الغرب وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة لا تريد الاعتراف بفشلها الذريع في محاولة إعادة تشكيل الدولة الروسية بمقاساتها وشاكلتها أو بعبارة بأدق تابعة لها وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينات القرن الماضي حيث عملت جاهدة على تغيير البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما قامت بصرف مئات الملايين ان لم تكن مليارات في محاولة تغيير الوعي الجمعي والوجداني للشعب الروسي وخاصة فيما يخص رؤية هذا الشعب العريق لدور روسيا في العالم وحاولت تدمير الإرث الثقافي والعقائدي الروسي. ولقد اعتقد الغرب أن هذا قد تحقق الى درجة كبيرة في فترة “البيروسترويكا” ابان فترة جورباتشوف وتعمق هذا الاعتقاد في فترة السكير الرئيس يلتسين الذي قام “ببيع الدولة” والتي أدت الى نشوء طبقة أوليغاركية روسية متوحشة انتفعت بشراء ما تملكه الدولة بأسعار بخسة للغاية وفتح الباب للشركات العالمية الغربية للاستثمار في روسيا ونهب ممنهج لمقدرات البلد. وفي تلك الفترة سيطرت الولايات المتحدة والبنك الدولي على مفاصل الاقتصاد والسياسة الروسية الى الحد الذي تم فيه تعيين المستشارين الأمريكيين في الوزارات السيادية.
ومع تسلم بوتين الرئاسة فيما بعد بدأت عملية التغيير في الأوضاع المزرية التي خلفتها فترة رئاسة يلتسين الى ان وصل الحال بروسيا الى ما هي عليه الان. وهنالك العديد من المحطات التي لم يستوعبها الغرب بالشكل الصحيح والتي كانت مؤشرات على ان روسيا لن تقبل بتعريض امنها القومي للخطر الذي شكله الناتو بالزحف التدريجي والاقتراب من حدودها عبر جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، بالإضافة الى توق الرئيس بوتين على وجه التحديد لإعادة الدور الروسي الفاعل والوازن على الساحة الدولية.
وربما كان أولها التدخل العسكري المباشر في جورجيا عام 2008 لمنع سيطرة النظام الجورجي الذي جاء على اعقاب ثورة ملونة بتخطيط من المخابرات المركزية الامريكية على جمهوريتي ابخازيا واسوستيا الجنوبية المحاذيتين للحدود الروسية, وكذلك التدخل السياسي والعسكري المحدود في أوكرانيا عام 2014 بعد نجاح ثورة ملونة على غرار تلك التي حدثت في جورجيا والتي أدت الى وصول أحزاب نازية وفاشية الى البرلمان الاوكراني لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. تجلى هذا التدخل بالمساهمة بشكل فعال بصياغة معاهدة مينسك التي كان من المفترض ضمن بنودها الأساسية تغيير الدستور الاوكراني ومنح منطقة الدونباس ذات الأغلبية الروسية حكما ذاتيا ضمن اوكرانيا الموحدة، لكن الحكومة الأوكرانية لم تلتزم بتعهداتها. والى جانب ذلك استعادت روسيا شبه جزيرة القرم بعد اجراء استفتاء شعبي عام 2014 والتي وهبها او ضمها خروتشوف الى أوكرانيا عام 1954. وكذلك تدخلت روسيا عسكريا في الصراع الدائر في سوريا عام 2015 لمحاربة الإرهابيين اللذين جمعوا من أكثر من 80 دولة بعد فشل أحداث ثورة ملونة لإسقاط النظام والدولة السورية. والان حصل التدخل الروسي العسكري في أوكرانيا لحماية أيضا لحماية منطقة الدونباس ذات الأغلبية الروسية وضمان سلامة حدود جمهوريتي لوغانسك ودونيستك في تلك المنطقة الشرقية من اوكرانيا ولضمان عدم وجود قوات حلف الناتو على الحدود مع روسيا وضمان الامن القومي الروسي والقضاء على المجموعات النازية والقومية المتطرفة. على الأقل هذا الموقف الرسمي للقيادة الروسية كما أعلنه الرئيس بوتين من الحملة العسكرية على أوكرانيا.
كل هذه المؤشرات فشل الغرب في ترجمتها بالشكل الصحيح لعدم استيعابه او رفضه وخاصة من قبل الولايات المتحدة بأن زمن العربدة والهيمنة والاستئثار الذي مارسته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قد ولى دون رجعة وذلك لنشوء اقطاب دولية أخرى مناهضة للتفرد والتسلط الأمريكي على الساحة الدولية ومن ضمنها المارد الصيني والدب الروسي كما يقال. والى حين الاعتراف الغربي بهذه الحقيقة التي بدأت تترسخ يوما بعد يوم على ارض الواقع ستبقى الصراعات وعدم الاستقرار هما السائدان وما احداث أوكرانيا الا أحد تجليات هذا الصراع المحتد والمتصاعد على الساحة الدولية، لعدم التقبل والاعتراف من قبل الدول الغربية التي تسير سير الخراف من قبل الولايات المتحدة بهذه الحقائق التي اوردناها هنا.
كاتب وباحث أكاديمي فلسطيني