لا أظن أن أحدا لم يتبادر إلى مسامعه من سابق ذكر اسم مدينة الفلوجة العراقية إبان غزو القوات الأمريكية واسقاطها لنظام البعث العراقي سنة 2003، ولكن رمزية الفلوجة وشهرتها لم تكتسبها لأنها مدينة مقدسة كبعض مدن العراق على غرار كربلاء والنجف والكاظمية وغيرها، وانما اشتهرت مدينة الفلوجة بروح الثورة المقدسة ضد المستعمر وبأرواح ابنائها التي تأبى الضيم وظلم المستعمر.
الأمريكيون شحذوا روح المقاومة في الفلوجة بغبائهم واستخفافهم بالروح الثورية للعراقيين، لقد اندفعت قواتهم الغازية لتفرض سيطرتها على المدينة كباقي مدن العراق بأسلوب استفزازي أرعن فسرعان ما نضجت الثورة ضد الاستعمار الغاشم..
لقد كسب الجيش الأمريكي الحرب على حزب البعث المستبد في العراق ولكنه لم يكسب الحرب ضد العراقيين تحت أي ستار موهوم سواء كان تخليص العراق من الدكتاتورية ونشر الديمقراطية أو حماية العالم من اسلحة الدمار الشامل.
تمرغت أسطورة الجندي الأمريكي في الوحل على أرض العراق وخاصة في مدينة الفلوجة التي صارت منطقة حمراء على المحتل.. هذه المدينة التي تلتحف برداء نهر الفرات العظيم لم يستطيع أي احتلال قهرها وتركيعها.
مسلسل الفلوجة، ابتذال وإسفاف ونزول إلى القاع:
تعوّد التونسيون خلال السنوات العشر الأخيرة على المفاجآت غير السارة، وليس أقلها الأعمال الرمضانية التي يثور الجدل حولها باستمرار وينقسم حولها الشارع التونسي إلى معارض ومستهجن من جهة وإلى مبارك لهذه الأعمال التي يراها أصحاب هذا الرأي تعرّي الواقع من جهة أخرى.
وبتعلّة تعرية الواقع والظواهر الاجتماعية التي يحتويها لا تتوانى عدد من القنوات التلفزيونية الخاصة في نفث سمومها إلى العائلات التونسية في استهداف مباشر للناشئة والأطفال الذين لم يمتلكوا بعد ما يكفي من الحصانة والمناعة الذاتية التي تمكنهم من تقييم هذه الأعمال وعدم التأثر بها وعدم النظر إلى شخصياتها بمنظار القدوة والمثال.
لعب الإعلام الخاص في هذا السياق دورا قذرا في نشر الانحلال الأخلاقي وتدمير الناشئة عبر تقديمه لمحتوى سلبي ومشين مما أثّر بشكل مباشر وملموس على الشباب والأطفال وليس أصدق من المربين ومن قضاة الأطفال الذين يتعاملون مع الأطفال الجانحين حين أطلقوا في أكثر من مناسبة صيحات فزع حول التكاثر الجنوني لعدد الجرائم التي يرتكبها الأطفال والمراهقون الذين يجمعون في أغلبهم أنهم اقترفوا أفعالهم تحت تأثير مسلسلات “أولاد مفيدة” و”الفوندو” و”مكتوب” وبراءة” وغيرها.
مسلسل “الفلوجة” لم يشذّ عن ما سبق من الأعمال المذكورة، حيث أن المشاهد يصدم من الحلقة الأولى لهذا العمل بكمية الاستهداف الممنهج للمؤسسة التربوية وللأستاذ ولرمزية المعلّم والمربّي فضلا عن التطبيع المفضوح مع المخدرات والبذاءة في الوسط المدرسي.
حيث يقدّم هذا العمل كغيره من الأعمال التي أنتجها سامي الفهري وأخرجها بنفسه أو بواسطة سوسن الجمني وجهات نظر معيّنة تتعلق ببعض السلوكيات والقضايا الحساسة مما يولّد صورا ذهنية معيّنة لدى الناشئة والمراهقين تصل في النهاية إلى التطبيع مع هذه السلوكات واستبدالها لدى المتلقين عموما سواء كانوا أطفالا أو أولياء بحيث يصبح هؤلاء المتلقون متعودين على معاينة هذه الظواهر والقضايا والتطبيع معها حتى يستبطن اللاوعي الفردي والجمعي فكرة أن هذه المظاهر موجودة ولا بد من تقبلها وصولا إلى مرحلة عدم الاستهجان.
إن المراهق مرتبط بواقعه المادي الملموس بشكل كبير جدا، وفي الوقت نفسه فإنّه يولي اهتماما كبيرا لعالم الصورة وللعالم الافتراضي في علاقاته بالعالم الخارجي الملموس، لأنّ سيطرة الجانب العاطفي على شخصيته يجعله في هذه المرحلة منفتحا على الرموز وعلى كل ما يثير الخيال، لذلك تبقى لغة الوسائل السمعية البصرية هي أنسب اللغات لتركيبته النفسية في تلك المرحلة الحساسة من عمره، فهي تزوده بالمعلومات عن عوالم شتى بشكل مرغوب لديه، وتجعله على اتصال كامل بالعالم، وتغني خياله وتثير مخيلته أيضا.
إنّ عملية الضغط على غرس القيم اللاأخلاقية والتي لا تناسب المجتمع التونسي بينما تكون متناسقة مع مجتمع آخر لا نتفق معه في الخلفيات الحضارية والثقافية والدينية تولد آثار تسعى إلى تدمير القيم الأخلاقية لدى المجتمع عبر تسليط الضوء بشكل بذيء على ظواهر من قبيل الجريمة والعنف والمخدرات والانتحار وقضايا الطلاق ومظاهر العري والتحرر الجنسي والانحلال الأخلاقي.
عندما يتعرض الأطفال والشباب لمحتوى إعلامي يحتوي على العنف أو الإساءة للنساء أو التحريض على الكراهية أو العنصرية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة العنف والأعمال الإجرامية والتشاؤم وانخفاض الثقة في الآخرين.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا النوع من الأعمال التلفزية يشجع على التحرر الجنسي والانحلال الأخلاقي، حيث يتم تمثيل العلاقات الجنسية بطريقة خاطئة وغير صحية، مما يؤدي إلى زيادة الضغط النفسي على الناشئة والشباب، والذي قد يؤدي إلى أضرار نفسية وجسدية في شهر الصيام الذي يفترض أن يكون مناسبة لتزكية النفس وزيادة الطاعات والعبادات ومزيد التقرب إلى الله.
هل أن المقاطعة هي الحل؟
يخرج علينا بين الحين والآخر أدعياء الحرية التي لا يريدون أن تكون لها حدود قائلين أن الحرية تفرض علينا قبول كل الأعمال مهما كانت درجة رفضنا لها وأن الفاصل بيننا وبين هذه الأعمال هو زرّ صغير نستطيع به تغيير القناة أو المحطة التي تبث هذه السموم.
في حقيقة الأمر هذا القول مردود على أصحابه ويتجاهل حقيقة أن الحرية تأتي مع المسؤولية فالحرية ليست بدون حدود، بل هناك قوانين وأخلاقيات اجتماعية يجب الالتزام بها واحترامها لذلك يجب على وسائل الإعلام تحمل مسؤوليتها الاجتماعية والتأكد من عدم بث أي محتوى يتعارض مع القيم الأخلاقية والأخلاقيات الاجتماعية المتفق عليها ، ويجب أن نتذكر دائما أن الحرية مرتبطة بالمسؤولية، وأن على وسائل الإعلام الالتزام بالأخلاقيات والقوانين الاجتماعية وتحمل مسؤوليتها الاجتماعية في تشكيل الثقافة والوعي لدى المجتمع.
علاوة على ذلك، فإن هذا الرأي يتجاهل أيضا تأثير وسائل الإعلام على المجتمع وخاصة الشباب والناشئة. فعلى الرغم من أن التحكم في المحتوى الإعلامي يمكن أن يكون صعبا، إلا أن السماح ببث محتوى يحتوي على أفكار خاطئة أو تشجيعا على السلوكيات الخاطئة يمكن أن يؤدي إلى التأثير السلبي الذي سبق وبيناه على المجتمع وخاصة الشباب والناشئة.
إن الحديث عن المقاطعة هي كلمة حق أريد بها باطل باعتبار استحالة قدرة الوليّ على الجلوس جانب الطفل طوال النهار ومراقبة كل تصرفاته وكلّ المحتويات التي يشاهدها سواء على التلفاز أو باقي الوسائط الالكترونية فضلا على أن من مسؤولية الدولة مراقبة ما يعرض على الشاشات التي تستهدف المجتمع في عصر حروب الجيل الخامس التي تستهدف الوعي والثقافة قبل كل شيء.
سبل المقاومة: الهايكا أو القضاء ؟
توجد العديد من الخطوات التي يمكن اتخاذها لمواجهة التحلل الأخلاقي والفساد الذي ينشره الإعلام، ومن بين هذه الخطوات:
1- تعزيز الوعي الإعلامي والثقافي لدى الناس: حيث يجب التركيز على تثقيف الناس حول أخلاقيات الإعلام ودوره في المجتمع، والتعريف بالتدابير التي يجب اتخاذها للحد من التحلل الأخلاقي والفساد الإعلامي.
2- المراقبة الدقيقة لمحتوى الإعلام والإنتاج الإعلامي: حيث يتمثل دور الهيئات الرسمية للإعلام (الهايكا) في مراقبة المحتوى الذي يتم بثه والتأكد من عدم انتهاكه للأخلاقيات الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية وعدم الإكتفاء بتأخير توقيت البث إلى ساعات متأخرة من الليل أو وضع علامة (-16) على الشاشة .
3- التشجيع على الانتاجات الفنية الإيجابية والبنّاءة: يجب تشجيع ودعم الإعلام الإيجابي والبناء الذي يعزز القيم والأخلاقيات الحميدة، ويساهم في نشر الوعي والثقافة الإيجابية في المجتمع.
4- تعزيز الشراكة بين المجتمع والإعلام: يجب تعزيز الشراكة بين المجتمع والإعلام والتفاعل مع المحتوى الإعلامي المختلف، والتأكد من أن الأعمال التلفزية يعكس بشكل دقيق وموضوعي واقع المجتمع.
5- التركيز على البرامج التعليمية والتوعوية: يمكن استخدام وسائل الإعلام للتوعية والتثقيف بشأن المخاطر التي تنتج عن التحلل الأخلاقي والفساد الإعلامي، وتعزيز الوعي بالأخلاقيات الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية التي يجب الالتزام بها.
وبشكل عام، يمكن التأكيد على أن مواجهة التحلل الأخلاقي والفساد الإعلامي يتطلب جهودًا مشتركة ومتكاملة بين المجتمع والهيئات الرسمية والإعلامية، وتحقيق التوازن بين حرية الإعلام وحماية المجتمع من المحتوى السام، وتوفير المزيد من الخيارات الإعلامية البناءة التي تعزز الأخلاقيات والقيم في المجتمع. كما ينبغي على الأفراد تحمل المسؤولية الشخصية عن اختيار ما يشاهدونه ويتفاعلون معه من محتوى إعلامي، وتنمية الوعي الذاتي والتماس المعرفة من مصادر موثوقة ومن خلال البحث والتحليل الذاتي للمعلومات.
ويبقى القضاء هو الملاذ الأخير الذي يحمي المجتمع من المحتوى السام والفاسد الذي ينتشر عبر وسائل الإعلام. ويمكن للقضاة أن يحددوا المعايير القانونية التي تحدد ما هو مقبول وما هو غير مقبول من المحتوى الإعلامي، ثم اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد الجهات المخالفة لتلك المعايير.
ولعل الحلّ بالنسبة لمسلسل “الفلوجة” الذي أثار جدلا كبيرا لما تضمنه من سموم هو اللجوء إلى القضاء الاستعجالي للتصدّي لهذه القنبلة الموقوتة التي تفتك بالمجتمع والناشئة والعائلة وتنسف صورة المعلم والمربي والقدوة.