مضى عامٌ سيظلّ لوقت طويل جاثماً على صدور البوليفيين. عامٌ نَفّذت المؤسّسة العسكرية في خلاله، برعاية ودعم أميركيَّين، انقلاباً أطاح الزعيم اليساري إيفو موراليس، لتَدخل البلاد نفقاً بدا الفكاك منه غير ممكن، وسط جوارٍ ظَنَّ أن الالتحاق بمعسكر واشنطن سيُعلي شأنَه لدى «مُخلّص» البيت الأبيض.
عامٌ جرّب فيه خليط هجين مِن المعارضة اليمينية المتحالفة مع العسكر، كلّ شيء، وفشل؛ قمعٌ وترويع وعنصرية ومجازر في حقّ السكّان الأصليين عادت لتنبش تاريخاً طويلاً من العداء الدموي، ولتَحفر عميقاً في ذاكرة جمعيّة ملأى بذكريات أليمة لحكم الإقطاع والدكتاتورية. تلك مرحلةٌ، على رغم تبعاتها المضنية، اختُتمت أول من أمس، حين اختار البوليفيون، مجدّداً، أن يكملوا من حيث انطلق الانقلاب: صناديق الاقتراع التي حوّلها «أعداء الديموقراطية» إلى أداة محاكمة، لأن النتيجة لم تأتِ على خاطرهم أو خاطر رعاتهم الإقليميين. انتصر إيفو موراليس للمرّة الثانية في غضون عام، ليعيد حليفُه، الرئيس البوليفي المُنتخب، لويس آرسي، بعض الأمل إلى الجوار اللاتيني المُثقل بالأزمات، بينما تمضي واشنطن وحلفاؤها في حصد الخيبات.
لم يُعمِّر المشروع الانقلابي في بوليفيا طويلاً. نتائج الانتخابات التي أجريت، أوّل من أمس، جاءت لتُكرّس نتيجة سابِقتها، وتُسقِط كلّ مزاعم التزوير والفساد التي أدّت إلى إطاحة الرئيس السابق إيفو موراليس، ولجوئه مُكرَهاً إلى الأرجنتين بعد تهديدات باعتقاله أو اغتياله. نتيجةٌ فاقت كلّ التوقّعات، وأعطت مرشّح اليسار البوليفي، لويس آرسي، ما يقارب 53 في المئة من الأصوات، في مقابل 30 في المئة لمنافسه الأقرب، الرئيس الأسبق كارلوس ميسا، فيما مُني مرشّح اليمين المتطرّف وواجهة الانقلاب، لويس فرناندو كاماتشو، بخسارة مذلّة بعد حصوله على أقلّ من 15 في المئة من مجمل الأصوات.
في الشكل، استعاد اليسار شرعيّته الشعبية في وقت قياسي، وخصوصاً بعدما حَصَد توازياً الأكثرية في مجلسَي النواب والشيوخ. هكذا، فشلت المعارضة المتحالفة مع المؤسّسة العسكرية في إقناع الرأي العام بضرورة اقتلاع النهج اليساري، أسوةً بما جرى في بعض دول أميركا اللاتينية. ولم تُخمِد المُمارسات التالية للانقلاب – وأبرزها قمع التظاهرات المندّدة بالتدخّل العسكري، وإقالة الرئيس الشرعي، وقتل مئات المحتجين وسجن الآلاف – الاعتراضات الشعبية المُستمرّة في التفاعل داخلياً، على رغم امتناع وسائل الإعلام عن التغطية، وسيطرة المؤسّسة العسكرية على المشهد العام تحت غطاء «الرئيسة الانتقالية» جانين آنيز.
في المضمون، يُشكّل سقوط أحزاب اليمين المتطرّف خسارة استراتيجية لراعِيَتها واشنطن، كونها قادت الانقلاب وأعطت ضمانات لقائد الجيش وشخصيات مِن المعارضة بتغطية إلغاء نتيجة الانتخابات السابقة، وتهيئة الرأي العام الدولي لتقبُّل الحكومة الجديدة والبدء في مرحلة جديدة يَغيب عنها التيّار المعارض للتدخّل الأميركي في الشؤون السيادية لبوليفيا، وخصخصة الشركات الحكومية وانتقال الثروات الطبيعية إلى الشركات الأجنبية، وأهمّها المخزون الضخم من الليثيوم، المادة اللازمة في صناعة السيارات الكهربائية، والتي يرى المراقبون أنها السبب الرئيس وراء الانقلاب في بوليفيا.
أنهت بوليفيا عاماً دموياً أعاد إليها الذاكرة الأليمة لحكم الإقطاع والديكتاتورية العسكرية
أمّا لجهة الارتدادات الإقليمية، فيُعدُّ فوز وزير الاقتصاد في حكومة إيفو موراليس السابقة، لويس آرسي، برئاسة البلاد، ضربة قاسية للنهج اليميني المتنامي في القارة اللاتينية، عبر استراتيجية شيطنة الأحزاب السيادية، ومحاصرة الدول التي تغرّد حارج السرب الأميركي، وخصوصاً فنزويلا، عبر تحويل محيطها إلى قواعد متقدّمة لإسقاط أهمّ معاقل اليسار في أميركا الجنوبية.
مصادر مقرّبة من المعارضة البوليفية تحدّثت عن إقرارٍ واضح باستحالة الاستمرار في الحكم، وسط غليان شعبي داخلي أَجبر الحكومة الانتقالية على التعاطي مع الملف الانتخابي بواقعية سياسية، نتج منها اعتراف الرئيسة الانتقالية بنتائج الانتخابات. اعترافٌ ربّما يشكّل ضرراً أقلّ بكثير مِن المكابرة والاستمرار في تحدّي الرأي العام البوليفي الذي أعطى الفرصة الأخيرة عبر التصويت، قبل اشتعال الثورة الحقيقية.
في المحصلة، انكشف المشهد البوليفي على حقائق شديدة الوضوح، أهمّها عودة اليسار برؤية متقدّمة عبّر عنها الرئيس المُنتخب في أوّل خطاب ألقاه بعد الفوز. رؤيةٌ تعتمد على تشكيل حكومة وحدة وطنية تمثّل الغالبية الساحقة من البوليفيين، وتعمل على إعادة اللحمة الداخلية وإنهاء حالة الصراع والابتعاد عن الانتقام والمناكفة، والانكباب حصراً على مشاريع التنمية الشاملة والاستفادة من ثروات البلاد وقطع الطريق على الأطماع الأجنبية.
آرسي الذي قاد الحملة الانتخابية تحت شعار مكافحة الفساد وعدم حماية مَن تطالهم التحقيقات، شدّد، في خطابه، على ضرورة عودة الزعيم البوليفي إيفو موراليس من منفاه، بعد استرداد الديموقراطية وفرض الإرادة الشعبية، فيما شارك هذا الأخير حليفه احتفالية النصر، واصفاً فوزه بعودة الكرامة والسيادة إلى بوليفيا.
على رغم مشهدية الخطاب الناعم لليسار بعد فوزه والواقعية العقلانية للمعارضة بعد خسارتها، إلّا أن تحدّيات كبرى تنتظر الإدارة القادمة، ولا سيما أنها ستكون أمام إرث من الفوضى الإدارية والاقتصادية بعد الانقلاب وتفشي وباء «كورونا» وسط انهيار البنية الصحيّة في البلاد، كما ستبرز إشكالية التعاطي مع المؤسسة العسكرية كونها شكّلت رأس حربة إطاحة موراليس.
تحدّياتٌ تضاف إليها إعادة تطبيع العلاقات مع دول الجوار، كالبرازيل وكولومبيا والباراغواي التي خذلت اليسار في لحظة مفصليّة عبر مسارعتها إلى الاعتراف بالرئيسة الانتقالية، ضاربةً عرض الحائط باتفاقات التعاون اللاتيني التي تشترط احترام المسار الديموقراطي وعدم إضفاء شرعية على أيّ انقلاب عسكري أو دستوري في هذه البلاد.
أنهت بوليفيا عاماً دموياً أعاد إليها الذاكرة الأليمة لحكم الإقطاع والديكتاتورية العسكرية، ما شكّل حافزاً أساسياً للإصرار على مقاومة الاحتلال المقنّع بوجوه سياسية وعسكرية. لكن حسابات البوليفيين الذين تحدّوا آلة القهر على مدى عام كامل، ربّما تختلف عن الحسابات السياسية لقيادتهم الشرعية في طيّ صفحة سوداء في تاريخ بلادهم.
يقول أنصار إيفو موراليس إن المسؤولين عن قتل الناس ورميهم على جنبات الطُرق سينالون عقابهم لأن يوم الحساب قريب.
علي فرحات – الأخبار