بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي |
معاذ الله أن أتمنى له الموت، أو أن أدعو عليه بالهلاك، أو أن أرجو له عاجل الرحيل وفجأة الوفاة، أو سرعة المنية وقرب الساعة، ولا أترقب يوم رحيله ولا أستعجل انتهاء حياته، ولا أشمت بصحته ولا أهزأ بحالته، بل أسأل الله عز وجل له دوام الصحة والعافية، وطول العمر وحسن الخاتمة، والسلامة من كل سقمٍ والشفاء من كل مرضٍ، والمعافاة الدائمة من كل شكوى والخلاص من كل ألمٍ.
وأسأله سبحانه وتعالى شأنه أن يسدد على الحق خطاه، ويصوب بالعدل مسعاه، وأن يأخذ بيده لما يحب ويرضى، ولما فيه خير البلاد والعباد، ونفع فلسطين وأهلها، وصالح أرضها ومستقبل أجيالها، وأن يجنبه كل ما هو شر، ويبعده عن كل غدرٍ وضرر، وأن يباعد بينه وبين عدوه، ويجمع بينه وبين أهله وشعبه، وأن يجنبه الظلم والجور، والبغي والفساد، والإساءة والعدوان، والحرابة والخيانة، وأن يجعل مخافة الله نصب عينيه، وحق شعبه أمام ناظريه، ومستقبل وطنه أمانةً في رقبته، وطهر القدس والأقصى والمقدسات عهداً في ذمته.
إنها الدنيا وحال بني الإنسان فيها، وسنة الله في خلقه جميعاً، إذ لا شيء في هذه الحياة تبقى بشاشته، بل يبقى الإله وحده ويودي المالُ والولدُ، ويموت كل الخلق ويفنى كل من سواه سبحانه وتعالى، فهو عز وجل الباقي بلا حدود، والحي أبد العهود، وجوده سرمديٌ بلا أول ولا آخر، وكل شيءٍ في الحياة هالكٌ إلا وجهه، وكل روحٍ إلى ربها يوماً سترجع، فلا نستغرب من وفاة، ولا نغضب من موتٍ، بل نتعظ منه ونتعلم، ونخاف من الخاتمة ونخشى، ونقلق على المصير ونهتم للمآل، فالرئيس سيموت والمرؤوس مثله سيفنى، والملك والوزير ومن جمع المال وأحصاه غداً سيموت، والفقير المعدم والعبد الحزين سيرحل، ولن يرده عن نفسه أحدٌ مهما ملك، ولن يمنعه عمن يحب أحدٌ مهما حاول أو تمنى.
لا شك أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أكثر من يدرك هذه الحقيقة ويؤمن بها، ويعرف أنه لا محالة وكاتب هذه السطور وغيرنا سيرحل عن هذه الدنيا ويفارق أحياءها، ويودع أهله فيها وأحباءه، وهو الذي يدرك أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاثٍ، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”، فهل يعمل الرئيس الفلسطيني لآخرته، ويؤسس بعد مماته لنفسه بين شعبه ذكراً حسناً وسيرةً طيبةً، فيسلمهم أمانة الوطن كاملةً غير منقوصة، وطاهرةً غير مدنسةٍ، وحرةً غير مقيدة، وعزيزةً غير ذليلة، ويسلم الراية لمن بعده خفاقةً عاليةً، ترفرف كما كانت، ومهابةً كما نريد، وعزيزةً كما نتمنى.
أم أنه سيخلف وراءه ما لا يحفظ له بين الناس وداً، ولا يقيم له عند شعبه عهداً، ولا يبقي له بينهم حباً، فيظلمهم حياً وميتاً، ويحرمهم حقوقهم في حياته ويؤسس لظلمهم بعد مماته، ويغادر وهو يرهن شعبه ويبيع وطنه، ويسالم عدوه ويصادق قاتله، فما مضى سيدي الرئيس موجعٌ ومؤلمٌ، ومحزنٌ ومؤذي، وقد لا يستطيع شعبك أن يغفر لك، وقد لا يقوى على مسامحتك والعفو عنك، وقد ساهمتَ في حصار بعضهم وتجويع أبنائهم، وحرمان أسرهم مما يقيم أودهم ويحفظهم على قيد الحياة، فأهلك في غزة جميعاً يتضورون جوعاً، ويئنون ألماً، ويبكون دماً، ويشكون حزناً، فأقبل عليهم وخذ بأيديهم، وخفف عنهم ما استطعت، أربت على ظهورهم، وامسح الدمعة عن وجوه أطفالهم، وضع كسرة الخبز في أفواه الجائعين منهم والمحرومين فيهم، وكن لهم أباً حانياً ورئيساً عطوفاً، وولي أمرٍ محبٍ وكريمٍ.
أعلن سيدي الرئيس بعالي الصوت وقف التنسيق الأمني مع العدو الإسرائيلي، فقد والله آذانا وأضر بنا، واقلب له ظهر المجن تكن قوياً، واجهه بالحق الذي تملك، وقاتله بالشعب الذي يقف معك، وقاومه بما تملك من قوةٍ وسلاح، واعلم أن شعبك قويٌ لا يضعف، وعنيدٌ لا يستسلم، وقادرٌ لا يعجزٌ، وصلبٌ لا ينكسر، وصابرٌ لا يجزع، وثابتٌ لا يتزحزح، وشجاعٌ لا يخاف، وجرئٌ لا يتردد، ومقدامٌ لا يتقهقر، فخض الحرب معه، وقاتل إلى جانبه، واحمل السلاح معه واجلبه له، والله معهم ومعك، وكن على ثقةٍ أنك ستنتصر به، وسترفع الرأس عالياً معه، وستفخر بالانتماء له والانتساب إليه، فهذا هو شعب الجبارين الذي لا يعرف الهزيمة ولا يحسن غير الانتصار.
هيا سيدي الرئيس مُدّ يدك إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، التي قدمت وأعطت، وضحت وبذلت، وكن إلى جانبها في مقاومتها ونضالها، دافع عنها وكن لها سنداً وعوناً، ودرءً وحصناً، وثق أنك ستنتصر بهم وستكسب معهم، فأنتم جميعاً معاً قوة، ووحدتكم صلبة، وإرادتكم مِنعة، فلا تسمح سيدي الرئيس للخلافات أن تمزق وحدة الشعب، وأن تفرط في الحق، وأن تضيع الأرض، وإنك لأعلم الناس بالمتربصين بنا والمتآمرين علينا، وبمشاريع التصفية التي تحاك ضدنا، وتستهدف أرضنا ووطننا.
وقبل فوات الأوان هيا سيدي الرئيس، شد الرحال إلى غزة، ادخلها مع المقاومين، وعش فيها إلى جانب شبعها الصابر وأهلها الكرام، وخذ معك لهم حقوقهم وأموالهم، وأجرِ رواتبهم واضمن وظائفهم، واعمل على رفع الحصار عنهم والتخفيف من معاناتهم، فقد والله تأذت غزة وانكسر ظهرها وناء الحمل بأهلها، وضحت بأغلى ما تملك، وجادت بفلذات الأكباد ومهج الأرواح وقرة العيون، واعلم أن غزة عزة، وأن مقاومتها شرف، فقد رفعت الرأس عالياً، وشقت بالدماء طريق النصر ومسار لكرامة.
ما زال سيدي الرئيس في العمر بقية وفي الوقت متسع، وقد يبارك الله في القليل فيكثره، وفي البسيط فيعظمه، وقد تعدل أيامك الأخيرة العمر كله، وقد يبسط الله في عمرك فتعيش طويلاً وتعمر كثيراً، ويجعل خواتيم حياتك خيراً وبركة عليك وعلى شعبك.
أقدمْ سيدي الرئيس وأعلنْ أمام الملأ كله، لشعبك والعالم، ولعدوك وحلفائه، أنك لا ترضى عن فلسطين بديلاً، وأنها وطنك ووطن أجدادك، وهي وطن أولادك من بعدك وأحفادك، وهي كلها لنا من بحرها إلى نهرها، كاملة السيادة غير منقوصة، طاهرة المقدسات غير مدنسة، أصيلة السكان غير مستوطنة، قدسها العاصمة، واحدةً موحدةً غير مقسمةٍ ولا مجزأة، وأنه ما بقي فينا عرقٌ ينبض سنبقى متمسكين فيها ومدافعين عنها.
مدَّ الله في عمرك سيدي الرئيس ما أخلصت لشعبك وعملت لأهلك، وما ساويت بينهم وعدلت فيهم، وتفانيت في سبيل وطنك، وأحسنت حمل الأمانة وأجدت قيادة السفينة، وشد الله بالحق أزرك، لتقول كلمة الحق، وتجمع الصف، وترأب الصدع، وتشرك في الأمر أهله، وتحفظ للشعب حقه، وتصون له وطنه وأرضه، وتسلم الراية بعد طول عمرٍ للأجيال الطالعة نظيفةً ناصعةً عاليةً خفاقةً.
moustafa.leddawi@gmail.com
الوسوممصطفى يوسف اللداوي
شاهد أيضاً
الحقائق على الأرض تتنافى دماً مع الأرقام على الورق… بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية، التي توخت الدقة والمصداقية، وحرصت على العملية والمهنية، بموجب القوائم المثبتة …