أثبت الأسير خليل العواودة من جديد، كما كل إخوانه الأسرى والمعتقلين، الذين سبقوه بالإضراب عن الطعام، والإصرار على مواصلته، والثبات أمام أوجاعه، والصبر على آلامه، والمضي فيه حتى نهايته، شهادةً أو نصراً، وحريةً أو قيداً، أن الحق أقوى، وأن الإرادة أجدى، وأن السجان أوهى، وأن الاحتلال أقنى، وأن الفجر مهما تأخر نوره فسيطلع، ومهما ادلهم ليله فسينير، وشمسه في الصباح الجديد ستسطع، وستنشر خيوطها الذهبية من علياء سمائها إلى الأرض، وسينعم بدفئها الأبطال، وسيفرح بنورها الصابرون، كفرح المؤمنين بنصر الله الذي يتنزل عليهم.
أثبت خليل العواودة وإخوانه الأسرى أن الشعب الفلسطيني ليس ضعيفاً أو خائراً، ولا مستسلماً أو عاجزاً، ولا يائساً أو قانطاً، وإنما هو قويٌ بعد توكله على الله عز وجل، بإرادته الصلبة، وعزيمته الفولاذية، ويقينه الراسخ، وإيمانه الكبير، وتضحياته الواعدة، وزادت قوته وتعاظم بأسه بصبر أهله معه، وصمود شعبه إلى جانبه، ودعمهم له ومساندتهم لقضيته وإخوانه، إذ لم يتركوه وحيداً، ولم يتخلوا عنه ضعيفاً، وأصروا على الوقوف معه، ورفع صوره ونقل معاناته، وتسليط الضوء على حقوقه وفضح ظروفه، حتى تتحقق حريته، ويفرج عنه وإخوانه، ويغلق ملفه وتنتهي سياسة الأحكام الإدارية الظالمة.
ها هو خليل يترجل من على سرير المستشفى بطلاً، فارساً منتصراً، أسيراً محرراً، بعد أن قارب إضرابه عن الطعان الستة أشهر، وقد كان مصراً على المواصلة لو عاند الاحتلال، صامداً على موقفه وثابتاً على حاله ولو كانت فيها منيته، وقد رفض مناورات سلطات السجون، وفضح مماطلتهم، وصمم على مواجهتهم وهو يعلم أنه قد أصبح بقايا جسد، وشيئاً من الهيكل العظمي، وأن جسمه يتآكل ويتضاءل، وأن عضلاته قد ذابت، إلا أن عقله بقي يقظاً يعمل، وناشطاً يعي، وحافظ رغم الحرمان على ذهنه صافياً، وتفكيره متزناً، وموقفه راشداً، وحملت كلماته القليلة، وصوته الخافت، أعظم الرسائل إلى الأمة، وأسرعها وصولاً إليها، وأكثرها تأثيراً فيها، فبشرها بأن الذي نصره سينصرهم، وأن الذي مَنَّ عليه بالحرية سيكرمهم.
راهن العدو على خليل كما راهن على من سبقه أن يضعف ويركع، وأن ينهار ويخضع، وأن ينهي إضرابه ويخنع، وأن تنكسر إرادته فيتراجع عن مطالبه، وأن تخور قواه فينكفئ على ما انطلق من أجله، لكنه ما علم أن الشعب الفلسطيني يقاتل بكل ما يملك، وأنه يضحي بحياته ليستعيد أرضه ويحرر وطنه، وأنه في سبيل ذلك لا يتأخر في التضحية والفداء، وفي البذل والعطاء، ويقينه أن عيونه الضعيفة قادرة على الانتصار على المخرز المدبب، وأن أمعاءه الخاوية ومعداته الفارغة قادرة على هزيمة السجان وكسر إرادة الاحتلال، وأن النصر صبر ساعة، وهو حليف المضحين وعاقبة العاملين.
ما إن احتسى خليل العواودة أول فنجان شايٍ له بعد 172 يوماً من الصبر والصمود، حتى أعلن 1200 أسيراً فلسطينياً في مختلف السجون الإسرائيلية، عزمهم على خوض إضرابٍ مفتوحٍ عن الطعام، احتجاجاً على سوء أوضاعهم المعيشية، ورفضاً لممارسات سلطات السجون القمعية، وتمسكاً بالحقوق التي انتزعوها في السنوات الماضية، التي حرمتهم منها مصلحة السجون، وهي التي نالوها بالجوع والدم، وحققوها بالصبر والاحتمال، وأصدروا بيانهم الأول الذي أكدوا فيه عزمهم وإصرارهم، وأنهم لن يتراجعوا عن خطوتهم، ولن يوقفوا إضرابهم حتى يستعيدوا حقوقهم الاعتقالية المسلوبة.
ساعاتٌ قليلةٌ مضت قبل أن تعلن سلطات مصلحة السجون، والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، إعادتها لكامل الحقوق التي تم سحبها من الأسرى والمعتقلين، واستجابتها لكامل المطالب التي تقدموا بها، والالتزام بكافة الاتفاقيات التي تم التوصل إليها سابقاً معهم، مقابل تراجعهم عن إضرابهم، والامتناع عن القيام بأي خطواتٍ تصعيدية في السجون وخارجها، والإيعاز إلى شعبهم وفصائلهم أنهم استعادوا حقوقهم، وفكوا إضرابهم، وامتنعوا عن أي تصعيدٍ احتجاجي، خوفاً من حراك الشارع وعمليات المقاومة، وبهذا تحقق لأسرانا البواسل ما كانوا يتطلعون إليه، وحققوا أهدافهم التي كانوا سيضحون بحياتهم في سبيلها.
إنه نصرٌ جَرَّ نصراً، وعزةٌ استدعت عزةً وكرامةً، بدأها خليلٌ وتبعه إخوانه، وهم الذين ناصروه وأيدوه، وساندوه وساعدوه، فهنيئاً لخليل نصره، وطوبى له نجاحه، وسَعِدَ به أهله، وفرح له شعبه، وباهت به أمته، وافتخر به من سانده وأيده، ومن نصره وساعده، فما حققه في مواجهة العدو رسالة له صريحة وواضحة، قوية ومباشرة، أنه يخطئ إن ظن أنه بسلاحه أقوى، وأنه بجبروته قادرٌ على أن يخضع الشعب الفلسطيني ويركعه، وأنه بممارساته القمعية ضدهم يستطيع أن يفرض عليهم ما يريد، وينال منهم ما يتمنى، فهذا الشعب سيبقى عصياً عليه، متمرداً على عصا الاحتلال وإن غلظت، ومصمماً على الانتصار عليه والوقوف في وجه وإن ظن أنه الأقوى والأقدر، فسلام الله عليك خليل، أنتم السابقون، وإخوانك من بعدك اللاحقون.