القبــح أداة للتشنيع، فحين نحب شخصًا ونفترق عنه بطريقة سيئة أو بسبب أمر سيء أو لأنه هو اقترف خطأ شنيع لا يمكن أن نغفره ستصبح تصوراتنا عن ذكرياتنا أنها قبيحة وأن مكوثنا بجانب هذا الآخر ليس إلا خطيئة كان يجب تكفيرها بالهروب عنه، بيد أن الآخر لن يرضى في أي حال أن يوصف بأنه قبيح أو العلاقة التي أقامها كانت قبيحة، وسيبرهن ما استطاع على أن ما مضى كان جميل ولو بطريقةٍ ما، أو أن وجودنا في العلاقة هو ما جعلها قبيحة. وأثناء تقاذف القبح أتذكر مثل أجنبي يقول: “النصر له ألف والد، أما الهزيمة فطفل يتيم”([1]) وأقول أن الجمال هو الذي له ألف والد والقبح طفل يتيم. لذلك بحثت هنا في كون القبح له ركيزة أساسية في العمق التاريخي، والقبح من حيث هو قبح مرغوب عند البعض([2])، كما أن الجمال مرغوب عند البعض الآخر، ومن كره الجمال –قبل الولوج إلى قيمة القبح- قول البجيرمي([3]) عن كراهة الزواج من كل امرأة جمالها فتّان وطاغي حين قال “لكن تكره بارعة الجمال؛ لأنها إما أن تزهو، -أي: تتكبر لجمالها، أو تمد الأعين إليها” وبين هذه التيارات سأحاول المضي متتبعًا القيمة الملغية.
بادئ ذي بدء: القول الأول والمباشر في هذه المسألة والمضاد لوجودها من الأساس “لا قبح”([4]) بمعنى أن الجمال مفهوم ضبابي والقبح كذلك فإن النسبية تظهر الجمال في مواضع عند أناس وتختفي عند آخرين ويسيرون على هذا الدرب في الاستشكال على تحديد الأطر له.
ولكن طريقة معرفة القبيح من الجميل يخضع غالبًا إلى عدة بنى أولية في أحكامنا الذاتية حول ما هو حولنا، وأنا أقصد هنا الأحكام المعيارية عند “كانط” في مسألة استحسان من عدم استحسان الشيء المقابل.
ولو نظرنا بعين الموضوعية إلى ما هو كائن أمامنا لوجدنا أننا لا نتحدث عن استحسان فردي حول هل الخبز مع الزبدة أجمل أو أنه مع قليل من الملح سيغدو أكثر لذة بشكلٍ مناسب، لا نبحث في هذه الزاوية، وفرق كانط بين المعياري وبين “ما هو جيد بالنسبة لي.”([5])
فحكم الإنسان على الأشياء الجيدة له لا تقتضي بحال أن يعجب جميع الناس بما يستحسن. ولكن لو قلنا أن ثمة شيء يراه غالبية الناس قبيحًا كالشيطان مثلاً، أو الكذب، فمن الصعوبة هنا أن نجد رأي يمكننا من التسويغ للنسبية، فالمعجب بالشيطان مثلاً، هو حتمًا معجب بالقبح.
والاستقباح الفردي لشيءٍ ما، من استحسانه في المقابل، يحكم عليها الذائقة المذكورة، فإن كانط على سبيل المثال يفترض أن ثمة إنسان قال عن عملٍ ما أنه قبيح لأنه مكتئب، ولم يقدره حق قدره، هل نقول عن هذه الأعمال الممتازة جدًا أن ثمة قبح بها، لأن إنسان ما كان يعاني من مشكلة مشاعرية لم يستطع أن يستشعر بسببها الجمال وطغت السوداوية على ناظريه.
ويقول أن سبب هذه النسبية الجمالية، أن الناس يربطون ما بينها وما بين التسامح، وإنما هذا ضرب من الهذيان الأعمى، لأن التسامح يجب أن يكون مع شيء خاطئ أو سيء، وتبعًا لذلك عندما نفقد المقياس الأساسي الذي يقيس لنا بأدواته المعايير التي يجب أن نتقيد بها نفقد أيضًا دلالات التعبير عنها.
إذن المقابل الذي يعتد بوجوده الأول يجب أن يكون حاضرًا في كل حال. كمثال: حين يقول شخص ما أنني متسامح مع كل سارق أدى به العوز إلى السرقة، فهو في هذه الزاوية يتصالح مع فعلٍ خاطئ، والمقابل لها من زاوية أخرى أن يقول صاحب النظرية النسبية: أنا متسامح مع كل شيء قبيح لأنه لا يملك أن يخلق نفسه، أو شيء من هذا القبيل.
بينما لو قال صاحب النسبية -وهو ما يحدث- أنه لا يوجد فعل قبيح، فكأن المتسامح يقول أن السرقة في حال الحاجة ليست سرقة، فهو ينفي عنها كل ما يتعلق بها من جهة الدلالة واللفظ، ويجعلها شيء آخر يجب أن نبتكر له لفظ جديد ويفقد إطاره السابق، وهذا حديث ساقط لمخالفته المنطق السليم، الذي يقوم على تمييز الأشياء وجعلها أداة للعمل والانطلاق.
ولا يعني هذا أننا نهشم الأرواح التي حُكم عليها خارجيًا بمظهر معين لا يلائم المقاييس الجمالية، ولكن ما يراد به ضبط العملية من الضياع والعبثية الذي ستؤدي إليه حين نترك هذه الأحكام عائمة دون مقابل، فيصبح كل شيء يدل على كل شيء، وحينها لا شيء يدل على شيء.
وكلمة القبح بحد ذاتها حين تصبح لا تعبر عن صورة محسوسة يمكن أن نشير إليها على سبيل التأطير والتحديد، يجب أن تزاح من فورها من القواميس، لأن دلالتها كدلالة أي تشكيلة حروف ولتكن (محهرع) أو أي كلمة أخرى ليس لها دلالة تقابلها في الحس، وكما يقول هيوم عن ضياع الدلالة الحسية للفظ “مجرد لفظة تقال دون أن يكون لها (معنى) أي دون أن يكون لها مقابل من الحقيقة تشير إليه”([6])
وحين اثبتنا وجود القبح فأينه من الدراسة؟ كتب هيغل عن الاستطيقا وفصّل بها، ويذكر العتوم([7]) عن قدم هذا العلم ووجوده وذكر اختلاف العلماء فيه، وأن أفلاطون من وضع مقاييسه. وللجمال قيمة مدللة عند الفلاسفة والنقاد قد تحدثوا بها كثيرًا وأشبعوا هذه النقطة من الفكر كلامًا، ولكن ماذا عن القبح؟ نعلم جميعًا أن الاستطيقا علم يبحث عن مواطن الجمال. ولكن من يبحث عن القبح، هذه القيمة الضائعة والملغية.
فمثلاً لو قلنا أن العمق هو الجمال الروحي فلا بد من قيمة أخرى تبتعد عن هذا العمق وتقف مناوأة له فتوجد له مسمى يستطيع أن يرفل باستعلائه في ظل وجودها. وهذه القيمة هي التفاهة. فالتفاهة على حد ما أفهم وسيلة لتمضية اليومي من حيواتنا بلا أن نفكر. فمن الصعوبة بمكان أن نبقى متقدين ليلاً ونهارا. وجميعنا نعلم أن التفاهة حاجة ملحة في حيواتنا، ولكننا نحاربها في كل محفل ونذهب كل مذهب في التجييش ضدها.
دعوني أتحدث لكم عما قاله رامون عن دارديلو الذي كان يلقي نكات عميقه منتظرًا أن تفتتن به فتاة من حوله. ولكنها ذهبت من نصيب رجل آخر كان يمارس التفاهة! فيعلق رامون قائلاً عن دارديلو “لم يفهم شيئًا. ولم يزل حتى اليوم لا يفهم شيئًا عن قيمة التفاهة.” ويصفه بالحمق. ([8])
هنا كان كونديرا -كاتب الرواية- يريد أن يعلي من قيمة التفاهة، ولكنه لم يتنصل من لفظها الدال على ماهيتها ويسميها “ثقافة أن تكون بسيطًا” أو “فن الطرفة” لكنه قالها مجرده. فلا نريد بالمقابل أن نقول عن القبح أنه جمال، ولكن من زاوية أخرى. القبح هو القبح، وقيمته الخالدة في قبحه.
وبحثت عن الفلسفات التي تتناوله كانطلاقة لما أريد قوله ووجدت أطروحة لأمبرتو إيكو عن (جمالية القبح)([9]) وهذا ما لم أستسيغه. فالقبح بحد ذاته قائم كمنظمة ليس بحاجة إلى الجمال ليعززه، كما أنه من غير المستساغ أن نردد عبارة (قبح الجمال) ونجمع بين المتناقضات، فلكلٍ منهما باردايم محدد لا يصح الخروج عنه، وكأننا نحاول أن نلطف قهوة مرة بإضافة المُحليات. حينها لن تكون بها حلاوة. ولن نشعر بلذة مرارتها. فلذة القبح بكون مرارته ظاهرة كل الظهور.
من رواية بين القصرين لنجيب محفوظ يضع خديجة -توصف بأنها قبيحة- أمام أختها عائشة التي ترفل بالجمال. بطبيعة الحال لسنا في صدد تحليل الرواية، ولكن في النظرة الشاملة لم أر من يحب عائشة. كنت أقرأ المراجعات وأنا مدهوش من تلك التعليقات الكثيرة التي كانت تصف عائشة بأنها “تصطاد العرسان من ورا الشبابيك” وإنما خديجة يتم تشبيهها بأمينة التي كانت بدورها منبع لكل فضيلة ومثال لكل التزام.
فما أراده نجيب محفوظ من تصنيف لم يحدث. وإنما الناس شعرت من هو المظلوم من عدمه. هل هو القبيح، أم الجميل. وهل مجرد القبح في زمننا هذا يجعلنا نحكم على هذا المرء بأنه سيء؟
وهذا ليس حكرًا على الرواية، ففي السينما نرى القبيح يقوم بدور الشرير، وأتذكر فيلم مدينة الخطيئة والرجل (الشرير) ذو الوجه الأصفر القبيح والضابط (النزيه) ذو الوجه الجميل. بينما الضابط يقبل الفتاة ذات 11 عامًا ويقول لها كلمات الغزل بكرةً وأصيلا كان يهاجم ذو الوجه الأصفر لأنه يريدها أيضًا. كنا نتابع أنا وصديقي هذا الفيلم فقال صديقي “حلال عليه وحرام على الآخر؟!” وهذا هو مربط الفرس. يريد منا الكاتب أن نصفق للجميل لأنه جميل، لا لأن قضيته عادلة. فبالإطار العام كلهم على خطأ، ذو الوجه الأصفر والضابط النزيه. ([10])
وأيضًا فيلم باتمان 2007 عندما قام بآداء دور الجوكر (هيث ليدجر) فأصبحت له جماهيرية عريضة ومعجبون بالملايين. رغم أن الجوكر له شكل (قبيح.) ويتضح أن ثمة مبررات تجعله يفعل هذا الفعل. فالجوكر من طبقة بروليتارية مسحوقة مما أجبره على ارتكاب الجريمة، هو سلف لأب كان يتعاطى، فذهب لهذا الطريق اضطرارًا، ومن ثم استهواها لذاتها، شعر أنه في جرائمه يقتص من المجتمع الذي لم يعبئ به عندما كان يصرخ. بينما يأتيه من أحد أفخم أبراج مدينة غوثام رجل (جميل) يدعى باتمان ليدعّي أنه البطل الذي سينقذ البشرية، ولكن الناس أعجبوا بالجوكر ونتيجة لجماهيرية الجوكر العريضة تم إفراد له فيلم لوحده ([11])
فهذه المقاييس الشكلية لتصنيف الشر من الخير لم تأتِ من فراغ أو لاعتباطية مخرج، وإنما لها موروث فلسفي قد ذكره العتوم -قد سبق الإشارة إليه- حول أن النفعية هي الجمال، أو ارتباط الجمال بالمنفعة، وارتباط القبح في المعاني السلبية على المكان الموازي. ونحن لا نقصد هنا القبح المعنوي أو الحسي وإنما نعني القبح من حيث هو قبح، فقد يكون الكذب قبيحًا في حالات ومناسبًا في حالات. بيد أن الفاه المتوّرم لا يحتمل إلا أن يكون قبيحًا على كل الأصعدة.
ثم إن الأديان أتت مبينة ورافضه لاقتران المقاييس الأخلاقية في مسألة الجمال والقبح الواردة أعلاه. ولدينا هنا الرسول العربي حين قال “رُبَّ أَشْعَثَ أغبرَ مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أَقسم على الله لَأَبَرَّهُ”([12])
فذلك الرجل الذي تتطاير خصل شعره ويبدو على شكله صروف الدهر، ومظهره من القبح بمكان لديه من الورع والتقوى والقيمة الأخلاقية العالية مما تجعله يقسم على الرب ويفعل له الإله ما يريد.
فيتضح مما نرى أن الدين قد حاول انتزاعه. ولكنه يا للأسف لم يستطع لتأصل هذا المعنى بالنفوس وغلبة المقاييس.
لا أريد مهاجمة الجمال، ولكن سياق الحديث يجبرني على هذا، فمن المعروف للجميع أن الجميل قد لا يكون خيّر في كل أحواله، وهذا من المدرك بالبديهية ولنا في (تيد بندي)([13])
مثال. ولكن من ناحية أخرى قد يصبح الجمال في حالات كثيرة ليس إلا أداة لإخفاء شيء شنيع. من رواية 1984 يذكر ونستون سميث بناء عظيم يتوسط المدينة لينقل معنى لمن يراه أن المدينة مترفة. ولكن من حول هذا المبنى ثمة أناس جائعون ونساء يصارعن لتتمة هذه الحياة وحبٌ مرفوض وممارسته جريمة ومبانٍ مقرفة جدًا!
والأمثلة تطول في استخدام الجمال لإخفاء شناعة ما وراءه، ويتكرر في الأفلام مشهد إطلاق رصاصة على جدار. ومن ثم يتم تركيب لوحة جميلة لإخفاء شناعة ما حدث قبل أن يتم تركيبها. فبهذه الحالة تم استخدام الجمال كستار لإخفاء حدث مريع!
أو القوة الناعمة (الجمال الذي يتم تصديره) يراد له أن يجعلنا نرى الدولة التي تستخدمه لطيفة على الصعيد الاجتماعي والسياسي حتى ولو لم تكن كذلك. فعندما نضع تركيا أنموذجًا فلا يعرف عنها المجتمع المحلي بغالبه سوى المسلسلات المليئة بالعشق والغرام، ولكنها على مستوى آخر لديها آليات عسكرية وتدخلات سياسية لا يتطرق إليها سوى من هو مهتم في السياسة، وتغيب عن العامة.
إذن القوة الناعمة تجعل الصورة النمطية لشعبٍ ما -وليكن الياباني- مختزلة، ولا تصف واقع السلطة أو المكونات السياسية والاجتماعية فيها وهذا شيء آخر من مثالب الجمال في نقل صورة محتكرة لا تمثل الواقع.
ولو أتينا للمقاييس الفلسفية التي ينطوي عليها الحق بوصفه جمال وافر ومعنى من معاني الوجود الإنساني وهو ما يشغل الإنسان عبر مر العصور، وازداد حضور هذا المبحث عند الإنسان المعاصر. سنرى نيتشه يقول “نريد الحقيقة: لم ليس بالأحرى اللاحقيقة، اللايقين، وحتى الجهل”([14]) فهو هنا يصف آلية البحث عن الأشياء بالأضداد. وحتى يخرج نيتشه من مأزق إضفاء القيمة الأخرى على قيمة سلبية قال (الجهل) بعد أن كانت الكلمة الأولى (اللاحقيقة)
فيصبح الجهل بمعناه الأساسي لازم من لوازم الحقيقة الخالصة، والأمر لا ينطوي على الإقرار بالحقيقة وحدها. بل يتعدى هذا الأمر إلى أن معرفة الحقيقة يُلزم بالضرورة معرفة مكامن الجهل. ومكامن ما ورد أعلاه من اللايقين واللاحقيقة.
فعلى مستوى اليومي لو أردنا معرفة الرديء والجيد من الخبز لن يأتي إلا بمعرفتنا للجيد وللقبيح كلاهما، إذن وجود القبيح ليس زائدًا أو غير ضروريًا، بل مطلب أساسي من مطالب معرفة الخبز الجيد. وليس بصفة -كما قال أمبرتو إيكو- القبح جزء من الجمال. بل بوصف القبح يقف موقف على ضفة أخرى من الجمال ويشير إليها.
وكذاك السيارة الجيدة، التطبيق الجيد، الصديق الجيد، الكتاب الجيد، كلها لن تميزها أو تعرفها إلا بمعرفة أضدادها الموغلة في القبح، وبغير التمرس في القبح لن تدرك جماليات هذه الأشياء.
وفي وصف من يحبون القبح بصفته قبح ولا يطيقون الانفكاك عنه، لا نستطيع غض النظر عن عبدة الشيطان، فكل التصورات التي تأتي بالبديهة وفي التطلب عن الشيطان تدل على أنه قبيح ذو قرون طويلة وأنياب وإلى كل هذا من الأوصاف الغير مستساغه في مقياس الجمال، ولكنهم ورغم ما ذكر يحبونه حد الجنون، بل ويعتبرونه المثال الأول والقدوة التي يجب أن تحتذى. ويتفانون لإثبات إخلاصهم كما يذكر آشلي بالمر([15])، لأن الدخول إلى كنيسة الشيطان من الصرامة بمكان ولا يتاح للمستخدم أن ينضم إلى هذه المجموعة التي تمجد القبح إلا بدعوة رسمية.
ومن ثم فالقبح بات حاضرًا ليس بكونه شيء هامشي على حاشية المتن، وإنما هو أصل في الأشياء من حولنا كما يقول (آلان دو بوتون)([16]) عن المباني والهندسة، نحن نلتقي كل يوم في ألف شيء قبيح من حولنا.
تلك العمارة التي تبدو مستفزة لنا، والبرج الذي بُني كيفما اتفق ليتميز عن غيره بأنه (مختلف) وللأسف لم يظفر بهذا، ونراه في الصباح بعد أن نعد قهوتنا ونمضي في طريق العمل يلوح لنا من نوافذ السيارة أو الباص، نراه ونحن خارجين للنزهة مع العائلة لقضاء بعض الوقت ريثما نجلس قريبًا من مبنى قبيح بطريقةٍ ما.
ويقول آلان دو بوتون “لو قمنا بأخذ أحد أسلافنا من ٢٥٠ عام في جولة حول مدننا وضواحينا ستدهشه تقنيتنا، وتثير ثروتنا إعجابَه، ويُذهله تقدّمنا الطبي؛ لكنه لن يصدّق، بل وسيصدم من الأهوال التي قمنا ببنائها: مجتمعات تقدّمت على أسلافها وبشكلٍ كبير في معظم النواحي تمكنت من بناء بيئات عمرانية أكثرَ كآبةً وفوضويةً وبشاعةً من أي شيء عرفته البشرية منذ بَدْءِ الخَليقة.”
ويعرض صور عن المباني قديمًا، وكيف كان يهتم بها أهلها، من النقش على الجدران، إلى تزيين الأسقف بألوان، فالفكرة تقول أنه من الجمال أن يكون ثمة تناغم بين المباني في المنطقة الواحدة، بحيث تعرف موقعك من الخريطة بمجرد أن ترى العمارة من حولك وتستشعر الطراز التي بنيت عليه، أما حاليًا فلا يمكنك تمييز مكانك من شكل ناطحة السحاب الذي أمامك، فمن الممكن أن تكون في هونج كونج، أو واشنطن، أو أي مكان آخر، ولكن لو ذهبت إلى القدس فستعرف أنك في القدس من سيمائيات المباني الدالة عليها، والمتمثلة في البناء الحجري “عندما نصف مبنى بأنه (يمكن أن يكون في أي مكان في العالم) فنحن لا نثني على طموحاته العالمية، بل نعبر عن توقنا إلى مبنى يذكرنا أين نحن على الأرض”
ولو قال قائل أن طريقه لا يمر في وسط المدينة، بل هو يعمل في منطقة أخرى خارج المدينة، أو أنه لن يتنزه مع عائلته في وسط المدينة، بل سيذهب بهم إلى خارجها. إذًا هو حتمًا سيسير على الطرق القبيحة “طرق سريعة تتسكع بين الأبراج والأراضي الخالية والمستودعات المتناثرة” ولا يبصر الجمال فيما حوله. عكس ما كانت عليه سابقًا بسبب ضيق المكان، وبسبب أن طرق النقل لم تكن تحتاج إلى كل تلك الطرق الواسعة لكيلا تصطدم بعضها ببعض، ولغيرها من المسببات، جعلت من الطرق القديمة بها جمال كبير، حين تنثني في منعطفٍ أو زقاق من حي شعبي، ستجد أن المكان يزخر في الأشياء من حولك، هنا كتابة، وهناك جدار، ودكان في الزاوية، ولكن في الطرق الحديثة، لا تبصر إلا القبح.
إذن القبح هنا تحول من كونه قيمة نحاول إظهارها فيما تقدم، إلى أنها أصبحت قيمة حاضرة وتفرض نفسها دون أن تمنحنا الحق في أن نستحسن أو نرفض. ولو أردنا أن نغمض عند رؤية كل قبيح فسنحيا طوال العمر عميان، لأن العالم لن يعترف بهذا الذي لا نستحسنه. ولن يأتي المعماري إلى أبواب بيوتنا ليسألنا “هل ترى الشارع قبيح، ما رأيك بتصميم ذلك المبنى”
لا يعبأ كائنًا من كان بهذا، ما دام يبني وفق الأسس الموضوعة له في جدول البناء في دولته، ولم يتجاوز على الأرض التي بجانبه، والتي سيبنى عليها مبنى قبيح آخر -إن لم يكن قد بني بالفعل- ولم يخل بضوابط الأمن والسلامة، إذن معايير الجمال ليس لها أدنى أهمية.
وفي الختام، كل شيء لا بد له من تضاد يظهره على السطح، فعندما نقول السماء، فلا تحتمل العبارة حينها أن تبقى معلقة هكذا دون إيراد الأرض، وعندما نقول يمين فلا يحتمل المعنى هنا إلا أنه ثمة يسار، وعندما نقول في الخارج، فحتمية وجود الداخل تتركز في الجملة ذاتها. وصولاً إلى الجمال، فلا معنى له ولا مكان من خريطة المفاهيم بلا تؤامه المباين له: وهو القبح. ولا يضير أن نتسربل في القبح ولا ننفيه عن بعض أشياءنا، لأنه بوابة لجمالٍ آخر في نهاية المطاف ووجوده يعزز حضور الجمال إدراكيًا. وكما أن الجمال لفظ جزيء وليس كلي كما يقول هيوم([17])، فليس من الواجب أن يكون القبح لفظًا كليًا أيضًا، فلعل هذه المدينة المكتظة بالقبح، بها منفذ للجمال، هنا أو هناك، مع بقاء القبيح قبيح، والجميل جميل.
المصادر
([1]) مثل مشهور، ينسب لجون كيندي.
([2]) سيجري تبيينه في الأسطر القادمة.
([3]) حاشية البيجرمي على الخطيب / سليمان البجيرمي
([4]) ويزدهر الآن في مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن له أصول عند الفارابي: ينظر الجمال عند الفارابي / حنان مجيد علي
([5]) كل الاقتباسات عن كانط: من الحكم الجمالي، موسوعة ستنافورد للفلسفة / ترجمة ناصر الحلواني
([6]) رسالة في الطبيعة البشرية / ديفيد هيوم. واللفظ في الاقتباس بقلم زكي نجيب محمود وشرحه.
([7]) مدخل للتذوق والنقد الفني / منذر سامح العتوم.
([8]) حفلة التفاهة / ميلان كونديرا
([9]) المقالة بعنوان (Umberto Eco on the Elusive Concept of Ugliness,Considering the Relativity of Beauty in Human History) وترجمها للعربية أحمد لطفي أمان تحت عنوان (أمبرتو إيكو حول المفهوم المراوغ للقبح: تأمل في نسبية الجمال في التاريخ الإنساني)
([10]) العنوان الأصلي للفيلم (Sin City) والمشهد المذكور في الفصل الثاني منه.
([11]) الفيلم بعنوان (joker 2019) بطولة خواكين فينيكس، وبلغت إيراداته 13 ضعف تكلفته، بما إجماله 737 مليون، وهذا دليل شعبية كبيرة.
([12]) “حدثني سويد بن سعيد حدثني حفص بن ميسرة عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله قال: {رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره}” صحيح مسلم / رقم الحديث 2622
([13]) سفاح أمريكي شهير، بلغت جرائمه 40 جريمة قتل، وكان شديد الوسامة. ينظر مقالة (السفاح الوسيم) / البيان.
([14]) ما وراء الخير والشر / فريدريش نيتشه
([15]) مقالة بعنوان (A SATANIST ON WHY EVERYTHING YOU THINK YOU KNOW ABOUT HIS RELIGION IS WRONG) في الصحيفة البريطانية (The Independent)
([16]) المقالة بعنوان (لماذا يبدو العالم الحديث بهذا القبح) وترجمها للعربية: محمد العمري
([17]) رسالة في الطبيعة البشرية / ديفيد هيوم.
*حكمة