بقلم سناء العاجي |
أن تكون صهرا للملك نفسه، زوج أخته، وأن تدخل السجن بتهمة اختلاس الأموال. هذا ما حدث في إسبانيا، حيث أصدرت محكمة الاستئناف حكمها ضد إينياكي أوردانجارين زوج الأميرة كريستينا وصهر الملك فيليبي، بالسجن النافذ لمدة خمس سنوات وعشرة أشهر. وقد بدأ تنفيذ الحكم فعليا في حق صهر الملك مباشرة بعد صدوره، وأودع في سجن يقع على بعد حوالي مئة كيلومتر من مدينة مدريد الإسبانية.
هذا أمر قد يكون مستحيلا في معظم دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، إذ يكفي أن تكون قريبا لمسؤول ما، كي تفلت من العقاب كيفما كانت طبيعة جنحك أو جرائمك: اغتصاب، رشوة، اختلاس، عنف، إلخ.
لا يمكننا أن نؤسس لمجتمعات سليمة ما دام أبناء الطبقات النافذة يستطيعون النجاة من العقاب
في معظم بلداننا، يحدث كثيرا أن نسمع قصصا عن ابن امرأة أعمال يختلس مبالغ ضخمة لكنه لا يدخل السجن بقدرة قادر، عن ابن مسؤول كبير يصدم شخصا بسيارته فتؤدي الحادثة لموت الضحية؛ ورغم أن القانون في بلد كالمغرب يقضي بعقوبات سجنية صارمة في حالة القتل في حوادث السير، فإن أسرة المسؤول تنجح في تهريب ابنها للخارج بدعم من علاقات الأب، عن ابنة مسؤول آخر تعنف خادمتها بشكل وحشي، مما يؤدي لعاهة مستديمة وتشوه؛ ورغم تدخل الشرطة والمجتمع المدني، فإن الجانية تفلت من العقاب، عن ابن مسؤول آخر يغتني بشكل سريع ومشبوه، لكن أحدا لا يسائله، إلخ.
حكايا وقصص، ليست بالضرورة حقيقية في تفاصيلها الصغيرة، لكنها بالمقابل مستوحاة من واقع حقيقي. وحدها التفاصيل تختلف، لتغلب سلطة المال والمناصب سلطة العدل والقانون في العديد من الحالات، وليتمكن أبناء المسؤولين الكبار وأثرياء البلد، في كثير من الحالات، من الإفلات من عقاب مستحق.
ثم نفاجأ ببلد قريب منا، لا يتورع القضاء فيه عن النطق بحكم بالسجن النافذ ضد شخص ليس إلا صهر الملك نفسه. يصدر القاضي الحكم على المتهم، بناء على الحجج، وهو ليس خائفا لا على منصبه ولا على حياته.
إسبانيا اليوم تعطينا درسا في احترام القانون والمؤسسات
وهذا جزء كبير من الاختلافات التي تصنع الفرق: حين تنبني الدول والمجتمعات على مؤسسات حقيقية وعلى سيادة قيم العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن القرب أو البعد من مناصب القرار والسلطة وبغض النظر عن الجنس والمنصب الاجتماعي والثروة، هنا فقط يمكننا الحديث عن دولة الحق والقانون. وهنا فقط يستطيع المواطن أن يستشعر الأمان.
ليس هذا فقط، فلكي نطور منظومة القيم، على جميع المواطنين، كيفما كان مستواهم الاجتماعي ومنصبهم وانتماؤهم العائلي، أن يكونوا على وعي تام بأنهم سواسية أمام القانون وأن الإفلات من العقاب هو أمر نادر الحدوث.
هذا ما يدفع الجميع لاحترام القانون ولاحترام الآخرين. فكيف نقنع مواطنا بضرورة احترام الأخلاقيات والقيم والقانون، حين ينشأ في منظومة اجتماعية تعلمه بشكل مباشر أو غير مباشر أنه لن يخشى شيئا ما دام ابن فلان أو صهر علان؟ كيف نزرع قيم المواطنة لدى أفراد يحسون بالغبن حين يطبق عليهم القانون، بسبب قناعتهم أن القانون لم يطبق عليهم إلا لأنهم لا يملكون إلى الواسطة سبيلا؟ كيف نقنع المواطنين باحترام القانون حين يدرك هؤلاء المواطنون، بالتجربة والملاحظة، بأن القانون لا يطبق على كثيرين ممن يملكون سلطة المال أو القرب من مراكز النفوذ؟
لا يمكننا أن نؤسس لمجتمعات سليمة تنبني على القيم والمؤسسات واحترام القانون ما دام أبناء الطبقات النافذة اقتصاديا وسياسيا يستطيعون النجاة من العقاب حتى حين تكون التهم ثابتة.
إسبانيا اليوم، عدالة ومؤسسات، تعطينا درسا في احترام القانون والمؤسسات. لكننا، على ما يبدو، لا نتعلم الكثير من الدروس. ننظر إليها بانبهار التلميذ الكسول ونكتفي بالقول: ذلك عالم آخر!
موقع الحرة