يتقادم التاريخ ويهرم لكنه لا يزول, كان وسيبقى الشاهد الحقيقي على أفعال الدول والشعوب وحتى الأفراد, ومن منكم لا يعرف تاريخ القارة العجوز, ومن لا يذكر بريطانيا وفرنسا واسبانيا وإيطاليا وبلجيكا والبرتغال وغيرها, عندما بنت جيوشها وخاضت حروبها الإستعمارية البشعة, فإحتلت وقتلت وسطت وسرقت وتنمرت على غير دول وساقت شعوبها عبيداً, لترضي شهواتها وأطماعها, ولتبني “أمجادها” على دماء البشر, ولتشيد القصور والقلاع, وتنعم بثروات الغير, فحاكت الملابس الفاخرة, وابتدعت طقوساً, وأوسمة وضعتها على صدور مجرميها, وصاغت نفاقها ألقاباً, ودعتهم فرسان ونبلاء .. وحاكت روايتها بوجهين, أولهما خفي قاطعٌ للرؤوس وسافك للدماء, وثانيهما شريفٌ وجنتلمان, يمشي ويتحدث ويأكل ويرقص بالإتيكيت, ويحاضر بالقيم والأخلاق, وينادي بالحرية والديمقراطية, ويتباهى بوهمٍ حضاري – “إنساني” لم يصنعه ولم يعرفه أصلاً.
وحمل ديمقراطيته المزعومة على كتفه سيفاً, وانطلق ليعممها على العالم, ويُصنّف دوله على درجات سلمه الخاص, فوضعهم في خانات عرقية وقومية ودينية وإثنية, وتبين له أن من بينها دول ديمقراطية, وأخرى شبه ديمقراطية وثالثة لا ديمقراطية, فاضطر لغزوها وقتل شعوبها وسرقة ثرواتهم علهم يتدمقرطون ..
واتجهت عيونهم وقلوبهم ومصالحهم نحو تقييم الكيان الإسرائيلي المتوحش بـ “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”, فباركوا إحتلاله وإغتصابه أرض فلسطين والجولان السوري وأجزاء واسعة من الأراضي اللبنانية والاردنية, ودعموا سيوفه لجز أعناق الفلسطينيين, وحرق وهدم بيوتهم, وقتل أطفالهم ونسائهم وعجائزهم, ولإرتكاب بحقهم أفظع المجازر التي ذكرها ولم يذكرها التاريخ بعد, وهم ماضون اليوم في عدوانهم الحالي المستمر على قطاع غزة والضفة الغربية, منذ أحد عشرة شهراً, تسوقهم أحقادهم وعدوانهم ومشاريعهم القذرة, في همجيةٍ ووحشيةٍ دامية وبقلوب باردة وسيوفٍ لاهبة, على مرأى ومسمع من العالم كله, مجازرَ مبتكرة, فنونٌ في الإجرام, واستراتيجيةُ قتلٍ كافرة لا يوقفها أحد ولا يردعها قانونٌ دولي ولا أعراف دولية أو قيم إنسانية.
يستغرب البعض سلوكهم وإجرامهم ويخطئون تفسيرها بالمنطق الاّدمي والإنساني, ولا يدركون أن خلطتهم عجيبة و”ألاعيبهم” الدموية تسرّ قلوبهم, وتعدهم بالأبدية والخلود, وبأنهم “شعب الله المختار” الذي يحق له فعل كل ما هو مباح وغير مباح, ويدفعون مراكبهم وفق تاريخهم الدموي الإجرامي, ومخططاتهم القذرة, وطموحاتهم الشيطانية, وكان لهم أن عمموا وساقوا الدمار والخراب ونالت مئات الدول والشعوب “حصتها” من شرورهم وسيوفهم ومجازرهم وحروبهم وعقوباتهم, كسورية وإيران واليمن والعراق وليبيا ولبنان, كذلك اندفعوا نحو شيطنة الصين وفنزويلا وكوريا الشمالية, وصبوا جام حقدهم على روسيا وقيادتها وسياسييها وإقتصادييها من البوابة الأوكرانية – الإنسانية وعلا صراخهم, وتداعوا لحماية حقوق الإنسان في أوكرانيا, على حساب حقوق الإنسان في روسيا, بلا منطق أو خجل فعاقبوا أيضاً فنانييها وكتّابها ورياضييها, وبإعتراف وزير الإقتصاد الفرنسي برونو لومير صراحةً: بأننا “سنشن حرباً اقتصادية ومالية شاملة ضد روسيا, وسيدفع الشعب الروسي ثمن تلك العواقب”, كذلك ما سبق وأعلنته وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس بأنه :”لن تهدأ بريطانيا قبل تدمير الإقتصاد الروسي”.
ومن باب النفاق والتعالي والكراهية القديمة – الجديدة, طالبوا الدول والشعوب العريقة في الحضارة والقيم, بقبول “قيمهم” و”شعاراتهم”, بما يؤكد هزيمة القيم الزائفة لجوقة “الفرسان والنبلاء” الغربيين والأوروبيين, وبأنها هزمت نفسها بنفسها, ولم تلتزم بالمبادئ والأيديولوجيات التي أعلنتها ودعت العالم بأسره إلى اتباعها, لن ينجحوا بخداع العالم الحر الشريف ثانيةً, وبحسب الوزير سيرغي لافروف: “ودّعنا أوهام الغرب”.
من المهم لكافة الدول والشعوب اختيار الطريقة والوسيلة للتعامل مع النفاق الأمريكي والأوروبي والصهيوني, إنطلاقاً من ماهية طبيعتهم والشراكة الأبدية المتوحشة بينهم, وفكفكة الرموز الغامضة والعميقة التي جعلت الغرب خصماً وعدواً أبدياً لدولٍ وشعوبٍ مسالمة، حتى تلك التي كان يعتبرها صديقة, وتراه يتحول في لحظاتٍ إلى عدوٍ شرسٍ وسيفٍ قاتلٍ همه الإجهاز عليها.
قد لا يجد العالم تفسيراً لسلوك الأشرار بعيداً عمّا أطلقوا عليه “الحلم الأمريكي”, الذي تشدق به مراراً الرئيس جورج بوش الإبن وشركائه ومجرميه, حلمٌ يتغنون به ويمجدون تاريخهم “العظيم”, ويصورون وطنهم على أنه “مدينةٍ تربو على تلٍ مرتفع كقلعة حصينة تُمطر جميع الوديان والشعوب بصواريخها”, يا له من حلمٍ قاتل دامي يعكس حقيقتهم وشغفهم للهيمنة والسيطرة على العالم.
وإذا كان التاريخ الأمريكي والأوروبي الغربي على بشاعته يعكس “أحلامهم”, فيحق لروسيا والصين وإيران وسورية ولبنان والعراق واليمن وغيرهم, التباهي والمفاخرة, وبإطلاق تاريخهم نموذجاً وحلماً عقائدياً أخلاقياً أدبياً حضارياً إيديولوجياً, تاجه السلام والرسالة الإنسانية, كي يقتدي به الغرب والعالم كله.
بات من الواضح أن الأحلام المتضاربة لفريق الولايات المتحدة وأعدائها حول العالم, يُفاقم الصراع الدولي الحالي وخصوصاً في العدوان الغربي – الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية, من خلال تحويله إلى معركةٍ إيديولوجية سياسية عسكرية، نفسية إعلامية مادية وروحية شيطانية شاملة, رغم الإدعاءات الغربية والإدارة الأمريكية خصوصاً بعد نفيها نية توسيع نطاق الحرب وتحويلها إلى حربٍ إقليمية وربما عالمية ونووية, وبات من الضروري العودة والإلتفاف حول القيم الحضارية والإنسانية الحقيقية وليس حول الأوهام الغربية المزيفة, وإعادة النظر في المظاهرالخادعة التي يتقمصها مجرمي البيت الأبيض وباريس ولندن وبروكسل وأنقرة وتل أبيب …إلخ, وقادة الناتو والإتحاد الأوروبي وأوكوس ..إلخ, ورصد تأثيرها على تضليل البشر وإضعافهم, والنيل من حياتهم ومستقبلهم ومصيرهم.
يبدو من الواجب والحكمة والصواب والشجاعة اليوم, مقاومة الشر الأمريكي الصهيوني الأوروبي الغربي المطلق, ولجم “أبطاله” و”أبطال الإعلام المزيف”, والإلتفاف حول “المقاومة” ومن اّمنوا بأن المرحلةً هي للتضحية والفداء والتمسك بإعادة تصحيح التاريخ, واستعادة الحقوق, وصون حياة وأمن وكرامة البشر وأوطانهم, والقضاء على أوهام الحلم الغربي ونفاقه وإجرامه وأخطائه.
كم يبدو سخيفاً إعتراف رئيس دبلوماسية الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بأننا: “ارتكبنا عديد الأخطاء تجاه روسيا”, وبتصريحات فرنسا وألمانيا والإدارة الأمريكية وغيرهم بخصوص حل الدولتين في فلسطين المحتلة وهم الداعمون والمشاركون في الإبادة الجماعية في قطاع غزة والضفة الغربية, كذلك إدعاءات بلينكن بالبحث عن “الحل السياسي” في سورية, وهم المتمسكون بإحتلالها وبسرقة ثرواتها, وبعرقلة الحوار وكافة الحلول السياسية فيها, وبإستمرار دعمهم الإرهابيين والإنفصاليين ومشروع تقسيم سورية, ومثله خداعهم وعدم إلتزامهم بإتفاقية خروجهم وانسحابهم من الأراضي العراقية, وبتوقيعهم الاتفاق النووي مع إيران وهم الذين أعلنوا إنسحابهم منه, ويتهمون إيران زوراً بالعرقلة وبالإتجاه نحو إنتاج القنبلة والأسلحة النووية.
* كاتب وباحث استراتيجي