زال لديهم اهتمام بالشأن العام أن ما تعانيه الدولة من فشل وعجز وإفلاس ينخر مؤسسات الحكم والمجتمع تتحمل مسؤوليتَهُ أطيافُ النخبة السياسية على جميع المستويات في الدولة.. ، تونس تعيش منذ 10 سنوات أزمة حكم حقيقية، وأزمة قيم، وهي تواجه تحديات سياسية واقتصادية مفصلية تهدد تماسك مؤسسات الدولة ونجاعة منظومة الحكم ما نجم عن المحاصصة الحزبية وتقاسم النفوذ من خيارات عشوائية وغير محسوبة العواقب انتهجتها أحزاب الحكم بقيادة حركة النهضة ومن تحالف معها، ومنظومة الأحزاب التي هيمنت على المشهد العام وتولت إدارة شؤون البلاد منذ 2011، فاقدة تماما لإرادة تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والفئوية.. كما أنها لا تتحلى بالكفاءة المطلوبة والالتزام الوطني والأمانة التي تؤهلها لقيادة التحولات التي طرأت على البلاد والمجتمع منذ 2011، ولأنها أظهرت عجزا مطلقا على تلبية ولو الحد الأدنى من طموحات التونسيين في العدالة والاستقرار وإرساء دولة القانون، حيث لا يهمها من العملية السياسية برمّتها إلاّ البقاء في السلطة والاستئثار بغنائمها، فبحيث الطبقة السياسية الحاكمة ترفض اليوم رؤية الحقيقة والإقرار بأنها قد فشلت فشلا ذريعا في تحمل مسؤولياتها والتزاماتها الوطنية، وعجزت عن إدارة خلافاتها بطريقة حضارية وضَيَّعتْ ما مضى من عهدتها في تجاذبات ومساومات رخيصة وصراعات عقيمة لا علاقة لها بمصالح البلاد وخدمة العباد، والتي الى اليوم لم تثبت سوى الفشل الذريع في إدارة شؤون البلاد وإنقاذها من الوضع المتردي الذي وصلته في كل المستويات، فقط لأن فاقد الشيء لا يعطيه..، المنظومة الفاشلة والمفلسة التي لم تنتج طيلة حكمها لعشر سنوات إلاّ الخراب العظيم والفقر ومزيد من التهميش والبطالة والمعاناة اليومية للمواطن الناقم والمحتج على تراكمات الفشل والفساد وسوء الإدارة..
يُمثِّل الوضع المُزري الذي وصل إليه القطاع الصحي في تونس ، أحدَ أبرز أوجه فشل النظام السياسي و المنظومة السياسية..، الطرف الأول الذي يتحمل مسؤولية تفشي الفيروس هو طبعا الحكومة وحزامها السياسي الداعم لها بقيادة حركة النهضة، فعوض أن يتم اتباع استراتيجية واضحة للتصدي للفيروس وخاصة على مستوى توفير اللقاحات بما يكفي، و توفير الأكسجين للمستشفيات ، نرى رئيس هذه الحكومة وداعميه يحمّلون مسؤولية الفشل لرئيس الجمهورية قيس سعيد الذي رفض التحوير الوزاري ومنع تغيير وزير الصحة، والحقيقة أن هذا الاتهام هو مجرد تغطية على فشل و سلبية تعاطي المشيشي مع الجائحة، و يبدو أن اقالة وزير الصحة العمومية على خلفية ماحصل من سوء تنظيم في الايام المفتوحة للتلقيح يؤكد فشل وضعف حكومة المشيشي في التعاطي مع أزمة كورونا، و ما أقدم عليه رئيس الحكومة من إقالة وزير الصحة هو تصرف صبياني للتغطية على فشله وليحمله وحده المسؤولية في مواجهة الفيروس في وقت كانت تونس تعاني من موجات شرسة السلالات المتحوّرة ..، اليوم أصبح المشيشي عنصر توتر في الدولة وفي المجتمع وعليه أن يستقيل إذا كان يريد الخروج بأخف الأضرار وإلاّ فإن مواصلته التمسّك برئاسة الحكومة، رغم هذا الفشل الذريع ستكون له عواقب وخيمة جدا.. و على المشيشي أن يدرك أنّه أفشل رئيس حكومة في تاريخ تونس وإدارة الحكومة و إدارة الأزمات التي تهدد البلاد مسألة تتجاوزه بكثير، و بالتالي استقالته أصبحت أمر ضروري.. و يبدو أنه لم تفلح الحكومة في التعاطي مع أزمة كورونا التي وجدت نفسها على عكس حكومات أخرى أمام تطورات خطيرة في وباء كورونا لأنها لم تفكر فيها بالجدية اللازمة و لم تتخذ في شأنها القرارات الحاسمة لمكافحة جائحة أنهكت البلاد و العباد..فبحيث المشيشي هو من ينبغي أن يقدّم استقالته ويعتذر للتونسيين عن فشله الذريع في خدمتهم.. الحكومة لم تنجح في إدارة الأزمة، وهي حكومة مدعومة فقط من حزامها السياسي، حتى الشعب يعتبرها فاشلة، الحكومة ساقطة شكلاً و مضموناً و ستسقط من تلقاء نفسها.. و آن الآوان كي ترحل.. هذا الفاشل عليه الرحيل اليوم قبل الغد..
الوضعية الراهنة للبلاد في ظل الأزمة الصحية تستدعي من الجميع تحمل المسؤولية و الإبتعاد عن التجاذبات السياسية التي من شأنها أن تضعف القدرة على التعاطي مع التحديات التي تواجهها البلاد و تستوجب الكف عن الخزعبلات و التناحر ، والتحلي بالمسؤولية لإقامة خطوط دفــاع تقي البلاد من مخاطر الغرق التــدريجي والنزول إلى جحيم الفوضى و الإنهيار الخطير.. ، لا أكاد أرى نهاية للحرب السياسية الباردة و كما أني لا أرى في هذه المعركة منتصرا أو مهزوما، لكن متأكد بأن الوطن سيكون الخاسر الأكبر في كل الأحوال إضافة إلى هذا الشعب المسكين..
يمكن القول أنه لا يمكن التكهن بما سيؤول إليه الوضع الصحي في تونس، حيث لا تملك البلاد إمكانات صحية أو مادية كبيرة لاستعادة حيوية المنشآت الصحية المنهارة، أو توفير المستلزمات الطبية كافة لمواجهة حالات الإصابة والوفاة اليومية بسبب كورونا، والتي قفزت إلى مستويات مخيفة، و إذا تواصل الاستهتار بمستقبل البلاد من قبل الطبقة السياسية و إستمرت الأزمة السياسية بين الرئاسات الثلاث، والإصرار على تجميد أدوات تغيير طبيعة المشهد السياسي الراهن، فنحن ذاهبون حتما إلى مالا يحمد عقباه..