على مرّ القرون والعقود , لا يزال البحث عن أعداء تركيا مهمة سهلة بالمقارنة مع البحث عن أصدقائها , حتى أن علاقاتها في محيطها الجغرافي والحيوي والجيوسياسي وتحالفاتها الأطلسية والإستراتيجية , تبدو هشة وحذرة وغير مستقرة وتفتقد دائماً إلى الثقة , واحتاج “عقلها المفكر” داوود أوغلو لإبتكار معادلة “صفر مشاكل” , حفاظاً على دورها ومصالحها وأطماعها و”أحلامها بإستعادة أرض وأمجاد الأجداد”, عدواناً أو استلاباً , في إعتمادٍ شبه كلي على القوة العسكرية ووصول الجيش التركي وأدواتها الإرهابية إلى أبعد ما يكون وفي جميع الإتجاهات , فهل خرجت تركيا عن سيطرة الأقطاب الكبرى في هذا الجزء المعقد من العالم ؟ أم تكتفي بإستعراض عضلاتها في بحثها عن هويتها العثمانية الجديدة ومكانتها في العالم الجديد ؟ , وهذا يدفع للسؤال ماذا تريد تركيا من العالم ؟ وماذا يريد العالم منها؟.
وبالنظر إلى تاريخها , تبدو هيمنة حكم الإمبراطورية العثمانية جليةً على مدى سبعة قرون , بالمقارنة مع فترة حكم الدولة التركية القومية الحديثة (مصطفى كمال أتاتورك ), إلى أن فرض أحمد داود أوغلو رؤيته الجيوسياسية التركية المعاصرة وتبناها الرئيس أردوغان , والتي تحلم وتبحث في جوهرها عن إعتراف العالم بتركيا كقوة أوروبية ، وقوة في البلقان ، وقوة متوسطية ، وقوة شرق أوسطية ، وقوة شمال أفريقية ، وقوة قوقازية ، وقوة في آسيا الوسطى ، وقوة أوروبية آسيوية , من خلال إعلان نفسها كقوة إسلامية تمتلك حقوق ومبررات تاريخية لإدعاءاتها وأطماعها.
إن إعتمادها على الظهور الديني , دفعها للإصطدام بالمملكة العربية السعودية – وليس بإيران كما يعتقد البعض – على خلفية تقديم أردوغان نفسه قائداً للعالم الإسلامي السني المعتدل , بالتوازي مع حكم تركيا كدولة دستور وإنتخابات “ديمقراطية”، وهذا ما لا يُرضي الرياض وإيدولوجية الأسرة الحاكمة وبيئتها الوهابية , ويدفعها للتركيز على الإجماع الدولي وبعضه عربي , بتصنيف الإخوان المسلمين “منظمة إرهابية”.
لم يجد الرئيس أردوغان صعوبةً لتقديم نفسه كقائدٍ ومتحدثٍ رسمي بإسم العالم الإسلامي في المحيط العربي , نتيجة تشرذم العالم العربي وإنقسامه حول القضايا الجوهرية والصراع العربي – الإسرائيلي , وإلتفافه نحو محفظة النقود السعودية والخليجية عموماً , الأمر الذي دفعه للغرق في فوضى التطرف والتطرف المعاكس , ولغض الطرف عن خطر التنظيم الإخواني وإرهابه في سوريا وليبيا وغير مكان , والتركيز على إستحضار الأحقاد والفتن والمشاركة في المؤامرات على أنظمة بعض الدول العربية , تمهيداً للإنبطاح في الحضن الأمريكي والإسرائيلي والذي تُرجم مؤخراً بتطبيع مذل ومجاني , حفاظاً على العروش والمكانة.
كذلك سعى أردوغان لإستمالة الشعب التركي تارةً عبر الإستفادة من المشاعر التركية التاريخية المناهضة للغرب عموماً , وتارةً عبر شحذ المشاعر القومية التركية , واستطاع إمتلاك القوة للمراهنة على النبضات الإسلامية والعثمانية الكامنة لدى بعض الشعوب ( إيغور , أوزبك , تتار , كازاخ ، قرغيز ، تركمان ، اّذار) , واتكئ عليها لنشر جنوده على امتداد حدود أطماعه , وبات الحديث عن تواجد عسكره وإنكشارييه تكتيكاً جيوسياسياً , يمكّنه من الوصول إلى قبرص واليونان وليبيا ولبنان وفلسطين المحتلة والسودان والقرم والصين , ناهيك عن دول الجوار في سوريا والعراق وناغورني كاراباخ …إلخ.
إن حضور تركيا الأطلسي وفي قلب الناتو , يمنحها مقعداً في الملعب الجيو سياسي الأوروبي , وإمكانية التلاعب بقضية اللاجئين وإثارة قلق الإتحاد الأوروبي المزمن وتحويله إلى أرق دائم … في حين تحافظ روسيا على علاقات عسكرية وسياسية وإقتصادية وسياحية مميزة مع تركيا , وتسعى لتطويرها , إلاّ أنها لا تشعر بالراحة , وتتعامل معها على مضض , حالها كحال الصين , سواء كان الحديث عن مسالك النفط والغاز وطريق الحرير والتجارة والمضائق البحرية .
لا يمكن الحديث عن سياسةٍ خارجية للدولة التركية مع كل هذه الطموحات والمغامرات ، والتي يراها البعض أفخاخاً نصبها اللاعبون الكبار على شكل صواعق قد تنفجر في لحظات , وتصنع الفارق لإنهاء الأرحجة التركية ما بين حدود القوة والإنهيار , فهناك من يراكم أخطائها ويضيق عليها الخناق تدريجياً , ومن يضعها أمام الخيارات الصعبة , كذلك لا يخفى على أحد إنقسام الداخل التركي , وميل الغالبية لتحميل حكومة أردوغان مسؤولية تردي الأوضاع الداخلية والمشاكل الخارجية , بالتوازي مع تاّكل وتدهور شعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية , ناهيك عن تفشي الفساد والقمع والإقتصاد المتدهور … أما خارجياً , ومع احتدام المخاض الدولي , وتفاهمات قمة جنيف الروسية – الأمريكية , وإمكانية تبلور صيغ مؤقتة لحقن الصدام , ومع التقاطع الحتمي للمصالح الدولية الكبرى , والإحباط الذي شعر به أردوغان عشية قمة الـ G7 , وكلامه حول: “عدم حصولنا على الدعم الذي توقعناه من المجتمع الدولي سواء في المعركة ضد التنظيمات الإرهابية أو لجهودنا في زعزعة استقرار سوريا” , فقد تنعكس البوصلة لتعيد تركيا و”السلطان” إلى فراش الموت والمرض , ويستغلها التاريخ لتكرار نفسه ثانيةً , بالتوازي مع الرياح الجديدة للعالم الجديد.