الجمعة , 22 نوفمبر 2024
أخبار عاجلة

الشخصية الإنسانية وإعادة تدوير المشاعر…بقلم إبراهيم أبو عواد*

1| المهمة الأساسية للعلوم الاجتماعية هي الوصول إلى الإنسان، وفك شِيفرة مشاعره الغامضة، وتحليل أبعاده النفسية العميقة، ومعرفة مفاتيح شخصيته الظاهرة والباطنة. وطبيعةُ الشخصية الإنسانية قائمة على التَّشَظِّي، لأنَّ الإنسان يتحرَّك في عَالَمه الفكري وبيئته الاجتماعية ومساره الحضاري، في ظِل التحديات المصيرية. كما أنَّه واقع تحت الضغوطات الحياتية، ومُحَاط بالأزمات المعنوية والمادية، وهذا الأمرُ ليس غريبًا، ولا يُشكِّل مُفاجأة، فالحياةُ مَعجونة بالتعب والأخطار، ومعَ هذا فهي جديرة بأن تُعاش بكامل تفاصيلها، والمُتعة كامنة في تجاوز العقبات، وقَدَر السفينة أن تُبحِر في مياه مُضطربة، وتُواجِه الأخطار والعواصف، فهذا جُزء أساسي في حياة البحر والبَحَّارة. ولو انتظرَ كُل رُبَّان هُدوءَ البحر وسُكونه كَي يُبحِر بسفينته، لصارَ عاطلًا عن العمل، ونام في بَيته. ولو انتظرَ كُل طيَّار الطقسَ المُشمِس للإقلاع بطائرته، لَمَا طارت طائرة واحدة في هذا العَالَم. وهذا يعني أن الصُّعوبات هي التي تَمنح الطَّعْمَ للأشياء، كما يَمنح المِلْحُ المَذَاقَ للطعام. ولا شيء يُعادل فرح الطالب الذي يَنجح في امتحان صعب، ويتمكَّن من اجتيازه، لأنَّه عندئذ ستزداد ثقته بنفْسه، ويؤمن بقدراته وإمكانياته، ويَقتنع بأنَّه يَنتمي إلى نُخبة المجتمع التي تمتلك مؤهلات عقلية خاصَّة، وسوفَ يَنظر إلى نفْسه باعتباره مُمَيَّزًا، وقادرًا على صَهر المراحل، والتفوُّق على الذات والآخرين. أمَّا إن كانَ الامتحانُ سهلًا وبسيطًا، فلا تُوجد أيَّة مُتعة في اجتيازه، لأنَّه الجَميع سينجحون فيه بلا تعب. وبالتالي، لا يَشعر الإنسان بتميُّزه، فهو جُزء مِن الكُل، وواحد من الناس، بلا بَصمة مُؤثِّرة ولا مَوهبة مُتفرِّدة. والبطلُ لا يتكرَّس كشخصية كاريزمية جذَّابة، إلا إذا استطاعَ التفوُّق على الخُصوم الأقوياء، وكُلَّما كان الخصمُ قويًّا وشديدًا، كان قاهره وغالبه أقوى وأشد. ولا يَفُلُّ الحديدَ إلا الحديد .
2| التَّشَظِّي في طبيعة الشخصية الإنسانية لا يعني أن الإنسان مُصاب بانفصام في الشخصية، أو أنَّه مريض نفسيًّا، أو يُعاني مِن عُقَد اجتماعية، لأنَّ التَّشَظِّي يعني أن الإنسان في رحلته الحياتية يُقاتل على عِدَّة جبهات، فهو يُقاتل أفكارَه الانهزامية، وإحباطاته اليومية، وشهواته المُتأجِّجة، ونِقاطَ ضَعفه، وصراعاته الداخلية، وأزماته الخارجية، وكأنَّ الإنسانَ قسَّم نَفْسَه إلى أجزاء، ووزَّعها على الجبهات، مِن أجل الانتصار على ذاته، وتَطويعها، حتى يجد السلامَ الداخلي، ويُحقِّق المُصالحةَ مع ذاته والآخرين وعناصرِ الطبيعة. وهذه المُصالحة لا تعني الاستسلام للأمر الواقع، وإنَّما تعني تغيير السَّلبيات في الواقع، وصناعة واقع جديد أكثر إشراقًا. وهذا لا يتأتَّى إلا إذا كان الإنسانُ قادرًا على الحُلم بغد أفضل، وامتلكَ أدوات الإبداع والتغيير نحو الأحسن. والخِيالُ هو الأساس الفكري لتغيير الواقع، وتَطهيره مِن مواطن القُبح، ونَشر الجَمَال والبَهاء فيه. وكُل الشَّظايا التي تتساقط في داخل الإنسان نتيجة عمله تحت الضغط اليومي روحيًّا وماديًّا، يجب أن يُحوِّلها إلى قاعدة صلبة يبني عليها أحلامَه وطُموحاته، وهذا يعني ضرورة توظيف شظايا الكيان الإنساني كعناصر لبناء الإنسان الجديد، وليس هَدمه وتحطيمه. وهذه الشَّظايا مِثل كلام الأعداء، إمَّا أن يَجرح المشاعر، ويُحطِّم المعنويات، أو يَكون سببًا للإصرار والتَّحَدِّي، ودافعًا نَحْو التفوُّق والعمل الدؤوب .
3| كُل إنسان _ مَهما كانت درجة ذكائه ومكانته الاجتماعية _ يَمتلك شَخْصِيَّتَيْن: الشخصية الظاهرة السطحية، والشخصية الباطنة العميقة. والعلاقة بين الشَّخْصِيَّتَيْن كالعلاقة بين الجُزء الظاهر من جبل الجليد، والجُزء الخفيِّ الذي يُمثِّل الكُتلة الأكبر والثقل الحقيقي. ولا يُمكن للإنسان أن يَجد نَفْسَه في ضجيج الحياة وزِحَام الناس، إلا إذا حقَّق التوازنَ والتكاملَ بين الشَّخْصِيَّتَيْن، لحمايتهما من التعارض والتصادم. وهذه الغايةُ لن تتكرَّس كواقع ملموس إلا إذا غاصَ الإنسانُ في أعماقه السحيقة، وبَحَثَ عن الأشياء التي ماتت فيه، وبقايا الذكريات والصُّوَر المُختبئة في زوايا قلبه، ورواسب الأزمنة والأمكنة المُتجمِّعة في وجدانه، وشظايا أفكاره ومشاعره المُبعثرة في كيانه، وعندما يجد هذه العناصر غير المتجانسة، يجب عليه أن يَصهرها في بَوتقة واحدة، لصناعة سبيكة إنسانية قادرة على مُقاومة الشدائد، كما يجب عليه أن يعمل جاهدًا على إعادة تَدوير مشاعره المكسورة وأحاسيسه المُحطَّمة وآماله المُجْهَضَة، لصناعة حياته مِن جديد، وبناء كيانه الإنساني المتماسك، وتقديم نفْسه كمُنتصِر على الظروف، وليس ضحيةً لها. والعناصرُ المُبعثرة في داخل كيان الإنسان، تُشبِه الأسلحةَ القديمة الصَّدئة، والتعامل معها إنَّما يكون بتنظيفها وصيانتها، وإعادتها إلى الخدمة في حرب الإنسان ضد الأعداء الساكنين فيه، والعائشين معه ( الخَوف، الوَهْم، عدم الثِّقة بالنَّفْس). وكما أن الفِكر لا يُجَابَه إلا بالفِكر، كذلك المشاعر لا تُجَابَه إلا بالمشاعر .

 

* كاتب من الأردن

شاهد أيضاً

مركزية الألم في شعر الرثاء… بقلم إبراهيم أبو عواد 

شِعْرُ الرِّثَاء لَيْسَ تَجميعًا عشوائيًّا لِصِفَاتِ المَيِّتِ وخصائصِه وذِكرياتِه وأحلامِه ، أوْ حُزْنًا عابرًا سَرْعَان …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024