بقلم محمود بركة |
كيف يمكن أن يُكتب لمن يصنع الكتابة في غرف التحقيق والاعتقال؟ كيف يمكن وصف لحظة اختطاف الأسطورة شمس 15/4/2002 الى هذا التاريخ المستمر، مروان البطل التراجيدي المفكر في تاريخ الثورة الفلسطينية، تبدأ الصورة بمشهد إعتقاله الأول في سجون الإحتلال الإسرائيلي على مدى ست سنوات الى ان اطلق سراحه قبل الانتفاضة الأولى، في تلك الفترة عمل على تأسيس منظمة الشبيية الفتحاوية ورئاسة مجلس الطلبة في جامعة بيرزيت، مع بداية انتفاضة 1987 إعتقال مرّة اًخرى ونفيه خارج البلاد إلى الأردن وتونس والعودة إلى الوطن عام93، يقول مريد البرغوثي ” مروان اَخر ما يسره أن نسميه بطلاً لنعفي أنفسنا من البطولة، فمروان نفسه تعديلٌ مهم لمعنى البطل، إنه يشبهنا وإنه معنا وفينا وهو قابل للتكرار، مروان أسلوب الأوطان في إقناعنا بأننا نحن أيضاَ يمكن ان نكون أبطالاً اليوم وليس غداً”، محطات تتعدد في حياة هذا الرجل الخارج من صياغات فكرية وثورية، يصارع الوقت في مواجهة أكبر قوة إستعمارية مستمرة، إيمانه بالوجودية فكراً ثورياً لم ينهزم منذ اللحظات الأولى التي أسس فيها بذور طلائع الشبيبة النضالية للحركة الطلابية في جامعات ومعاهد الوطن التعليمية، فهو من رأى بفلسفة المفكر والأقلام والبندقية المشروعة سبيلاً للتحرر بإنجاز المنجز ولو كان قليلاً، في حياة الشعوب التي تناهض الإستعمار أسماء خالدة كما في حالة أنطونيو غرامشي وغاندي وأنديرا غاندي ومانديلا، في حياتنا الفلسطينية الاستثنائية أسماء يعجز الوصف عن تعريفها وجمعها أسماء طاردت المستحيل في بلاد العالم والمعارك والاعتقالات والكتابات والمؤلفات الفكرية النضالية، أقلام صاغت ضمائرها بالحبر والرصاص والحق في تقرير المصير وبناء الدولة، مروان البرغوثي الرمز الذي ظل سائراً على طريق صناعة الأجيال وتأسيسها إلى قواعد تخترق ظلمات الحصار والسجون وسنوات المطاردة، يؤمن بالحق في التعليم ليس لمجرد التعليم بل سلاح المعرفة تمسكاَ بالإنسانية التي يريد الإحتلال اسقاطها عنا كفلسطينيين، بدأ هذا الرمز الفلسطيني في التفكير في كيفية إنشاء وتكوين الحركة التعليمية داخل السجون ليضع تعريفاً اَخر للحق في التعليم والحياة خارج وداخل معتقلات الإحتلال.
يقول الدكتور مروان البرغوثي في كتابه “ألف يوم في زنزانة العزل الإنفرادي” يوميات المسلخ ” وجدت نفسي الرابعة عصراً يوم15/4/2002 داخل غرفة التحقيق في معتقل المسكوبية بمدينة القدس، كان مشهد الاحتفال واضحاً على ضباط الجيش الإسرائيلي، ” لقد ظنوا واهمين أنهم بإعتقالي قد اعتقلوا الانتفاضة، هذا ما ظهر على قسمات وجوهم، ولكن الانتفاضة العظيمة حركة شعبية غير مدركين انها لا تتوقف باعتقال فرد والمئات والاَلاف” في هذه السطور صفوة فكره الراسخ بقوة إيمانه بشعبه المؤمن بعدالة قضيته والمواصلة والاستمرار في المواجهة والمجابهة، ومن هنا بدأت فكرته تؤسس لبناء الحركة التعليمية داخل السجون بمراحل مختلفة لبناء برامج (البكالوريوس – الماجستير) والتواصل مع الجامعات الفلسطينية لتنسيق البرامج الاكاديمية لبناء أجيال وكوادر تمنح لذاتها هذا الحق وتضيف للوطن طاقات من النخب الثقافية المتعلمة بمنهج وأساليب أكثر قوة خلف قضبان السجون، فمروان الذي يحاضر في الأسرى مع رفاقه ويضع الجداول الزمنية للمحاضرات وتدريس المناهج في العلوم الإنسانية والفكر السياسي تحت أشد الظروف وشح الامكانيات وما يمارسه الإحتلال من فرض لمنع دخول الكتب وفصل سبل الإتصال والتواصل مع المؤسسات التي يسعى ابو القسام لربط السجون بها وتحويلها لمنجازات تعليمية وثقافية مبدعة تحت أشد الظروف الصعبة، ليسجل مروان في المعتقلات و الحركة الأسيرة سيٌر لتاريخ اَخر في نشأة وتربية الأمل والرواية الفلسطينية، هو ذلك مروان بصورته التي نعرفها صورة الفدائي الأول وصوت المثقف العضوي الذي يحرر السجون من محاولات طمس السجان للحقوق واغتيال الأحلام تحت السقوف والجدران الضيقة، بناء مروان لهذه الفكرة اكتملت بسواعد عالية من الأسرى الذين انتقلوا لحياة المعتقل بطرق انتهكت كل الأعراف والقوانين الكونية من خلال منهجية المستعمر المتطرف الذي يريد إغلاق نوافذ الحياة ومواصلة التصفية المستمرة .
سيدخل ابو القسام هذه الأيام عامه التاسع عشر من سنوات اختطافه واعتقاله المتواصل، ولم يزل مروان يعيد تدوير الفكرة وتجديدها خلف شباك المعتقلات ووحشة الزنازين يضيف سياقات جديدة للحرية والتعليم والنضال في يوميات بطل يضع حياته في تعريفات بنيوية تتولد داخل السجون مع واقعية أخرى خارج شباك سجن هدريم يبني ويؤسس لمستقبلها ويطرح الأفكار والاَراء في حياتنا اليومية من الاشتباك مع العدو وخلافاتنا السياسية ورسائله للاجيال والقادة وكل ماهو فلسطيني، لمروان في كتابه الذي كتبه متنقلاَ بين السجون، الكثير من تسجيل اليوميات والمواقف القاسية وانتصاره على المعاناة والمعوقات ووحشة ظلام الزنازين وسطوة المحتل، وتحويل غرف التحقيق لهزيمة السجان الفاشل، يقول الرمز ابو القسام عجز الإحتلال عن إنهاء دوري النضالي على الرغم من السجن والعزل، فإرادة الإنسان وإيمانه أقوى من القيود الحديدية والأسوار العالية وعتمة الزنزانة”، مروان الأمل الذي تربينا على انتظاره ولم يزل ينتظر ويفكر من قلعته المقيدة التي حولها إلى قلعة ضوء تنتصر في معركة الأسير والسجان، مروان مسيرة طويلة في حياة المطاردة والنفي والاعتقال لكنه لم يغيب عن الأجيال التي ولدت بعد اختطافه، سيخرج مروان ونخرج معه نردد الحق الفلسطيني ونعظم سيرة الثورة الفلسطينية وكبارها العظماء كرامة للشهداء ورفعة لتضحياتهم وويلات الأسرى مجد فلسطين العالي، ، وستكون لنا الدولة حلمنا الفلسطيني الأكبر، ونردد ما قاله محمود درويش يوماّ، وحدنا والله وحده فينا قد تجلّى…..