قد لا يخفى على أهل الدّراية في عالم السياسة، أنّ النظام الإسلامي في إيران دخل في حالة عِداء صريح مع رأس المنظومة الغربية أمريكا، وجميع ما ارتبط بسياستها الإستكبارية في العالم، مباشرة بعد انتصار ثورته الإسلامية، عندما أعلن مؤسّسه الإمام الراحل رضوان الله عليه مبادئه الإسلامية، في البراءة من أعداء الإسلام، ومحذّرا حكام الشعوب الإسلامية من مغبّة الدّخول في سياساتهم، والإنجرار وراء مخططاتهم.
ذلك أن السّبب الرئيسي في تخلّف شعوبنا، هو عامل أساسي واحد، تسبّب فيه هذا الغرب الإستعماري، الذي استعمر بلداننا، و نهب خيراتنا، وقتل أهلنا، وانتهك أعراضنا من قبلُ، ثم لم ينسحب من دولنا إلّا بعد أن ثبّت فيها عملاء له، تركّز دورهم في إبقاء الإمتيازات الإقتصادية، والتبعيّة السياسية له، ومن هذا المحصّل دعا الإمام الخميني دول وشعوب عالمنا العربي والإسلامي، إلى التخلّص من تبعيّة هذه الدّول الإستكبارية، والبدء ببناء ذواتها بالإعتماد على الله والامكانات المتاحة لها، وتغيير بوصلة التبعيّة، من وجهتها السّلبيّة التي وجّهتها إليها القوى الاستعمارية المعادية، لمواصلة حرف شعوبنا عن قِيَمها وأحكامها وآدابها الإسلامية، تقليدا لبهرج وزخرف أدعياء التقدّم والإنسانية.
وكان لا بدّ من هدف يجتمع حوله ومن أجله، هذا العدد الكبير من الدّول والشعوب الإسلامية، جاء نداء الإمام الخميني رضوان الله عليه، الذي أطلقه بمناسبة حلول أول شهر رمضان، ما بعد الثورة الاسلامية 1979، داعيا فيه المسلمين إلى إعلان آخر جمعة من شهر رمضان، يوم عالميا للقدس، جاء في مضمونه للتذكير: (أدعو جميع مسلمي العالم إلى اعتبار آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، التي هي من أيام القدر، ويمكن أن تكون حاسمة في تعيين مصير الشعب الفلسطيني، يوماً للقدس، وأن يُعلنوا من خلال مراسم الإتحاد العالمي للمسلمين، دفاعهم عن الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني المسلم.)(1)
ولم يكن ذلك النداء الخالد، سوى مقدّمة لمشروع إسلامي كبير، هدفه جمع كلمة المسلمين حول القضية الفلسطينية وإعطائها صبغة محورية بين قضايا الأمّة العالقة، من شأنها أن تدفع الأحرار إلى الإلتقاء حولها، وتوحيد الصّف الإسلامي، في مواجهة هؤلاء الأعداء الألدّاء المتربصين بالأمّة، الذين وصفهم الله في محكم كتابه، بأنه أشدّ عداوة للذين آمنوا ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) (2)
لم يقف نداء الإمام الخميني رضوان الله عليه عند حاجز الأمّة الإسلامية، بل تجاوزها إلى بقية الشعوب المستضعفة في العالم، لتمتدّ القضية في دعواها الحقّة، لتصبح قضية كل مستضعف، منتهك الحقوق في العالم ويحييه أحراره، إيمانا منهم بعدالة القضية الفلسطينية، ومظلومية الشعب الفلسطيني التي يجب أن تُرْفع عنه، وقد عبّر رضوان الله عليه عن ذلك موضّحا فكرته ذات النظر البعيد والصّائب:) إن يوم القدس يوم عالمي، لا يختص بالقدس، بل هو يوم مواجهة المستضعفين للمستكبرين. إنه يوم مواجهة الشعوب، التي رزحت طويلاً تحت نير الظلم الأمريكي وغير الأمريكي، للقوى العظمى .يوم يجب أن يستعد فيه المستضعفون لمواجهة المستكبرين، ولتمريغ أنوفهم في الوحل(.(3)
ولأنّه فعلا مشروع تحرّر عالمي، فقد تعاطفت وتفاعلت مع ندائه الصّادق شعوب ودول، بنت مبادئها على رفض هيمنة قوى الإستكبار والصهيونية، وانخرطت في أُطُرِ مقاومتها بوسائلها المتاحة لديها، لذلك نرى دول أمريكية أخرى تقف إلى جانب القضية الفلسطينية، بيقين العارفين بمظلومية الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته، وهذا التفاعل كان محتشما قبل نداء الامام الخميني رضوان الله عليه، وازداد زخما وتوسّعا، بعد أن سمعته نُخبُ الشعوب مثقفيها، فتبنّوه بعفويّة الأحرار، عندما يروا ظلما واقعا.
مشروع الامام الخميني في تحرير فلسطين ثوريّ وواقعي وصادق، أفزع المنظومة الغربية وأشعرها بخطر انهيار بؤرتها السرطانية في قلب الأمّة، فباشرت دوله بتشجيع وتحفيز الدّول العربية والإسلامية على التطبيع مع الكيان الصهيوني الدخيل المغتصب، منذ أن قال الإمام الراحل كلمة الفصل، في مفتتح مشروع التحرير بإطلاق ندائه العالمي، باذلة قصارى جهودها من أجل إفراغ ساحة المواجهة مع هذا العدوّ، ولئن نجحت في استدراج بعض الدّول، فإنّها اصطدمت بجبهة مقاومة متصدّية، بدأت تكبر وتتقوى بمرور الأعوام، مؤتلفة عناصرها تحت راية القيادة الإسلامية في إيران
على مدى 43 سنة من إعلان يوم القدس، يمكن أن نستخلص ما حصل من نتائج طيّبة، كانت من ثمراته المباركة، بحيث انتقلت القضية من إطارها العربيّ الضّيٌّق، إلى إطار إسلامي أوسع، لينضمّ إليه فيما بعد أحرار العالم، ويشكلوا معا حاجزا مانعا من تمييع القضية، أو ضياعها من أيدي أصحابها، هذا ولم يطلق الإمام الخميني رضوان الله عليه نداءه، من دون أن يكون قد دعا أجهزة النظام الإسلامي للعمل والإعداد الجادّين، على جميع الأصعدة العلمية والعسكرية والاقتصادية والسياسية لتتكامل عمليّا، مع النّداء المعنوي الذي أطلقه قائد الثورة الإسلامية ومؤسس نظامها.
والأهمّ من هذا الانتشار الدعائي للقضية، هو مدى الوعي الذي بلغه الفلسطينيون أنفسهم باعتبارهم أصحابها، والأولى بأن يكونوا في مقدّمة العاملين عليها، فقد نشأت حركات مقاومة اسلامية وغيرها في الدّاخل الفلسطيني، تمكنت من بثّ روح جهادية متجددة في قلوب الفلسطينيين، لم تكن لتحصل لولا ثقافة الثورة الإسلامية الإيرانية، فحركة الجهاد تأسست بفكر الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، المتأثر بذلك الفكر وكبار رجاله، من أمثال الإمام الخميني والشهيد مرتضى مطهري، ومن بعدها جاءت حركات مقاومة أخرى كحماس، لتعطي البُعْدَ الجهادي مكانته في صلب القضية، قطعا مع عقلية الإعتماد على الحكومات العربية، وجيوشها التي منيت بهزيمة نكراء في حرب حزيران 67، المعروفة بحرب الأيام الستة.
إنّ من تابع مراحل نموّ وتطور الإنجازات العسكرية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وما حقّقه خبراء التصنيع العسكري من نتائج باهرة، في مجال إبتكار وتصنيع الأسلحة، بمختلف أنواعها الدفاعية والهجومية، البرّيّة والجويّة والبحرية، يعطينا الدليل الثابت على أن النظام الاسلامي في إيران حمل على عاتقه مسؤولية الإعداد المادّي، ولم يقصّر في شيء فوق ذلك، من دعم الشعب الفلسطيني بما تحتاجه فصائل مقاومته من أعتدة وأموال، وقد اعترف قادة الفصائل الفلسطينية بذلك، ووجهوا شكرهم وامتنانهم للقادة الإيرانيين، على ما قدّموه من أسلحة وأموال.
يمكن القول إذا، أن جبهة المقاومة التي أسستها إيران، بلغت في استعدادها مرحلة متقدّمة جدا، وقد اصبحت بفضل الله اليوم قاب قوسين أو أدنى من الهدف، ومن شأن ذلك أن يسرّع في معركة التحرير المرتقبة، كل تلك الجهود الإيرانية حصلت، وإيران على مدى أربعة عقود، تعيش تحت طائلة العقوبات الأمريكية المجحفة بحقها، وقد وصلت الأمور إلى مستوى حرج جدا على اقتصادها من أجل تكبيل حركتها الجهادية، فلم تأبه لذلك – وهي تضحية كبرى منها من العسير أن تصبر عليه دولة أخرى – عالجه النظام الإسلامي بحكمة وسداد رأي، ومع ذلك لم تُوقف إيران دعم المقاومة في فلسطين، بقطع النظر عن مسمّياتها، فما يعنيها فقط تحرير فلسطين كل فلسطين.
لكننا نجد مقابل هذه الجهود الجبّارة والخيّرة، قافلة دول التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد التحقت بها دول معروفة، هي في أصلها وأساسها غارقة في العمالة وخيانة شعوبها، والمضيّ خلاف رغباتهم في تحرير فلسطين، وعدم التعامل بأي شكل من الأشكال مع العدوّ الصهيوني، مهما كانت المغريات التي تقف وراءها أمريكا، ذلك أنّ التاريخ لن يرحم من مضى ملتحقا قافلة التطبيع مع الكيان الغاصب، ومن ربط مصير نظامه بالصهيونية، سيسقط معها طال الزمان أم قصر.
لقد حرّك نداء الإمام الخميني رضوان الله عليه الجميع، المؤمنون بالقضية، فرموا بأنفسهم في أتونها، والسّاعون لمحقها واندثارها، وإن تعدّدت أسماؤهم، خصوصا دول الخليج المطبّعة، التي لم تأتي بخير منذُ وُجدت، وكأنّي بها قد كشفت عن قناع كان ساترا قبحها، فظهرت أكثر صهيونية من العدوّ الصهيوني نفسه، منقلبة أنظمتها على مبادئ شعوبها والتزاماتها التاريخية، بشأن دعم أشقائهم الفلسطينيين ومناصرتهم، من أجل استعادة حقوقهم على أرضهم المغصوبة بالقوّة والإكراه.
وسنشهد في قادم الزّمن حلفا مقاوما قادرا على المواجهة أمام أي قوة عسكرية، مهما كبرتْ في عتادها وعددها، حتى لو تزعّمت أمريكا قيادته، سيعبُرُ فيها رجال الله الحدود الفلسطينية، ويلتحموا مع اخوانهم في الداخل الفلسطيني لتحرير الأرض المباركة، ويحقّقوا النصر المؤزّر، وينفّذوا وعد الله الذي واعده عباده الصالحين، بينما سيلبس من تآمر على القضية الفلسطينية، لباس العار والشّنار لا يزول عنهم إلى يوم القيامة، فبئس المطبّعون وما جنَوْه بحق شعوبهم وأمّتهم – وإن كنت واقعا أعتبر انتماءهم لهذه الأمّة مزيّفا – ولا غرْوَ من أن يكونوا ذوي أصول صهيونية مندسّين بيننا، من شاء أن يلحقه العار فليلتحق بقافلة المطبعين، في أتعس ومنتهى جولاتها، ومن شاء أن يكون مع الأحرار في ثباتهم على مبادئهم، فلا يَعْدُو محور المقاومة، هو خط الإسلام المحمّدي، في الوقوف مع المظلوم في وجه الظالم، ومظهر الشّرف والإباء الإنساني، في رفض منطق وحكم الإستكبار، في فرض الكيان الصهيوني على أرضنا وأمّتنا، وبين هاتين الجبهتين سيكون الصراع مصيريا، من انخرط فيها فاز بإحدى الحسنيين، ومن فاته الإلتحاق فلن يذوق طعم لذّة النصر، وليس هناك ربوة أسلم لإنتظار النتيجة.
المراجع
1 – الإمام الخميني وإعلان يوم القدس العالمي
https://alwelayah.net/post/26807
2 – سورة المائدة الآية 82
3 – يوم القدس العالمي في كلام مؤسسه الإمام الخميني (رض)
https://www.tasnimnews.com/ar/news/2017/06/22/1443762