بقلم صلاح الداودي |
يستشعر كل من يتعاطي مع السياسة كفن حكم وقيادة لحياة جماعة بشرية ما، كمنظومة قيم وكشكل عيش واحد فيه مصلحة للجميع، يستشعر ان نوازع المواقع، بصرف النظر عن الصلاحيات، تسيطر على القصور الثلاثة: قرطاج والقصبة وباردو.
فمنهم من يريد أن يكون رئيس الجمهورية رئيسا لرئيس الحكومة ويعمل على ذلك ومنهم من يرى انه على رئيس الحكومة ان يكون رئيسا لرئيس مجلس النواب ورئيسا لرئيس الجمهورية معا ومن يرى ان رئيس الحكومة يجب أن يكون رئيس رئيس البرلمان فقط ومن يرى انه يجب على رئيس البرلمان أن يكون رئيسا لرئيس الحكومة حينا ورئيسا لرئيس الجمهورية حينا آخر.
كل ذلك تضارب للاحلام والاوهام وتناور وتناوب على التناور مستمر وتنازع للغرائز لا نعرف خواتيمه. ولا يهم في الحقيقة مصالح الشعب العليا لا من بعيد ولا من قريب. ما يجعلنا نرجح، على قاعدة الأصلح والانسب والابقى لتونس ولشعبنا ان كل هذا نظام حكم مؤقت ومشوه يجب أن يزول.
وعلى ذلك نرى ان أي نظام حكم استراتيجي لتونس يحقق النماء والرخاء والاستقرار والسيادة على القرار ويحرر بلدنا من سلطة سلطات الإرهاب والتبعية والتطبيع والتخلف والفساد وهي سلطة الاستعمار، يجب أن يكون نموذج حكم وطني وسيادي ومقاوم يستوجب أن نبدأ بخوض معركة السيادة الشاملة ولا يتحقق الا بانتصار معركة السيادة هذه.
إن مقاومة الفساد حسب رأينا لا تتم بمقاييس مؤسسات الهيمنة المالية والاقتصادية الدولية والمنظمات العالمية المعقلنة لاحتكار النهب الشرعي للشعوب من طرف هذه الاطر العابرة للأنظمة. ولا تتم بمجرد سطحية مقاييس الحوكمة والشفافية والرقابة والرقمنة وتفكيك البيروقراطية وترشيد استخدام السلطة والنفاذ إلى المعلومة والحكومة المفتوحة وكل ما إلى ما هنالك من تنظيم للسيطرة على أدوات التحكم في حركة رأس المال المعولم وتنظيمه بالشكل الذي يتناسب مع ما يراه رعاة الانتقال والمستثمرون فيه والدافعون نحوه.
ولذلك بالذات نرى انه لا تنمية ولا استقرار دون خوض معركة تصفية الاستعمار والكفاح من أجل تخليص شعبنا من ممثلي سلطة سلطات الفساد من الخارج إلى الداخل ومن الداخل إلى الخارج وصناع البيئات المناسبة لهندسة اقتصاديات الفساد والمناخات المناسبة لتصنيع سياسات تنظيف وتبييض لهذه الاقتصاديات حتى اقناع الناس بأن حركة الرأسمالية المعولمة والمندمجة هذه هي القدر الأوحد وهي الشرط الوجودي للحياة بل هي نعمة للبشرية وطهارة للتونسيين وخير عميم للفقراء والمعدمين والمنهوبين والمهدورة حقوقهم. ومن ثم ترك ام المعارك وهي معركة فك الارتباط بمنظومة التبعية.
إن التغيير الحقيقي في تونس اليوم هو ارساء مشروع تنموي وطني وسيادي باصلاحات وطنية بديلة وبديمقراطية قاعدية موسعة تنعكس في النظام السياسي والانتخابي وتنقل تونس إلى طور الديمقراطية التنموية المعمقة والمتقدمة التي تبدأ بتمكين القوى الشعبية وعموم المحرومين من السلطة وتوظيفها لمصلحة الوطن وخدمة غالبية قوى الشعب. فالتنمية ديمقراطية ومساواة أمام الحق في الديمقراطية والتنمية تنوع اجتماعي لا تنوع سياسي فحسب. وهي رفع للظلم الاجتماعي والقهر السياسي ومقاومة تدريجية لهيمنة الاستعمار رأس سياسات الإرهاب والفساد والتخلف، أو لا تكون.
وان الطريق السليمة والصحيحة والضرورية للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة تمر عبر خيارات نوعية وجذرية تهدف إلى العدالة التنموية والتنمية العادلة والتي تقوم على عدالة التمكين في السياسة وعلى التوجيه المركزي في الإقتصاد حسب الأولويات ومن خلال التخطيط الذي يضمن استخدام جميع الموارد الوطنية المادية والطبيعية والبشرية لتحقيق الرفاه والحياة الكريمة لعموم الشعب. وعلى التوازن بين تدخل الدولة والسوق الشفافة وإعادة صياغة دورهما معا. وعلى الإدماج الاقتصادي والاجتماعي للفئات الهشة والمناطق المهمشة في الدورة الاقتصادية. وعلى التكامل بين القطاعات الثلاثة العام والخاص والتضامني. وعلى تنويع وتعديد العلاقات والشراكات الاقتصادية الاستراتيجية مع القوى العالمية الصاعدة بشروط الحرية والتكافىء لا بشروط الاستسلام التدميري والتبعية المشطة التقليدية للاتحاد الأوروبي والتبعية المهجنة الحالية متعددة الاتجاهات والتي يطبقها اعوان الليبرالية المتوحشة مع وكلاء المنطقة من خليجيين وعثمانيين واتباعهم في تونس.
ربما يكون رأينا هذا حول ضرورة إبداع نموذج اقتصادي تنموي وسيادي دستوريا وحول ضرورة تركيز مجلس سيادة وطنية أو حتى محكمة سيادة تواجه كل جرائم التبعية والتطبيع والجوسسة والاختراق والعمالة والنهب وفي كل مستويات تهديد الاستقلال والقرار الوطني المستقل وعرقلة اي أمل في النهوض والتطور، ربما يكون حلما. وليكن، فنحن لا نرى أي نموذج حكم استراتيجي يؤدي إلى الانتقال الإستراتيجي لتونس الاستراتيجية إلا هذا في الوقت الحاضر.