قرار الرئيس التونسي قيس سعيد” بتجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة ورفع الحصانة عن النواب” لم يتاتى من فراغ أو من هبة مزاجية او نفعية للرئيس بل أتى على خلفية المظاهرات الشعبية الحاشدة التي طالبت بحل البرلمان وإسقاط الحكومة التي يرأسها السيد المشيشي. هذه الجماهير التي خرجت الى الشارع وأسقطت الحكم الاستبدادي والفاسد الذي تراسه زين العابدين بن علي في يناير 2011 وكان خروجها تضامنا مع محمد البوعزيزي الذي اضرم النار في جسده إحتجاجا على مصادرة العربة التي يبيع عليها من قبل الشرطة ولكنها كانت موجهة الى الفساد المستشري بالبلاد وغياب العدالة الاجتماعية والبطالة المستفحلة وخاصة في اوساط الشباب مما اضطر بعضهم للهجرة طلبا للرزق والعيش الكريم, الى جانب”نظام اللصوص” من حكومات ووزراء وأقارب بن علي وغيرهم. كان أمل الشعب التونسي وبعد كنس النظام المستبد والفاسد ان ينعم بالحرية والعدالة الاجتماعية وتحسن وضعه المعيشي والنهوض بإقتصاد البلد.
كل هذه الامال لم تجد لها طريق لتحقيقها على ارض الواقع وكل الحكومات السابقة والتي في معظمها كانت تديرها حركة النهضة الاسلامية التي يتراسها راشد الغنوشي فشلت فشلا ذريعا في إحداث اي تغيير جذري على حياة المواطن العادي وتصالحت مع رموز النظام البائد. فالفساد وبحسب الكثيريين من المحللين قد زاد عما كان عليه في نظام بن علي فالمحسوبيات والاختلاسات والجرائم الاقتصادية استفحلت والبطالة بقيت على ما هي وكذلك الحال بالنسبة لغياب العدالة الاجتماعية. ولم تتابع الحكومات المتعاقبة بشكل جدي محاولت استرجاع المليارات التي هربت من البلاد من قبل النظام السابق وأعوانه والتي كانت جزءا اساسيا من إفقار البلاد ونهب ثرواتها.
ليس هذا وحسب بل تعدى الحال الى الاغتيالات السياسية لرموز قيادية تاريخية رافضة للاسلام السياسي وهيمنته على الحياة السياسية في تونس والتطبيع مع الكيان الصهيوني. فقد تم إغتيال كل من الامين العام السابق لحركة الوطنيين الديمقراطيين الشهيد شكري بلعيد في 6 فبراير 2013 والمنسق العام للتيار الشعبي محمد البراهمي في 25 يونيو من العام نفسه. وقد وجهت هيئة الدفاع الاتهامات الموثقة بتورط “التنظيم السري” لحركة النهضة الاسلامية في اغتيال المعارضين. واحتمى عندها رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي من التهم الموجهة اليه في علاقة الاغتيالات السياسية بالحصانة البرلمانية. كما وجهت العديد من التهديدات لبعض القيادات في الاحزاب التونسية الرافضة للاسلام السياسي مثل حزب حركة الشعب وحزب التيار الديمقراطي وقد نصحت أجهزة الاستخبارات التونسية البعض بالحراسة الشخصية تحسبا من اية عملية إرهابية.
وعندما انتخب الرئيس الحالي المستقل قيس سعيد من قبل الشعب مباشرة فاز بنسبة 72.7 بالمائة من اصوات الناخبين لثقتهم بنزاهته ومصداقيته ونظافة يديه التي لم تتلطخ يوما بالفساد ولانه اطلق الوعود بمحاسبة الفاسدين وملاحقتهم والعمل على تحسين الاوضاع المعيشية لاغلبية التونسيين وتحقيق العدالة الاجتماعية. وكان من المتوقع ان يجابه من قبل رموز النظام البائد الى جانب حركة النهضة الاسلامية التي ليس لها اي مصلحة في محاسبة الطغمة المالية والسياسية الفاسدة لضلوع بعض من رموزها بهذا الفساد الى جانب نبش ملف الاغتيالات السياسية السابقة.
ليس هذا وحسب بل انها كانت وما زالت ترى ان تقليم أظافرها كحركة سيقضي على آخر موقع لحركة الاخوان المسلمين ودفن حلم الاسلام السياسي في المنطقة الذي تراءى لها بعد مجىء حركة الاخوان المسلمين في مصر قبل اسقاطه من قبل العسكر ومجىء السيسي. ولهذا لم يكن مستغربا ان تنطح السيد اردوغان وحذر وهدد من القضاء على “الديمقراطية” في تونس وتنطح إتحاد علماء المسلمين وإصدار فتوى حول قرار الرئيس التونسي والتي اعتبر أن ” الاعتداء على العقد الاجتماعي الذي تم بإرادة الشعب التونسي محرما” والتاكيد على ” خطورة تلازم ثلاثية الاستبداد والفوضى والانقلاب غير الشرعي الذي لن يحقق للشعوب الحرة اي وعد من وعوده الكاذبة وأن التجارب القريبة تخبرنا بذلك فلا رفاهية ولا خير في إنقلاب”. طبعا المقصود هنا التشبيه بما حصل في مصروهذا إن دل على شيء فهو يدل على جهالة تامة بالاختلافات الكبيرة والهوة العميقة بين تونس ومصر من حيث البيئة الاجتماعية والسياسية والمجتمع المدني الى جانب الفارق الكبير بين السيسي المستبد والدكتاتور وبين الرئيس قيس سعيد المستقل والديمقراطي والذي لم يأتي بإنقلاب عسكري والذي إنحاز الى جانب شعبه ومطالبه المحقة والعادلة والتاكيد على تصحيح مسار الثورة الشعبية التونسية.
تونس الان تقف على مفترق طرق سياسي ولا شك ان الخطوات الملتزمة بالدستور والقانون التي إتخذها الرئيس سعيد هي خطوة في الاتجاه الصحيح للتخلص من المراوحة السياسية منذ الثورة الشعبية التونسية التي لم تستجيب للمطالب والاهداف التي خرج من أجلها مئات الالوف من الشعب التونسي الى الشوارع وإسقاط العهد البائد. والمطلوب الان هو تغيير جذري في المشهد السياسي في تونس وهذا لن يتأتى الا عن طريق إصدار قرارات وتطبيقها تؤدي الى إنهاء هيمنة طغمة مالية وسياسية فاسدة ما زالت تتحكم في البلاد حتى بعد الثورة الشعبية وهذا يتطلب محاكمة كل من له علاقة بالفساد من الطبقة السياسية ورجال الاعمال وعدم تمكينهم من الهروب ان تهريب رؤوس اموالهم الى الخارج. ومحاسبة ومحاكمة المتورطين في الاغتيالات السياسية السابقة.
كلنا امل أن تتجاوز تونس الحبيبة أزمتها الحالية وأن تستطيع ان تحدث التغيير الجذري المطلوب للمشهد السياسي لتصحيح مسار الثورة والتخلص من مرحلة المراوحة السياسية والقضاء على كل الفاسدين والمفسدين وأن تحقق ما كانت تصبو اليه الجماهير الشعبية التي اسقطت النظام البائد عام 2011.
* كاتب وباحث اكاديمي فلسطيني