عانت تونس عشر سنوات من الفشل و التفقير والتجهيل وتفكيك الدولة والفساد جعلت عموم التونسيين يتمنون العودة بعجلة الزمن إلى الوراء.. لكن من الإحباط يمكن أن يولد الأمل و مؤشرات أخرى نعاينها تنبئ بإستفاقة حقيقية ورغبة على توحيد صفوف التونسيين تحت راية الوطنية وتكريس قيم العدالة الاجتماعية والدولة المدنية الضامنة للحرية وكرامة البشر والمنقذة لتونس، و بالتالي لابد من احترام إرادة الشعب والاستماع لإرادة المواطنين، فإن هذه الإرادة هي التى أتت بهذه السلطة، ويمكن لهذه الإرادة أيضاً أن تتطيح بها، ولا يكون للسلطة أي وجود.. فلماذا التسلط.. والتعنت.. و الإستقواء.. والوقوف ضد هذه الإرادة.. ؟
من الواضح و أنّ قواعد اللعبة السياسيّة التي حكمت المشهد السياسي في تونس ، والتي صاغتها فواعل العملية السياسية منذ 2014 ، ساهمت في هذه الأزمة السياسية و الدستورية المعقدة ، و الوضع اليوم هو نتيجة تخريب منظّم تم منذ سنة 2011 وكان مظهره الأكثر كثافة وشدّة هو دستور 2014 الذي سمح بتفكيك الدولة وتحويل السلطة إلى نظام سياسي هجين لا ينتج شرعية مكتملة ولا نجاعة فيه وذلك بأن تولّى تقسيم وتوزيع الصلاحيات بين رئاستيْ الجمهورية والحكومة وصلاحيات البرلمان ممّا أدى إلى حالة دائمة من التنازع على الصلاحيات ، و قد إتضح أن النظام السياسي الحالي ، الذي كرّسه دستور 2014، هو المتسبب الرئيسي في الأزمة، التي تشهدها تونس قبل 25 جويلية 2021 ، حيث تتوزع وفقه السلطة التنفيذية بين طرفين، رئيسيْ الجمهورية والحكومة، مع صلاحيات أوسع للثاني، و الأفضل أن يقع تعليق مؤقت لأحكام الدستور ويقع الالتجاء إلى أهل الخبرة للقيام بتصوّر حل وتنقيحات في الدستور و تغيير النظامين السياسي و الإنتخابي .. و بعد ذلك اللجوء إلى استفتاء شعبي..
بعد الخامس و العشرين من جويلية 2021 الشعب قال كلمته وانتهى الأمر ، وحكم الإخوان انتهى إلى غير رجعة و لفظهم الشارع مُطالباً برحيلهم و رحيل المنظومة السياسية الفاشلة برُمّتها ، و بالنسبة لفئة كبيرة من الشعب التونسي النهضة و أذرعتها أصبحوا جزء من الماضي، و يبدو أنّ الخطوة التالية التي تتخذها حركة النهضة هي محاولة للإستقواء بالخارج ، والاستعانة بالغرب من أجل تحقيق مصالحها، والعودة إلى الحكم من جديد، هم يستنجدون بالخارج على تونس و شعبها ، ليحققوا بعض المكاسب بعدما خسروا ثقة الشعب التونسي ، وتم إقصاءهم عن الحكم من قبل الشعب الذي خرج في 25 جويلية 2021.. إن فكرة الاستقواء بالمجتمع الدولي والقوى الأجنبية ليست جديدة على تنظيم الإخوان الذي يتشعّب إلى كثير من الدول، ولديهم علاقات تاريخية مع كثير من تلك الدول، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي مازال قطاع عريض من المسؤولين فيها يدافعون عن الإسلام السياسي، في الوقت الذي أكدوا فيه كذلك على كون الاستقواء بالخارج يُعد جريمة يُعاقب عليها القانون، وتدفع بتوجيه تُهم الخيانة العظمى للمتورطين فيها، نهج واحد تتبعه حركة الإخوان التونسية في التحريض والخيانة و الإستقواء بدول الخارج، كان بمثابة دستور اعتادت عليه منذ نشأتها.. المنظومة الفاشلة تعتبر الإستقواء بالخارج انتصاراً.. و محاولاتها الفاشلة لن تنجح في عودتها للمشهد مرة أخرى بعدما لفظها الشارع..وعلى الرغم من ذلك تواصل محاولاتها اليائسة فى الاستقواء بالخارج أملاً في عودة للحياة السياسية، لتحقيق أهدافها و العودة إلى سدّة الحكم ، وما يدعو للعار أنّ أذناب و “باراشوكات” النهضة يُهلّلون لهذه المطالب وهذا الاستقواء، معتبرين خيانة الوطن والاستقواء بالخارج انتصاراً، و عليهم إستيعاب هذه اللطخة الشعبية و رفض إستيعابها كلحظة فارقة كما كانت لحظة جانفي 2011 لحظة فارقة ضد نظام بن علي، و عليهم إستيعاب أن الشعب الواعي والواثق من نفسه هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، لأنّه يملك بداخله الإرادة والعزيمة القادرة على قلب موازين القوى بدون سابق إنذار.. الشأن التونسي شأن داخلي بحت ويجب ان يتم بمعزل عن كل الضغوطات والمواقف الخارجية و الحل لا يكون إلاّ تونسيًّا_تونسيًّا بيد الأطراف التونسية فيما بينهم والتغيير و الإصلاح يتم من دون أي وصاية، والاستقواء بالخارج مرفوض تمامًا من قبل أي كان..، لا أحد يستطيع أن يفرض إرادته على إرادة الشعب التونسي ، و يجب على الجميع أن ينصاع إلي إرادة الشعب.. و على الدولة بكل أجهزتها أن تقوم بدورها ضد كل من يحاول الاستقواء بالخارج لأن ذلك يكون ضد مصلحة الوطن وإرادة الشّعب والشّعب كلّه لا يوافق عليه..
تواجه حركة النهضة العديد من الانقسامات والانشقاقات الداخلية، وتعلم جيدا أن هذه المشاكل إلى جانب إلى أن الشارع لفظها،. ولهذا نجدها تتمسك بأخر محاولة يائسة لديها من أجل العودة مرة أخرى للمشهد، والعودة إلى العبث من جديد، وهم على استعداد للتحالف مع الشيطان، للعودة للمشهد بعد أن لفظهم التونسيون في “الخامس و العشرين” من جويلية 2021 ، و من يريد الإستقواء بالخارج للتآمر على إرادة الشّعب فهو واهمٌ.. ومهما تعالت أصوات الإستقواء فلن تجد لها صدى وستزيد من عزلة أصحابها.. ما حدث يوم “الخامس والعشرين” من جويلية صفعة قوية وغير متوقعة للطبقة السياسية بِرُمَّتِها، و لابد ان تستخلص عبرة من هذا الدرس، و ربما تساهم هذه الصفعة في استفاقة من غيبوبة سياسية، و يتحملوا وزر ماجنت به على نفسها براقش..
لا شك وانّ المخرج من أزمة الحكم في تونس لا يكون بالاستنجاد أو الاستقواء بالخارج أو المراهنة على التطورات الإقليمية والدولية، وإنما حصراً وتحديداً بإجراء الإصلاحات الوطنية والتعديلات الدستورية الكفيلة بعودة السلطة للشعب التونسي صاحب الحق ومصدر الشرعية المعتبرة.. و طالما وصلنا لعنق الزجاجة، وهناك إجماع من أغلب الفاعلين على أن هناك مأزقاً، فإن هذا الحل يمكن أن يشكل محاولة للبحث عن مخرج للوضع الحالي، وأن مقترح الذهاب لاستفتاء شعبي فكرة ممكنة، لأن صاحب السيادة هو الشعب التونسي، وعليه التدخل، وخاصة أن ما وصف بأحسن دستور اتضح بعد بضع سنوات أن به العديد من الثغرات والصعوبات التي عرقلت دواليب الدولة، وعطلت البلاد في الوصول لحلول و أصبح جزء من المشكل..
تونس يجب أن تنتقل من الجمهورية الثانية إلى الجمهورية الثالثة، فالإصلاح لا ينفع إطلاقًا، إذ تحتاج تونس إلى تغيير شامل يبدأ بـ4 نقاط أساسية: تغيير الدستور، وتغيير نظامه السياسي ، وتطبيق الديمقراطية الحقيقية ، و محاربة الفساد.. و ينبغي القطع مع منظومة حكم 2011-2021 الفاشلة والمهترئة التي ارتهنت مستقبل البلاد بإسم التوافق المغشوش و محاسبة كل من أجرم في حق تونس و شعبها.. و التأسيس لمقومات جمهورية ثالثة..لا يمكن تغيير منظومة عميقة ومتغلغلة على جميع المستويات في ظرف وجيز و بسهولة ، إذ من الطبيعي أن يعقب سقوط نظام فاشل ، فراغ وفوضى وفقدان توازن، وذلك قبل قِيام نظام ديمقراطي جديد . إذ أن المرحلة القادمة تقتضي الحكمة والعقلانية، فبحيث لا يمكن الرجوع إلى الوراء و كذلك لا يمكن مواصلة الهروب إلى الأمام و القفز في المجهول.. ماعدا ذلك…. سيكون هروباً إلى الامام لن يزيد الطين إلاّ بلّة ولن يساهم في حلحلة الأوضاع بل في مزيد تأزيمها وحتماً في انفجارها.. لا مجال للسطو على إرادة الشعب و لا تُراهنوا على سكوته ، لأنّه جمر تحت الرماد..!!
* كاتب صحفي وناشط سياسي