أخبار عاجلة

الفن والمقدس: نحو انتماء جمالي إلى العالم – أم الزين بنشيخة المسكيني

إعداد: غلاء سمير أنس \ مُترجمة كتب

من الكتب الجديرة والمُهمة اليوم، والتي تُثبت الإنسان الفني عوضاً عن الإنسان العاقل، والسردية الجمالية عوضاً عن سردية اللوغوس، والمحاولة الإنسانية المُستمرة عوضاً عن الوضوح النظري المزعوم، تمكنت فيه الكاتبة من تبيان العلاقة الوطيدة التي ساهم عبرها الفن من حمل المقدس على طول مراحل تبدُّله وتغيُّره، قبل أن يصير هو المُتسبب في تشكيله عبر الإمكان الإنساني.

تتحدث الكاتبة أولاً عن الفنِّ كوسيطٍ للمُقدس، يحمله بل ويُنتجه من الحياة الاجتماعية، في إشارة إلى ما يستلزمه المقدس من اتفاق اجتماعي ضمني على الفكرة والوسيلة، فيُشكل كلُّ فردٍ جزءاً من الممارسة الفنية الطقوسية التي ترفع المقدس في كلِّ مرة وتُثبته في المجال العام، وإن بحثنا في المقدس الديني وجدناه متمثلاً في انفصالٍ زماني ومكاني للفرد عن العالم، لا سيما عندما يسعى المرء إلى تطهير حياته اليومية بتكرار الطقوس في الأزمنة والأمكنة، والتي تبدأ بالأضحية التأسيسية الأولية (العُنف المقدس) لتتبعها مختلف القرابين اللاحقة.

وفي حديثها عن العنف وتمثلاته، تشير الكاتبة إلى الفنِّ من حيث هو عملية رمزية لتقديم القرابين والتطهر من العنف الذي يحاول فرض نفسه باستمرار على المجتمع، يتمثل ذلك في الأدب الذي يحاول سرد رواية مختلفة عن الإنسانية تحمل مشاعر الإنسان التي يتوجه بها إلى المقدس ولكن تهذبها وتوجهها إلى الجماليات، فيكون الفنُّ بحد ذاته ضربٌ من ضروب ممارسة المقدس، ولكنه سيكون المقدس الجمالي بشكل خاص.

وحيثما تنتفي الحياة ومقوماتها بفعل العنف المقدس، أي حيثما تحل الكارثة وثقافة الموت والإقصاء، ويصير المقدس ذائباً في البضاعة والمتعة والذات الحائرة، فإن الفن يتقدم ليخترع أشكالاً جديدة من القداسة، يتشبث بها المرء ليعيد تعريف ذاته عبرها، لا سيما بعد فشل المؤسسات السياسية والدينية في إشاعة مفاهيم التسامح والمحبة، ونجاح أبسط الأعمال الفنية في جَمع البشر للإيمان بالجمال أولاً، أو بعبارة دولوز الواردة في الكتاب: “الفنُّ من أجل تحرير الحياة حيثما يقع اعتقالها”[1].

لذلك، يتحدث الفلاسفة عن نوعٍ من الانتماء  الجمالي إلى العالم، أي الإدراك بألا مناص لنا سوى العيش معاً، وأن الاحتمالات تتعدَّد وألا حتمية تجبرنا على عنفٍ لا ينتهي، عندما يدرك المرء أنه صاحب الاحتمال القادم (العَرَضية عند ريتشارد رورتي في “المتهكم الليبرالي”) فإنه يُدرك الجمال كفعل اجتماعي ضروري، ويصير الفنُّ محاولة للإنسان الأصل الاعتذار عما يحدث وعما كان شاهداً عليه: “الفنُّ ضربٌ من الاعتذار عن قساوة العالم، لكنه اعتذارٌ لا يصدر عن خطأ ارتكبه الفنان، بل عن بؤس مُعمَّم لإنسانية تتقدَّم على إيقاع الكارثة”[2].

واليوم، وإذ نرى السردية العلمية العقلانية هي السائدة، يشدِّد الفلاسفة على ضرورية تبني السردية الجمالية للنظر إلى العلم وقصِّ أقصوصته الجميلة، منعاً للرابطة المدمِّرة التي تجمعه مع العقلانية، وتوجهاً نحو الرابطة المؤسِّسة التي تجمعه مع الفن، فتصير التجربة العلمية تجربة فنية في المقام الأول، تتجه إلى الإنسان أولاً وتسمو به، بدلاً أن تحطَّ من شأنه وتعدَّ مأساته “أضراراً جانبية” بعبارة باومان، فتسهل الكوارث من أجل مصلحة متوهمة ما. وإذ تحاول السردية الإمبريالية تثبيت الخوف والقهر والجزع في نفس الإنسان المعاصر لتتمكن من تطويعه كيفما شاءت، فتفني عمره في العمل لتغذيتها واستهلاك منتجاتها، فإن السردية الفنية تدفع الإنسان إلى إدراك أن الحياة على الكوكب مسؤوليته، وأنه حُر بواجب أخلاقي لا مناص منه، وأن الأمل هو العنصر الإنساني الخفي الذي يجعلنا ندرك قوة الاحتمالات التي يمكننا خلقها.

وفي حديثها عن الإرهاب الديني، تتناول الكاتبة منبعه الأصل، أي قوة الكراهية، والمتمثلة في الإقصاء والمحاولة اليائسة في استعادة شكلٍ مُبهم من أشكال الحياة الماضية، لذلك فهو يستلزم بالضرورة عقولاً هشة ونفوساً واهنة وانصهاراً في فكر الجماعة وتبعية عمياء للآخرين، لذلك يكون الفن مُنقذاً للعالم والإنسان الحديث من بطش الأيديولوجيا، لإنتاج سردية جمالية جديدة يُعد الإنسان جديراً بها، لا سيما أن ذلك يتطلب شجاعة من المرء في تبني المحبة والتسامح وإعادة الخلق، في مقابل الاستسهال الكبير الذي يجده في الكراهية والرفض.

أما الأدب، الفن النثري والشعري، فهو التعبير الإنساني عن الوجود الحُر، لا سيما عندما تكون الكتابة صدى لما لا يكفُّ عن الكلام، وعندما تُشكل زمناً جديداً للإنسان في الهوية السردية، فتحرره من أيدي من يزعمون امتلاك السردية الواضحة لحكم العالم، لذلك تكون السردية الخاصة والمبدعة، والتي تبدع وتبتكر وتمضي حُرة من الرقيب، شكلاً من أشكال المقاومة ضد المؤسسة، إنها انتصارٌ للروح التي ترفض المعاناة وتختار الهوية الأدبية التي تفتح لها احتمالات شتى من الوجود:

“إننا لا نكتب لأننا مرضى، بل نكتب لأننا أصحاء تماماً. وعليه، إنَّ الأدب هو شكلٌ من أشكال العافية أو الصحة من أجل ’اختراع شعبٍ ينقصنا‘. لكن هذا الشعب سوف يأتي من رحم الصيرورة المبدعة، شعب تناديه الكتابة من مكان قصي ومن أعماق مغمورة .. إنه ذاك الشعب الذي لا يُريد أن يحكم العالم، بل يريد أن يحرِّر الحياة. إن الأدب بهذا المعنى هو مرور إلى الحياة عبر اللغة”[3].

ولأن الإنسان يستند بالضرورة إلى وسيطٍ بينه وبين ما يرغب فيه، كالمجتمع الذي يرغب أو يرفض، فإن الأدب يكون الوسيط الذي يتعلق به المرء نيلاً لما يفقده، لذلك تتحول الرواية أو العمل الفني إلى مشروعٍ مُمتد يُشرك القارئ والكاتب معاً في رحلة لاستكناه معاني حُرة للوجود، تنبثق من التجربة الفنية إياها، فيتمكن الإنسان من إعادة تأويل ذاته ومشاريعه وحتى منطلقات فكره.

وفي فقرات شديدة التأثير، تحدثت الكاتبة عن خطاب الفن ضد خطاب الاستعارة، فالأخيرة تكون جزءاً من سردية تزعم تبنيها وضوحاً في شرح الذات ومتطلباتها وحاجاتها وأفعالها، بينما لا يستطيع المرء، إلا بوساطة الفن، أن يدرك بأن ثمة نقص شديد في سردية اللوغوس السائدة، يتجاوز جوانب نفسية وذاتية جديرة فيه ولا يعبر عنها ولا يشير إليها، على خلاف خطاب الفن الذي لا يشير إلى هذا الغموض فحسب، بل إنه يُثبته في النفس ويعيد استكناهه ويدفعه للتعبير عن ذاته عبر محاولات فنية تزداد عمقاً وجدية، إن الفنَّ يُدرك الغموض الكبير الذي تنطوي عليه الذات ولا يرى بأساً فيه ولا يحاول تعريفه، بل يريد تمييزه والاحتفاء به من حيث كونه تجربة ذاتية جمالية عصية على الفهم، بل أجمل ما فيها أنها عصية على الفهم، لأن الفهم ليس الأداة الوحيدة التي يمكن أن يستخدمها الإنسان من أجل التعرف إلى ذاته، بل يمكنه أن “يشعر” و”يُحس” و”يُشارك الآخرين الشعور” في متحفٍ أو قراءة أو منظورٍ جمالي، يجب ألَّا يرضى الإنسان أن تختزله الاستعارة في قالبٍ ومقولات ونظريات، بل أن يتشبث بالجزء المُبهم من نفسه وكأنه هدية الله إليه وطريقته في دفعه إلى الإيمان بالجمال الكامن في الدين والمقدس والطقوس قبل الإيمان بنظرية تحكم على المرء ما يفعل وما لا يفعل:

“إنَّ الاستعارة توهمنا بأننا في حضرة الكينونة، وهي في الحقيقة لا تقول إلا غياب الكينونة، أي هي لا تقول إلا مروراً لكينونة في سماء الكائن دون أن يراها”[4].

وفي تتمة لهذا الحديث الشيِّق، نقرأ في محاولات التأويليين إثبات حاجة النصوص إلى قرَّائها من أجل إعادة تأويلها وإحيائها في أشكال فنية – أدبية مختلفة، يصوغها الخيال الإنساني الحُر كيفما يشاء، فتعبِّر عن الكينونة الإنسانية من حيث علاقتها بالعالم وأشيائه وعلاقتها بالآخرين وكينوناتهم، من هنا فإن أقصى المحاولات اللغوية، أي الشِّعر، يُمكن أن يُنتج لنا حقائق لا تقل أهمية عن الحقائق المثبتة بالتجربة العلمية، بل تكاد تفوقها أهمية لأنها متجهة إلى صاحب الفكر والإبداع في العالم، أي الإنسان، إن الشِّعر هو الشاهد على الغموض الذي ننطوي عليه والإبهام الذي يسِم نفوسنا ويعلِّمنا إدراك غرابة أن نكون وأن نفكر، لذلك لا يكون النص إلا تجربة إنسانية تأويلية، المُهم فيها هو الفهم والتأويل والخلق، أي العمليات التي تدفع الإنسان إلى أقصى قدراته الإبداعية واللغوية والتعبيرية.

وبعد هذا الحديث المطوَّل عن الفنون وخطاب الفن وطريقته في تمثيل المُقدس، تتناول الكاتبة بضعة أعمال أدبية للتحليل، في محاولة لتبيان منظورها الفني – الإنساني عندما نطبقه على القراءة الأدبية، فتتحدث عن “بلزاك والخياطة الصغيرة” لتتناول الأدب في مواجهة الأيديولوجيا السائدة، و”عذراء سنجار” للحديث عن حكاية الإنسان المقهور مع قاتلي الحياة، وقصائد لوركا الشعرية التي شكلت هوية قومية ضد الفاشية.

أما اليوم، تُشير الكاتبة في المقدس المائع الذي بات يُمكن خلقه كلَّ يوم، وإضفاء القداسة عليه بالسهولة ذاتها التي تُنزع عنه، أما الفن فبات سلعة يومية يُمكن أن تُنتج من أيِّ حدث أو فعل يراه الإنسان المُتعي مُمكناً، وفي عصر الاستهلاك صار العمل الفني يُراد به إرضاء الجماهير وتغذية الأنا الحائرة عندهم من دون محاولة لخلق تساؤلات تخصُّ وجودها وإمكاناتهم، بل صار الكوجيتو الجديد هو كوجيتو الاستهلاك “أنا أتبضع إذن أنا موجود”. إنه كوجيتو الإنسان الذي لا يشبع ولا يدري ما يعني أن يضع أولوية الشعور والفهم على تحقيق المتعة السريعة التي تتركه خائباً جائعاً، وهو كوجيتو الإنسان اللامسؤول والذي لا يعرف شيئاً عن طبيعة غذائه وسياسته ونظمه القيمية وتعامله مع البيئة وأسلوب حياته المرتبط بآخر فردٍ يُمكن أن يتوقعه.

وفي الحديث عن قوة العمل الفني في اللوحات تتحدث الكاتبة عن تجارب العديد من الرسامين الفلسطينيين في خلق ذاكرة وهوية لهم تواجه المُحتل، كأعمال منى حاطوم وسليمان منصور ونبيل عناني وغيرهم، وتحتفي بالنزعة الجمالية المتسامية التي يُثبتونها بديلاً عن الخطاب “العقلاني” الذي لم يُفضِ إلَّا إلى المزيد من الدمار و”الأضرار الجانبية”. لذلك تناقش الكاتبة حاجتنا إلى “إيكوصوفيا” عقلية واجتماعية وبيئية تُعيد تعريفنا بمكانتنا في العالم ودورنا في الوجود وطريقتنا المثلى في عدم تشيئة نفوسنا أو حتى افتراض فهمها لتطويعها: “الإيكوصوفيا هي ’ضرب من الموسيقا الذاتية الجديدة التي ينبغي علينا اختراعها”[5]. بمعنى أنها المحاولة الإنسانية التي ترى العالم محاولات للتحرر والخلق والإمكان، وتريد تعويض المقدس السابق بآخر مستند إلى التجربة الجمالية والدقيقة التي نعالج فيها جذور مشكلاتنا العديدة اليوم، ونخلق بدائل تحترم الوجود الإنساني بتفرده وخدمته للآخر والعالم في آن.

وأخيراً، وفي رسالة فنية، تتحدث الكاتبة عن نوع السعادة التي يمنحنا إياها الفن، أو عن التجربة الجمالية الدائمة التي ترافقنا ونحن في مسارٍ فني لفهم الوجود وأنفسنا، ففي ذلك لذة جمالية ترتبط بالخيال الفني وقدرتنا الخلاقة على رسم الاحتمال والإيمان بالإمكان الإنساني حتى في عالمٍ موحش إلى هذه الدرجة، لا سيما بعد أن نُدرك بأن ذواتنا لم تكن يوماً مُعطاة وثابتة وذات هوية لا تتغير، بل إن الذات بناء مُستمر وإمكان مفتوح على التبدل والذوبان في الآخر والطبيعة والمجتمع، في شكلٍ جديد من التعاضد الإنساني الذي لا يحتاج إلى “أن نشعر ببعضنا” بعبارة رورتي، بل يحتاج إلى إدراك جمالي فني في أن المعاناة تطالنا جميعاً، وألا مناص لنا إلا الاجتماع سوية وتبني المنظور الجمالي الذي يسمو بنا لا يحطُّ من شأننا.

إنه من الكتب الجديرة بالقراءة بالفعل، أحببتُه.

 

 

[1] ص84.

[2]  ص37.

[3]  ص128.

[4] ص 165

[5]  ص 267.

شاهد أيضاً

عندما ينكر الفلاسفة الغربيون حق الفلسطينيين في السياسة…ترجمة د. زهير الخويلدي

الترجمة:   إن رفض المقاومة للاستعمار باعتبارها إرهاباً يحرم الفلسطينيين من حقهم الأساسي في التنظيم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.