تخيّم على عواصم دول الشرق الأوسط حالة من الترقّب والتأهب، بانتظار الانتخابات الأمريكية، التي ستجري في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ومهما كانت النتيجة، ستؤثّر هذه الانتخابات في حالة ومكانة النخب والدول في المنطقة، وذلك بسبب وزن الولايات المتحدة العسكري والسياسي والاقتصادي، وقدرتها على استمالة او استدعاء أطراف فاعلة ووازنة، وتدخلها في عمق بعض القضايا، ولا مبالاتها تجاه قضايا كثيرة مهمّة.
وتنقسم النخب السياسية في المنطقة في الموقف من المرشحَين، ففي حين يرغب الحكّام في تل أبيب والرياض وأبو ظبي والقاهرة وربّما أنقرة في بقاء ترامب، تتوق القيادات في طهران وبيروت والدوحة ورام الله (وغزّة أيضًا) إلى فوز بايدن وإنهاء حقبة ترامب.
يبدو أن جو بايدن في طريقه للفوز برئاسة الولايات المتحدة، إلّا إذا حدثت في الأيام القليلة المقبلة تطورات «سحرية» تؤدّي إلى بقاء دونالد ترامب في البيت الأبيض، وهذا ليس مستحيلًا لكنّه مستبعد جدًّا. وفي حين أن سياسات ترامب الشرق أوسطية معروفة ومتوقّعة إلى حد كبير، بناء على أدائه في السنوات الأربع الماضية، فإن توجهات بايدن لا تزال في حالة إعلان نوايا، ولم تنزل بعد إلى أرض الواقع، ومنها ما هو مبلور وواضح المعالم، ومنها ما هو ليس كذلك. ويشار إلى انتقاد بايدن الأكثر تكرارا لسياسة ترامب الخارجية، بأنّها غير متماسكة وغير منطقية ومتخبّطة وضبابية، ولذلك هو يسعى الى نهج مختلف يصفه بأنه متماسك ومبلور وواضح وشفّاف. سياسات ترامب مكشوفة وواضحة، فما هي سياسات بايدن في الشرق الأوسط؟
بات من المؤكّد أن بايدن سيعيد الاعتبار للاتفاق النووي مع إيران، وسيضع «صفقة القرن» على الرف، وسيقف ضد الاستيطان والضم، ويعيد العلاقة مع القيادة الفلسطينية، ويعمل على لجم جنون بن سلمان، ويسعى للمصالحة في الخليج. سياسته ستكون مخالفة لنهج ترامب، وقريبة من تراث باراك أوباما، ولكنها لن تكون استمرارا مباشرا له. لا يحمل بايدن معه الكثير من الجديد، وهو ملتزم بالسياسات الأمريكية التقليدية، التي حاد عنها ترامب، وهو يريد إعادتها الى سكّتها، التي كانت أصلًا معادية لمصالح شعوب المنطقة، ومرتبطة بقوى الاستبداد والاستغلال والنهب والفساد والتخلّف.
يمكن تقدير سياسات بايدن بأنها اقتراب من أوباما وابتعاد عن ترامب، مع الأخذ بعين الاعتبار، عوامل جديدة وعوامل ليست جديدة، لكنّها ما زالت فاعلة ومؤثّرة ومنها: أولًا، وصول الولايات المتحدة الى الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة، من خلال التقنيات الحديثة والنفط الحجري. وثانيا تنامي المخاوف من التغلغل الصيني والروسي. وثالثًا القناعة بانّ إيران قريبة من الوصول إلى قدرات نووية. ورابعا الاعتراف بأن إمكانية التوصل الى تسوية للقضية الفلسطينية في الظرف القائم قريبة من الصفر. وخامسا، تزايد التحركات العسكرية وتوسّع الامتداد التركي في اتجاهات ومواقع متعددة، وسادسا استمرار التوتر والحروب الأهلية، وسابعا وليس أخيرا، المخلفات «المؤذية» لممارسات إدارة ترامب.
يسير جو بايدن باتجاه مواصلة الانسحاب الأمريكي من المنطقة، ولكن بحذر شديد منعا لأن يؤدّي الاستعجال إلى خسارة في النفوذ والمصالح، وإلى إضعاف الحلفاء. وهو يريد ان يبقى من التواجد العسكري والأمني ما يلزم لعدم حدوث تدهور في الوضع الراهن. من حيث المبدأ، يتبنّى بايدن الموقف المعلن لأوباما «لا أحذية على الأرض» ( (no boots on the» groundولكنّه لا يستطيع الالتزام بذلك تمامًا، كما لم يلتزم أوباما نفسه. إضافة لذلك، لا يستطيع بايدن أن يتجاهل أن غالبية ساحقة من الجمهور والنخب الأمريكية، تعارض التدخل العسكري في الشرق الأوسط، بعد التجربة المريرة في أفغانستان والعراق. سياسة الولايات المتحدة في التدخل العسكري وفرض العقوبات لم تثبت نفسها. القدرات العسكرية الهائلة للولايات المتحدة كفيلة بهزيمة جيوش نظامية، لكنّ أمريكا تتورّط على أرض الواقع في الحروب الأهلية، التي لا تنتهي. هي تفرض عقوبات اقتصادية قاسية وصعبة، لكنّها عاجزة عن تحويلها إلى إنجاز سياسي، سواء بتغيير نظام، أو تغيير سياساته. بايدن لا يريد العودة الى أخطاء وفشل الماضي، ويفضّل سياسة التعاون والإغراءات على سياسة التدخل والعقوبات. لقد التزم بايدن برفع العقوبات، التي فرضها ترامب على السلطة الفلسطينية، ووعد بأن يجدد العلاقات المقطوعة معها، ويصحح بعضا من خطوات ترامب، عبر إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس والسفارة الفلسطينية في واشنطن، ووقف العقوبات الاقتصادية، واستئناف تقديم الدعم الاقتصادي للسلطة والأونروا. كما من المتوقّع أن يضع «صفقة القرن» ومشاريع الضم جانبا، وأن يسعى لتجميد الاستيطان، ولإعادة الحياة لمشروع حل الدولتين. وبما أنه لا ينوي فرض ضغوط جدية على إسرائيل فهو يعرف أكثر من غيره، أن الحل غير ممكن، وأن المفاوضات غير مجدية، لكنه يريد ان يمنع موت حل الدولتين، وأن يحافظ على الاستقرار لا أكثر.
لقد سعت الرئاسة الفلسطينية في الأشهر الأخيرة إلى تجميد أي تحرك جدي بانتظار الانتخابات الأمريكية، وهي ترى في انتخاب بايدن إنقاذًا لحالها، وفي عودة ترامب مصيبة من النوع الثقيل. هذا هو السبب الأهم لعدم جدية الحديث عن المصالحة، وتأجيل البت بها، إلى ما بعد الثالث من نوفمبر. أما سلطة حماس في غزّة فهي تتفاءل بانتخاب بايدن، الذي قد يمنح حماس شرعية، استنادًا إلى ليونة موقف الحزب الديمقراطي في التعامل مع التيار الإسلامي المعتدل، لكن عليها أن تنتبه إلى أن بايدن سيدعم الشرط الإسرائيلي بجعل غزّة منطقة منزوعة السلاح. وأوضح بايدن في إجابته على أسئلة «مجلس العلاقات الخارجية» بأنّ «على القيادة الفلسطينية وقف التحريض وتمجيد العنف، وعليها أن تكون صادقة بشأن شرعية إسرائيل كدولة يهودية، وكوطن قومي للشعب اليهودي». وفي المقابل طلب من إسرائيل «وقف التوسّع الاستيطاني» لا غير. من المؤكّد أن بايدن سيبقي على الانحياز لإسرائيل، لكنه سيكون انحيازًا لإسرائيل وليس لليمين الإسرائيلي، كما كان ترامب.
وإذا كانت عودة المفاوضات شبه مستحيلة، فإن بايدن معني باستئناف الاتصالات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، رغبة منه في الحفاظ على الاستقرار، وعلى أمن ومصلحة إسرائيل، يريد توجيه الدعم لإسرائيل في إطار سياسة إدارة الصراع بعد أن سار ترامب باتجاه حسم الصراع وفق رغبات اليمين الإسرائيلي. وتتضح بنية موقف بايدن من إسرائيل من قوله «الولايات المتحدة تحافظ عليكم، لكن لا تكونوا أعداء لأنفسكم» ومما قاله للسفير الإسرائيلي الأسبق مايكل أورن «حتى لو تعاملت معنا إسرائيل بضربات الملاكمة، سندافع عنها». وإذا كان ترامب مع اليمين الإسرائيلي المتطرف، فإن بايدن مع إسرائيل كدولة وهو أقرب الى مواقف منافسي نتنياهو في الوسط واليسار الإسرائيليين، وليس أكثر من ذلك. هو لن يقوم بإغلاق السفارة في القدس وبإلغاء الاعتراف بضم الجولان، لكنّه سيضغط على إسرائيل لتجميد الاستيطان، وعدم القيام بما من شأنه أن ينهي حل الدولتين. ويرفض بايدن بشدّة مطالب التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي باشتراط الدعم الأمريكي لإسرائيل بتغيير سياساتها، وإنهاء الاستيطان والاحتلال وتطبيق حل الدولتين. من هنا فإن «الضغط» على إسرائيل سيكون ناعمًا، ويستند إلى مفهوم مصلحة الدولة العبرية كما يفهمها الديمقراطيون.
إسرائيل مطمئنّة إلى أن بايدن لن يضغط عليها مهما صار، وسيدعم اعتداءاتها المتكررة كما فعل أوباما من قبله. ما يقلق إسرائيل حقًّا هو أنه لن يخضع لضغوطها، ولن يحيد عن نيته بالعودة الى الاتفاق النووي، مع بعض التعديلات، وبأنّه لن يكون مثل ترامب سيداً مطيعا، يسير وفق الأهواء الإسرائيلية بكل ما يتعلق بالملف الإيراني، وسيسعى، بدلًا من ذلك، للتعاون مع الأوروبيين لرد الاعتبار للاتفاق، الذي أنجزه أوباما، والذي يرى فيه الطريق الوحيد لوقف المشروع النووي الإيراني.
يقض التغيير في الموقف الأمريكي من إيران مضاجع النظام السعودي، الذي يرفض الاتفاق النووي، ويريد من العالم أن يحاصر إيران ويحد من إمكانيات تحركها، وتعاظم قوّتها وتأثيرها، في الواقع. ويعتبر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ومن حوله انتصار بايدن كابوسا مرعبًا، وذلك بسبب ما رشح من مواقف الديمقراطيين عمومًا، في ما يخص إنهاء الحرب في اليمن، وملف اغتيال خاشقجي وحقوق الإنسان، وبالطبع العلاقة مع إيران. هذه هي مواقف بايدن اليوم، لكن ليس من المعروف ما إذا كان سيرفض الصفقة الإسرائيلية، بعدم الضغط على السعودية بشأن اليمن، مقابل قيامها بالتطبيع العلني مع تل أبيب، وتسجيل ذلك كإنجاز شخصي له. كما أن هناك إمكانية أن تجري الإطاحة ببن سلمان، إذا شكّل استمرار وجوده في الحكم سببًا لانهيار العلاقات مع الولايات المتحدة، التي تعتبر مصيرية بالنسبة للنظام السعودي. من الممكن جدًّا ان تستعين السعودية بإسرائيل لصد الضغط الأمريكي، وقد يكون ذلك عاملًا مهمًّا في امتصاص هذا الضغط. لعل أهم الأحداث السياسية في العالم في الأشهر القريبة هو الانتخابات الأمريكية ونتائجها وتداعياتها، وهي كذلك أهم حدث سياسي في الشرق الأوسط يتراوح تأثيره بين رجّات خفيفة في بعض المواقع إلى هزّات قوية لبعض العروش. وإذا تحوّلت النتائج المتوقّعة إلى حقيقة، فإن نتنياهو وبن سلمان في ورطة، مقابل تنفس الصعداء في طهران ورام الله.
ولو أن بايدن مختلف عن ترامب، إلّا أنّه لن يأتي بتجديدات كثيرة مقارنة بباراك أوباما. ومع ان الولايات المتحدة أقوى دول العالم، إلا انّها لم تستطع في كل الحالات فرض قرارها على الشعوب وعلى النخب السياسية. وإذا فشل ترامب في الضغط على القيادات الفلسطينية والإيرانية، فما من سبب للاعتقاد بأن بايدن سينجح في ضغطه لإملاء مواقفه على السعودية وإسرائيل. المطامع الأمريكية في المنطقة لم تتغير جوهريًا، ما يمكن أن يتغير هو الأسلوب والاستراتيجيات، وهذا مهم بحد ذاته، لكن الأهم بالنسبة لمن ينشد العدالة أن يبني أساليب جديدة تتلاءم والتحديات التي تفرضها إدارة ما بعد ترامب، مع إعارة انتباه إلى ارتفاع مكانة وتأثير التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي، الذي يجب التعاون معه كرافعة للضغط على الرئيس الجديد.