بقلم: فوزي حساينية-كاتب جزائري |
الكلُ – تقريبا- متفق على أن المسيح عيسى بن مريم، سيعودُ في آخر الزمان، وأنَّ عودته تمثلُ إحدى العلامات الكبرى، التي ستسبق وتُنبئُ بقرب قيام الساعة، وأن أحداثا مهُولة ستشهدها الأرض قبل وأثناء هذه العودة الثانية للمسيح عليه السلام، وأريدُ في هذه المقالة الموجزة، أن أطرح بعض الأسئلة، وسيكون تركيزي على طرح الأسئلة أكثر من تركيزي على تقديم الأجوبة، لأن غرضي الأساسي هو الحثُ على محاولة التفكير النقدي، في بعض القضايا التي يحسبها البعض من ضرورات الإيمان وصميم العقيدة، وينظر إليها آخرون على أنها مجرد هرطقات بشرية تفشت وترسَّختْ في أذهان الناس جيلاً بعد جيلٍ، حتى أصبحت جزءً من التراث الديني لمختلف الشعوب والأمم، ونعود هنا لنتساءل هل سيعود المسيح بن مريم ؟ وإن كانت ثمة عودة ثانية للمسيح فما هي المُهمة أو المَهمات التي سيضطلعُ بها لدى عودته أو مجيئه الموعود هذا ؟ ومتى سيعود تحديدا ؟ ومن أي مكان أو بقعة في الأرض سيباشر مهامه المرتبطة بعودته الثانية ؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها لكن لنكتفِ بما تقدم.
هل سيعود المسيح ؟
الذي يقرأ الروايات الكثيرة المبثوثة في مختلف الكتب القديمة والحديثة، يخلصُ إلى أن مسألة العودة هذه مفروغ منها وأن القراءات التي تجري لهذه الروايات تتمحور حول بعض التفاصيل التي لا تمسُّ أصل الفكرة، أي حتمية عودة المسيح عيسى بن مريم، مع الإشارة إلى أنه يوجد فرق بين اليهود والمسيحيين في مسألة العودة، فبالنسبة لليهود يتعلَّقُ الأمر أساساً بمجيء المسيح لأنَّهم لم يؤمنوا بالمسيح عيسى بن مريم الذي جاء قبل عشرين قرنا، وهم الآن ينتظرون مسيحهم! أما بالنسبة للمسيحيين إجمالا، فيتعلق الأمر بعودةٍ ثانية للمسيح، لأنَّهم يؤمنون بالمسيح عيسى بن مريم الذي جاء أول مرة قبل عشرين قرنا وسيعود ثانية، أما عن اعتقاد المسلمين في هذه المسألة فإنَّ الروايات الموجودة في مختلف المصادر الإسلامية، وخاصة إذا تصفحنا كتب الحديث المشهورة، سنجد أن ما ورد فيها من أحاديث منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلّم مأخوذة كلها من روايات أهل الكتاب، إلى درجة أن كل رواية أو حديث يمكن ردّهُ بسهولة إلى أصله، في كتب اليهود والنصارى خاصة العهدين القديم والجديد، أي التوراة و الأناجيل الأربعة المعترف بها من الكنيسة، وبصيغة أكثر تعبيراً عن الحقيقة المُرَّةِ، لابد من الاعتراف بأنَّ اعتقاد المسلمين في قضية العودة اعتقادٌ مستعارٌ يعكس حجم الاختراق الذي تعرضت له الثقافة الإسلامية منذ قرون خلت، ويكشف أيضا عن الجهود المطلوبة لتصحيح ما يجبُ تصحيحه.[1]
وإذا كانت العودة مأمولة وممكنة، فما هي المهمة التي سيضطلعُ بها المسيح عند عودته ؟
هنا أيضاً تختلف الروايات والمعتقدات، فاليهود ينتظرون مسيحهم ليقودهم إلى ملحمة دينية دنيوية جديدة، يؤسس فيها اليهود بقيادة المسيح مملكة تُعَمِّرْ لمدة زمنية تقدر بعشرة قرون كاملةٍ، يحكم فيها اليهود العالم انطلاقا من القُدس، التي ستكون عاصمةً للمملكة العالمية الألفية. والمسيح لن ينزل كما تتضافر الروايات حتى تصبح القدس يهودية بالكامل، ومن هنا يجب أن نفهم إصرار معظم القيادات الإسرائيلية على التهويد الكامل لمدينة القدس وما حولها من خلال القضم المتواصل لأراضي الفلسطينيين، والتوسع الدائم في القدس، وما حولها، ولذلك فإن المساعي العربية على الصعيد السياسي لوقف الاستيطان هي مساعي عبثية، لأنَّكَ لن تُقنع اليهود أو الإسرائيليين بترك إيمانهم الديني، مقابل حجج سياسية ليسوا مجبرين على التعامل معها بجدية، إذ أن الواقع العربي والمحيط الدولي يعمل لصالحهم، ونفس الأمر ينطبق على أغلب الطوائف المسيحية الغربية، خاصة البروتستانت، الذين يعتقدون أن عودة المسيح ونزوله في الأرض المقدسة، وتدشينه للحكم الألفي- لمدة ألف سنة – لن يتم إلا إذا عاد اليهود إلى فلسطين، وتهودت فلسطين والقدس من خلال هذه العودة، وهي القناعة الدينية ذاتها التي تتأسس عليها التيارات المعروفة بالصهيونية المسيحية التي تنتشر بنوع خاص في الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا وهولندا، وهو ما يفسر الدعم غير المحدود الذي تُقدمه مثلا الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل، يقول الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في مذكراته:” عندما وصلت إلى كرسي الرئاسة كنت مقتنعا كأغلب الأمريكيين أن قيام إسرائيل والمحافظة عليها، هو تنفيذ لوعد الرب، وإني أفتخر أن المساعدات التي تلقتها إسرائيل في فترة رئاستي تفوق ما تلقته في عهد أي إدارة أمريكية سابقة، وأريدُ أن يعلم الأمريكيون أن هذه المساعدات لم تكن صدقة بل هي استثمار لأمن الولايات المتحدة…” ولا يخفى على أي قارئ أن هذا الاستثمار الأمني الأمريكي كان يجري دائما على حساب المنطقة العربية الإسلامية التي وبسبب وجود إسرائيل أو لتبرير وجودها أصبحت – المنطقة – تُسمى الشرق الأوسط، لتنتهي الرواية المسيحية بوقوع معركة “هرمجدون” في قلب فلسطين التي ستشهد مشاركة ملايين الجنود وفناء اليهود إلا عددا محدودا منهم يقدر باثنتي عشر ألفا تكون نجاتهم بسبب اعتناقهم للمسيحية، إذ وفي خضم المعركة يظهر المسيح من فوق السحاب ويرفع إليه الأشخاص المؤمنين مما يسمح بنجاتهم من المذبحة الرهيبة، لينزل المسيح والمؤمنون به من فوق السحاب بعد انتهاء المعركة ويبدأ تاريخ المملكة الألفية في السريان، أما إذا جئنا إلى الروايات المبثوثة في كتب الحديث وغيرها من المصادر التي كُتبت عبر التاريخ الإسلامي لغاية اليوم، فإن ما يبرر عودة المسيح هو على سبيل المثال الأسباب المذكورة في الحديث المنسوب إلى خاتم الأنبياء، والذي رواه مسلم عن أبي هريرة ” والذي نفسي بيده ليوشكَّن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مُقسِطاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ويفيض المال حتَّى لا يقبله أحد ” وإذن فالمهمة الأساسية للمسيح عند عودته هي :
كسر الصليب.
قتل الخنزير.
وضع الجزية .
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة دائما ” ينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء على ثنية من الأرض المقدسة يُقال لها أفيق بين ممصرتين، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر والإمام يَؤُم بهم، فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يقتل الخنزير ويُكسر الصليب، ويُخَرِّبْ البِيَّع والكنائس، إلا من آمن به ” ونجد في هذه الرواية مزيدا من مهام المسيح، هي :
قتل الدجال.
تخريب البيع والكنائس.
قتل كل من لا يؤمن به.
إن المرء ليقف مشدوها مبدوها مرعوبا أمام هذا الكلام العجيب الغريب الرهيب الذي لا ندري كيف يمكن أن ننسبه لخاتم الأنبياء والمرسلين ! كسر الصليب وقتل الخنزير وتهديم الكنائس والبيع وقتل الناس حتى لا ينجو منهم إلا من آمن به !منذ متى كان الإسلام ونبيه الكريم يأمر بكسر رموز الأديان الأخرى أو يأمر بإبادة نوع معين من المخلوقات ؟ والملاحظ أن المسيح وفقا لهذه الروايات لن يشرع في ارتكاب هذه المجازر الفظيعة إلا بعد أن يؤدي صلاة العصر وراء إمام مسلم !ولعَّلَ الربط بين الصلاة وهذه الأعمال الوحشية له مغزاه وهدفه البعيد العميق لدى من صاغوا هذه الروايات المرعبة. وهكذا فالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام والذي جاء بالرحمة والرأفة وبشَّر بالأمن والسلام سيعود إلى الأرض ديكتاتورا جبَّارا مدمراً بحيث لا ينجوا منه إلا من آمن به !؟ ولا أدري بماذا سيؤمنُ الناس بعد أن يحلَّ الخراب والدمار بالأرض والناس والحيوانات ؟ والغريب أن المال يفيض حتى لا يقبله أحد، وكأنَّ الله سبحانه لم يكن عليما بطبيعة الناس عندما قال: ” وتحبون المال حُبّاً جَمّاً “( الفجر 20). والجدير بالذكر أن القرآن الكريم يصف المسيح حتى قبل ولادته بأنه زكي وذلك في البشارة إلى مريم البتول ” قال إنَّمَا أنا رسول ربك لأهب لك غُلاماً زكياً ” ( مريم 19)، وبعد ميلاده يقول المسيح عن نفسه متحدثا بنعمة الله عليه ” وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمتُ حياً، وبرَّاً بوالدتي ولم يجعلني جبَّاراً شقياً “(مريم 31و32 ) لكن الروايات تريد أن تقنعنا أنَّ المسيح سيكون جباراً شقياً، وكأن هذه الروايات لا هدف لها إلا تكذيب القرآنِ والتشكيك في ما أورده من حقٍ وحقائق حول الأنبياء والرسل؟ و إلا ما الذي سيجعل المسيح عليه السلام يتحول كلَّ هذا التحوُلِ المُريعِ ويصبح جباراً بعد أن كان ليس جباراً ؟ هذا على فرض أنه سيعود كما تريد هذه الروايات أن تُرسِّخَ في أذهان الناس وقلوبهم.
ولكن متى سيعودُ المسيح؟
تتعاضدُ الروايات على أن توقيت هذه العودة سيكون في آخر الزمان، ولكن ما المقصود بآخر الزمان ؟ لا تُفيدنا الروايات على كثرتها بشيء ذي بال، والمعنى الذي يمكن الوقوف عليه بشكل عام هي الأوقات الأخيرة من عمر الكون، أي فترة أو فترات معينة من الوقت تسبق قيام الساعة، وكل ما تُسعفنا به هذه الروايات لتقدير دنو لحظة قيام الساعة هي ما يسمى بالعلامات، أي مجموعة من الظواهر أو التحوُلات التي تُصيب النظام والسير المعهود في الكون بحيث تكون هذه التحوُلات عند حدوثها مُؤشراً على بداية العد التنازلي ليوم الحساب !والعلامات المذكورة في مختلف المصادر تنقسم إلى علامات صغرى وكبرى ! بعضها قد جاءت مثل التطاول في البنيان وبعضها قادم لا محالة، ودون الدخول في التفاصيل نقول أن من أشهر هذه العلامات التي يٌعد ظهورها منذرا بقرب وقوع الكارثة هي تلك المذكورة في الحديث الذي رواه أبو هريرة : ” ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً طلوع الشمس من مغربها والدجال والدابة ” فهذه العلامات الثلاث تسبق نزول المسيح لأنَّ من المهام الأساسية لعيسى بن مريم إثر عودته المنتظرة هي قتل المسيح الدجال، وهنا نتساءل، لماذا يجبُ علينا أن نفترض أن قيام الساعة سيكون مسبوقا بسلسلة طويلة من العلامات والتمهيدات في حين أن القرآن العظيم يؤكد في أكثر من آية كريمة أن الساعة تأتي بغتة وأنَّ علم الساعة وميعادها لا يعلمهما إلا الله وحدهُ لأنها غيب مطلق ؟ بل وجرى التحذير من كونها قد تكون غير بعيدة ” يسألك الناس عن الساعة قل إنَّما علمها عند الله وما يُدريك لعل الساعةَ تكون قريباً “( الأحزاب 63) و” لا تأتيكم إلا بغتة “( الأعراف187) والأكثر من ذلك أن الساعة فضلا عن اندراجها ضمن غيب السموات الأرض الذي لا يعلمه إلا الله، فإن وقوعها سيكون خاطفا ” ولله غيب السموات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير”(النحل77) فالله قادر على حسم الأمر في أية هنيهة يشاء دونما حاجة للعلامات والأمارات التي اختلقتها روايات البهتان والتضليل، ألا يتناقض القول بكل هذه العلامات مع صفة البغتة و حصريةِ علم الله سبحانه بها، لأنني إذا قلتُ لك أن الأمر الفلاني لن يحدث إلا إذا سبقه كذا وكذا من الوقائع والظواهر فإن صفة الفجائية تزول، كما أن احتكار العلم ينتفي مادام التنبؤ بموعد الحدث أصبح متاحا عبر مراقبة ودراسة العلامات والتمهيدات، وأمر آخر قمينٌ بالتأمل، هذه الروايات بما حملته من تنبؤات واستشرافات غيبية لمستقبل الإنسانية كلها، تُروى باعتبار أنها صادرة عن خاتم الأنبياء ! في حين أننا نعلم من القرآن أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يعلمُ الغيب ومأمور من الله سبحانه أن يقول بأنه لا يعلم الغيب ” قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ” (الأنعام 50)، كما أن كل الغيب الذي أوحاه الله إلى النبي الخاتم موجود في القرآن الكريم الذي بلّغهُ الرسول كما تلقاه عن ربِّه دون زيادة أو نقصان، وكل من ادعى أو يدعي أن الرسول خصه ببعض الأسرار أو منحه شيئا من العلم دون بقية المؤمنين ودون سائر الناس إنما هو واهم أو كذَّاب مفتر.
وبعد وعلى فرض أن المسيح سيعود إلى الأرض، فأين سينزل بالتحديد ؟ ما هي الظروف التي سينزل فيها ؟ هنا تُتْحِفنا الروايات الكثيرة بتفاصيل مثيرة وبالغة التناقض. وإذا كنا قد رأينا في الحديث أعلاه أن المسيح سينزل وقت صلاة العصر فإن روايات أخرى تؤكد أنه سينزل وقت صلاة الفجر، وبالمثل فالمسيح سينزل لدى عودته قرب الجامع الأموي بدمشق حسب بعض الروايات، وفي روايات أخرى سينزل في بيت المقدس وكل هذه التناقضات في تحديد الزمان والمكان تم تسويقها لنا تحت عنوان عن فلان وفلان قال الرسول كذا وكذا ! ثم إننا نجد في هذه الروايات تفاصيل دقيقة وكثيرة ومتناقضة عمَّا سيفعله المسيح ومع من سيلتقي ويتحدث ابتداء من لحظة نزوله إلى غاية الانتهاء من مهمته التي ستدوم أربعين سنة أو أربعين يوما يموت بعدها المسيح ويدفنه المسلمون لتقوم الساعة بعدها على ظهر الخراب الذي سيخَلفُه المسيح من بعده ! وهنا وبغرض المقارنة نقف لحظة مع الآية السادسة من سورة الصف ” وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ” فالملاحظ أن المسيح وهو قوة روحية هائلة اكتفى في تبشيره بالنبي الذي سيأتي من بعده بذكر اسمه فقط، لم يحدد لا المكان الذي سيظهر فيه هذا النبي ولا الزمان الذي سيُبعث فيه، ولا المدة التي سيقضيها في تبليغ رسالته، لأنَّ كل هذه الأمور غيب مخبوء في علم الله وحده، لكننا ونحن نقرأ الروايات التي تتحدث عن العودة المزعومة للمسيح نغرق في بحر من التفاصيل الدقيقة المُحَيِّرَة ِليس لكثرتها فحسب بل لتناقضاتها التي لا تنتهي، فبعد أن تعطينا الروايات أوصافا دقيقة عن المسيح الدجال الذي سيُقتل على يد المسيح عيسى بن مريم، تركز على أهم أوصافه فهو أعور مطموس العين اليمنى في روايات وهو أعور مطموس العين اليسرى في روايات أخرى، فالروايات تتفق على وجود المسيح الدجال الذي سيكون أعظم فتنة على وجه الأرض يواجهها المؤمنون منذ بدء الخليقة وتتفق ثانيا على أنه أعور دون اتفاق على تحديد العين أهي اليسرى أم اليمنى ! والأفدح والأخطر من ذلك أن كل هذه الروايات منسوبة لخاتم الأنبياء، وأنها تعتبر أن المعلومة الخاصة بكون المسيح الدجال أعور معلومة خُصَّ بها خاتم الأنبياء وحده دون سائر الأنبياء والرسل ! وهكذا نقرأ في سنن ابن ماجة حديثا منسوبا للرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيه :” ألا أخبركم عن الدجال حديثا ماحدثه نبي قومه إنه أعور ” وهذه رواية منسوبة إلى أبي هريرة، وهناك رواية أخرى منسوبة لابن عمر- رضي الله عنه – يعتبر فيها أن كل الأنبياء جعلوا من التحذير من المسيح الدجال جزء من رسالتهم في أقوامهم، لكن هذه الروايات فضلا عن تناقضاتها المذهلة لا تجيبنا عن سؤال جوهري، إذا كان المسيح الدجال موجودا وله كل هذه الأهمية والخطورة فلماذا لانجد له ذكرا في القرآن الكريم الذي فصل لنا تفصيلا أخاذا رائعا رسالات الأنبياء إلى أقوامهم ابتداء بأولهم نوحٍ عليه السلام وانتهاءً بخاتمهم محمدٍ عليه الصلاة والسلام ؟ فكل ما بشر به الأنبياء والرسل أو حذروا منه مذكور في القرآن، فلماذا لانجد التحذير من هذا المسيح الدجال منصوص عليه في آي القرآن؟
وأودُ أن تتأمل معي في الحقائق والتساؤلات الآتية:
إنَّ القول بعودة المسيح يُؤدي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى تكذيب حقيقة أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين كما جاء في الآية(40) من سورة الأحزاب ” مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخَاتَمَ النَّبيينَ…” ولا يخفف من وقع هذه النتيجة التي تترتب حتما عن القول بعودة المسيح الإدعاء بأن المسيح سيعود لنصرة الرسالة المحمدية، لأننا رأينا أن الأعمال التي سيقوم بها باسم الإسلام تتنافى كلية مع رسالة الإسلام وشريعته، ولا حاجة إلى أن نضيف بأن فتح باب القول في وجود من سيأتي بعد خاتم الأنبياء والرسل يخدم بطريقة مباشرة أغراض وأيديولوجيات بعض الفرق التي تدعي أنها تتبع رسلاً بُعثوا في الزمن المعاصر ! مثل طائفة الأحمدية.
نعلم من القرآن أن المسيح عيسى ابن مريم جاء لينهض بمهمتين أساسيتين الأولى رسولا إلى بني إسرائيل حصرا، والثانية مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، لكن الأخذ بما تدعيه الروايات حول عودة المسيح يُقلب الوضع رأسا على عقب فيصبح خاتم الأنبياء أحمد مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه المسيح عيسى ابن مريم، والقائلون بهذا الإدعاء لا يهدفون إلى الإعلاء من شأن المسيح على حساب النبي الخاتم- وللمسيح العلو بإذن الله – وإنما غرضهم زرع الشك وإلقاء اللُبس على العقائد وركائز الإيمان، ولكننا كمسلمين نتعلم من القرآن أن نؤمن بكل الأنبياء والرسل ” لا نفرق بين أحد منهم”(آل عمران84) وفي محاولة للتمَّلصِ من التناقض الصارخ بين مقولة العودة وختم النبوة، ادعى البعض أن المسيح سيعود، ولكن ليس في صورة نبي رسول بل في صورة أخرى غير النبوة والرسالة ! فهل هذا معقول؟ كيف يُعقل أن إنسانا معينا يختاره الله ويُنعمُ عليه بالنبوة والرسالة ثم يتوفاه وعند اقتراب القيامة يُعيد إرساله مجرداً من النبوة والرسالة، فبماذا يُرسله إذن؟ ثم أليس في هذا تخفيض في الرتبة وانتقاص من المكانة ؟ وأين قدسية النبوة، وعظمة الرسالة إذأ ؟.
نعرف من القرآن كما سبق القول أن المسيح بُعث حصرا إلى بني إسرائيل، وقد جاء في بعض الأناجيل قول المسيح عن نفسه ” إنما بُعثتُ إلى خراف بني إسرائيل ” لكن الأخذ بمقولة العودة، تجعل المسيح مبعوثا إلى الإنسانية كلها، أليس هو الذي سيشرف على مراسم تشييع الإنسانية كلها إلى مثواها الأخير ؟ وذلك خلاف بعثته الأولى مما يقودنا إلى تكذيب القرآن في واحدة من أهم حقائقه وهي أن الأنبياء من قبل أرسلوا إلى أقوامهم خاصة في حين أن النبي الخاتم أُرسل إلى الناس كافة ” قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ” (الأعراف 158) ولا يجب أن ننسى أن اليهود لم يتقبلوا إلى الآن حقيقة أن النبي الخاتم لم يكن من بني إسرائيل وإنما من بني إسماعيل، أي عربي وليس يهوديا.
لا يخفى على القارئ أنَّ القول بعودة المسيحِ تتضمنُ اتهاماً ضمنياً للمسيح عليه السلام أنَّهُ أثناء بعثته الأولى لم يُكمل تأدية رسالته، وإلا فما مبرر عودته ؟ ونحن كمسلمين نؤمن أن المسيح جاء وبلَّغَ رسالته أحسنَ تبليغٍ وانتهى الأمر، وكم تألمتُ عندما أفرَدتْ إحدى القنوات الجزائرية الخاصة سلسلة من الحلقات حول العودة المزعومة للمسيح يقوم بتقديمها شيخ معروف بأنه من أبرز الدعاة، ألا يعرف هذا الشيخ أن القول بعودة المسيح تصديق لرواية الذين يقولون أن المسيح بعد صلبه قام في اليوم الثالث، وهو منذ ذلك الحين جالس على يمين عرش الله – تعالى الله عما يقولون- في انتظار اليوم الذي سيعود فيه من السماء فوق الأرض التي ستشهد معركة “هرمجدون” كما سبق القول، ومن ثمة فالتصديقُ بعودة المسيح اعتراف أو حتى اعتناق لفكرة أو عقيدة التثليث كما أقرها المجمع المسكوني في نيقية سنة 325 م، ومما يُعَزِزُ خشيتنا من الانجرارِ في هذا الاتجاه هو التأْويل الذي يُضْفيهِ البعض على قوله تعالى” وإذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومُطهرك من الذين كفروا وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة..”(آل عمران 55 ) فإزاء قوله تعالى”..إني متوفيك ورافعك إليَّ..” اعتبرَ بعض المفسرين أن عيسى توافاهُ الله ورفعهُ إلى السماءِ، ولكنَّهُ لم يُمِتْهُ، لأن معنى الوفاة في القرآن قد لا تعني بالضرورة الموت، اعتماداً على ما جاء في الآية ” الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسكُ التي قضى عليها الموت ثم يرسل الأخرى إلى أجل مسمى..” فعيسى عليه السلام توفاهُ اللهُ وَفَاةَ إنَامَةٍ- من النَوْمِ- وسيظل نائما حتى تحين لحظة عودته ! فمنْ يستطيع أن يَتَحَمَّلُ مسؤولية تَأْوِيلٍ كهذا ؟ ثم ما الفرق بين من يقول أنَّ المسيح جالسٌ إلى يمين العرش، ومن يقول أنَّهُ نائم في السماءِ إلى حينٍ ؟ لذلكَ نَهِيبُ ببعض الشيوخ ممن يجدُونَ المتعة والحماسة في التبشير بعودة المسيح إلى أن يُعيدوا التفكير فيما يقولونه للناس لأن المسؤولية جسيمة حقاً، وأدعو القارئ أيضاً إلى أن يتدبَّرَ في قوله تعالى ” وجَاعِلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ” ولم يقل سبحانه إلى يوم عودتك، ثم من هم هؤلاء الذين اتَبَعُوا عيسى عليه السلام فجعلهم الله فوق الذين كفروا إلى نهايةِ العالم ؟ إن القرآن يُلفِتْ أنظارنا هنا إلى أمورٍ عظيمة ولكن ما هي؟ هل يشير إلى العُلو الدائم للمسيحيين على اليهود واضطرار هؤلاء إلى الاعتماد الدائم على مضطهديهم التاريخيين ” ..وحَبْلٍ من النَّاس..”(آل عمران 112) .؟
تدفعنا مقولة العودة أو من المفروض أن تدفع بنا إلى التفكير والتساؤل، لماذا المسيح فقط من بين كل الأنبياء والرسل هو الذي سيعود؟ في حين أن منطق هذه الروايات كان من المفروض أن يقود إلى القول مثلا بعودة موسى عليه السلام الذي هلك فرعون على عهده، وتكون عودته ليَهْلكَ الدجال أيضا على يديه، لأن الدجال يشترك مع فرعون في إدعاء الألوهية ! ولكننا عندما ندرس جيدا تكذيب اليهود للمسيح عليه السلام والعمل على قتله واتهام أمه الصديقة بما ليس فيها، وتكذيبهم لخاتم الأنبياء رغم علمهم بصدقه، وإصرارهم على الإدعاء أن المسيح الذي ما زالوا ينتظرونه هو المسيح الحقيقي ! نفهم السر وراء كل هذه الروايات والإدعاءات، والباقي كله تفاصيل، ومن هذه التفاصيل إصرار وتأكيد هذه الروايات على وجود المسيح الدجال إلى جانب المسيح الحقيقي، علما وأن المسيح الدجال سيظهر قبل نزول المسيح الحقيقي كما يزعمون، وهذا الربط بين مفردة ” المسيح” وهي لفظة مقدسة أعطاها الله سلطانا خاصا وبين مفردة ” دجال” فيه إيحاءٌ ورغبةٌ خبيثة في الإساءة إلى المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وخلط الأمور في وعي الناس الذين من المفروض أنهم لا يعرفون إلا مسيحا واحدا هو المسيح الحق، فإذا وقع في وقرهم أو تم إيهامهم أن هناك مسيحا آخر يُسمى المسيح الدجال وسينزل أو سيظهر هو أيضا، فكيف سيتعامل أصحاب العقول النيرة مع دين يحمل معه هكذا معتقدات ؟ إنهم عندئذ لن يترددوا في استعادة ما قاله ميشيل فوكو” الدين هو عقل مجتمع بلا عقل “.
لابد من الانتباه إلى أن جميع الروايات، أعني جميعها وبدون أدنى استثناء، حول عودة المسيح عليه السلام، وفتنة المسيح الدجال، وغيرها من الأخبار الغيبية الواردة في كتب الحديث مأخوذة عن أهل الكتاب وتجد مصدرها في كتبهم، ولا يصح إطلاقا نسبة هذا الكم الهائل والغريب من الأخبار والغيبيات إلى خاتم الأنبياء على أساس أنها من أحاديثه الشريفة، ويمكن للقارئ الذي يريد التوسع أن يعود مثلا إلى كتاب الدكتور مصطفى بوهندي حول التأثير المسيحي في تفسير القرآن، ليقف على شواهد حية عن حقيقة وعمق وأبعاد هذا التأثير، ولامناص من الإشارة هنا إلى أنَّه إذا كنا نوافق تماما على ما كتبه الدكتور بوهندي في كتابه هذا الذي هو في الأصل رسالة دكتوراه في علم الأديان المقارن، فإننا نرفض رفضا مطلقا ما قاله في مناسبات أخرى حول المذهب المالكي، وخاصة إدعاؤهُ بأنَّ المذهب المالكي تجاوزه الزمن ويجب تخطيه، كلا ثم كلا يا دكتور فالمذهب المالكي مكسب عظيم وكنز ثمين ينبغي المحافظةُ عليه والعمل على إثرائه، إن مذهب الإمام مالك مكسب للإسلام وعامل حاسم من عوامل الوحدة في المنطقة المغاربية – وما حولها من شعوب وقبائل في دول الساحل الإفريقي وصولا إلى أعماق إفريقيا- منذ قرون، مما يجعل من التخلي عن هذا المكسب ليس خسارة فادحة فحسب بل مغامرة لا تقل خطرا عما أحدثته الروايات الموضوعة من تشوهات والتباسات في الدين الحنيف، وقد كان المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي(توفي 2016) في كتابه الشهير ” من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، النشأة المستأنفة ” أكثر فهما وإدراكا لطبيعة ومكانة مذهب إمام دار الهجرة، وبذلك تصح الدعوة إلى ضرورة إثراء المذهب المالكي ولكن لا يمكن التخلي عنه لتُفْتَحَ الأبواب بعدها عن بدائل ومذاهب لاتمتُّ بصلة إلى واقعنا.
إن أغلب هذه المرويات تحمل أفكارا خطيرة وتهدف إلى تكريس إيديولوجية التيئيس في الواقع العربي الإسلامي، كتلك القصة المنسوبة إلى الرسول الخاتم من رواية مسلم عن أبي هريرة ” لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فأقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود..” ومن هذه الرواية يتضح أن النصر سيكون من نصيب المسلمين إلى جانب حلفائهم من الشجر والحجر ! والسؤال، ما قيمة هذا النصر الذي لن يتحقق إلا مع نهاية التاريخ وقيام الساعة ؟ ولماذا يختبئ اليهودي خلف الشجر والحجر، إذا كان يعلم أنه سيتعرض للوشاية من طرفهما ؟ ولماذا لا يكتفي بالاختباء خلف شجرة الغرقد التي تقول الرواية أنها ستكون من حلفاء اليهود في معركة آخر الزمان !؟ والواقع يفرض على المسلمين أن لا ينتظروا اقتراب الساعة للعمل على استرداد حقهم في فلسطين بل عليهم أن يعملوا كل يوم في سبيل ذلك لأنَّ الله جلَّ شأنه قد حكم بأنه ” لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” ( الرعد11) علما وأن اليهود لم يلتزموا بما كانت تفرضه عليهم ديانتهم من تحريم عودتهم إلى فلسطين قبل مجيئ المسيح المنتظر، إذ قامت الصهيونية بخلق تفسير جديد مؤداه أن ليس على اليهود أن ينتظروا عودة المسيح ليعودوا بل عليهم أن يعودوا هم أولا لتهيئة الظروف وتهويد القدس، وبناء الهيكل، كي يأتي المسيح.
غير أن رفضنا لأسطرة مآل الصراع العربي الإسرائيلي الذي توحي به هذه الروايات الموضوعة وما ينجم عنها من تزييف للوعي العربي الإسلامي بحقيقة وواقعية الصراع، لا يجعلنا ننفي أبدا أن ثمة مواجهة كبرى قادمة فعلا بين الإسرائيليين والعرب، مواجهة يذوب فيها الحديد وتتصادم الإرادات كأقوى ما يكون التصادم بين الأعداء الألداء، يومها يستند الإسرائيليون كما لم يفعلوا من قبل إلى العالم المسيحي الغربي، ويستند العرب إلى العالم الإسلامي وشعوب أخرى عديدة – ليست بالضرورة إسلامية – في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وأسيا، شعوب قد لا يعنيها مباشرة زوال أو بقاء إسرائيل ولكن يهمها أن يتحرر العالم من هيمنة الغرب وسطوته الثقافية والاقتصادية والسياسية، وستسفر هذه المواجهة عن اختلال حاسم في موازين الواقع الدولي لغير صالح الصهيونية العالمية ومشاريعها السرية والعلنية لإخضاع العالم ومصادرة الضمير الإنساني(أنظر كتاب المسألة اليهودية لمالك بن نبي)، وحقيقة هذه المعركة أو المواجهة مبسوطة في مقدمة سورة الإسراء ” وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفسدنَّ في الأرض مرتين ولتعلون علواً كبيراً ” فبنو إسرائيل سيرتكبون مفسدتين كبيرتين مطبوعتين باستعلاء كبير بكل ما يعنيه الاستعلاءُ من ظلمٍ وعُدوانٍ وتزييف، ولكن العقاب الإلهي سيكون حاضراً في مواجهة بني إسرائيل وإفسادهم ” فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولاً ” وأي إفساد أكبر من محاولة بني إسرائيل القضاء على الإسلام في مهده بأكثر الطرق والوسائل خبثا ودناءة وعدوانا رغم العهود والمواثيق التي أبرمها الرسول الكريم معهم ؟ لذلك وقع إخراجهم من المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على فترات متتابعة، ومن كل الجزيرة العربية على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هذا جزاء إفسادهم في المرة الأولى التي عبَّر عنها بالوعد المفعول أي الناجز والنافذ في حقهم ” ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ” وهذا الكلام موجه إلى بني إسرائيل ومفاده كما هو واضح أنكم يابني إسرائيل بعد إفسادكم في المرة الأولى والعقاب الذي نزل بكم ستكون لكم كرة أخرى تتغلبون فيها على العرب والمسلمين، لأنَّكم ستكونون أكثر أموالا وقدرة على الحشد والتنظيم وستعودون إلى الأرض المقدسة ويمكنكم البقاء فيها إن أنتم أحسنتم أي تعايشتم مع العرب في سلام ووئام، ولكن بني إسرائيل ليست لديهم القدرة على الإحسان، فيمضي قضاء الله فيهم إلى نهايته المحتومة ” فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أو مرة وليتبروا ما علو تتبيرا ” والمعنى، إذا حان موعد الدورة الثانية من الصراع التي عبر عنها بوعد الآخرة، سيدخل العرب والمسلمون إلى الأرض المقدسة واضعين حدا نهائيا للعلو الإسرائيلي ومدمرين لكل مظاهره وجبروته، والدورة الثانية هذه في طريقها إلى استكمال عناصرها الواقعية والتاريخية وذلك بقيام إسرائيل وتجمع اليهود فيها سنة بعد أخرى على شكل جماعات تلو جماعات فيما عُرف مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، وهو ما أنبأت به الآية الرابعة بعد المائة من سورة الإسراء، إذ بعد الحديث في الآية 103 عن إغراق فرعون وجميع من كانوا معه وإنقاذ بني إسرائيل من قبضتهم تقول الآية 104 ” وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ” وهذه الآية ترتبط ارتباطا عضويا بالآيات الواردة في مقدمة السورة، ونفهم من هذه الأية المعجزة أنه بعد إنقاذ بني إسرائيل من مطاردة فرعون كتب الله عليهم أن يتشتتوا في الأرض” أسكنوا الأرض ” الأرض مطلقا دون تحديد بقعة محددة، وذلك إلى أن يحين موعد بداية الدورة الثانية ” وعد الآخرة ” التي يبدأ معها إعادة تجميع بني إسرائيل في القدس وما حولها، وقد أوضحت الآية حتى الصورة أو الشكل الذي سيعودون به ” لفيفا ” أي جماعة تلو جماعة، وهذا ما حدث بالضبط كما أوضحنا من قبل، وإلى اليوم وبعد أكثر من ستين عاما على قيام إسرائيل لا تزال الهجرة اليهودية إلى فلسطين متواصلة وستتواصل رغم كل هذا الضجيج حول إنهاء الصراع وإرساء السلام، والواضح إذن أن الصراع الذي تتحدث عنه الأيات4 و5 و 6 و7 و 104 من سورة الإسراء هو صراع يقع في هذه الحياة الدنيا ويكون التاريخ الإنساني بكل تمظهراته وتعقيداته مسرحا له، ولم تُشر الآيات السابقة إطلاقا إلى اقتران هذا الصراع باقتراب الساعة وبداية الفناء، فضلا عن معجزة تكلم الحجر والشجر، وربما كان مرد اللبس لدى البعض في أنهم فهموا مفردة ” الآخرة ” على أنها يوم القيامة وقد وضحنا المعنى الصحيح لهذه المفردة وأكدنا على الارتباط الوثيق بين مفردة الآخرة الواردة في الآية السابعة، وتلك الواردة في الآية الرابعة بعد المائة، كما أن مفردة ” أولاهما ” الواردة في الآية الخامسة توضح بما لا يدع مجالا للظن أن مفردة الآخرة تعني وبدقة ” المرة الثانية ” ولعل الفكر الصهيوني فهم جيدا الأبعاد الواقعية للصراع لذلك تذكر بعض المصادر أن دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء في إسرائيل قال في وصيته لقومه: ” إياكم وأن يمتلك العرب صناعة الحديد”، لكنه لم يُوصهم بالإكثار من زراعة شجرة الغرقد.
– وقد كان المفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد(توفي2004) من أبرز المفكرين الذين كتبوا حول أهمية سورة الإسراء في فهم أبعاد ومصير الصراع العربي الإسرائيلي وامتداداته العالمية، لكن هذا المفكر القدير قرأ وحلل الصراع العربي الإسرائيلي ضمن رؤية شاملة وجديدة شرحها خاصة في كتابه حول العالمية الإسلامية الثانية، بحيث تجري المواجهة المنتظرة بعد تحولات عميقة في الوعي العربي تسمح بتعزيز الثقة في الذات، والانتقال من يأس المرحلة إلى تفاؤل التاريخ فيصبح الإنسان العربي قادرا على امتلاك التكنولوجيا والطاقة، والتأهيل العلمي والحضاري، فضلا عن الاستقرار الدستوري وهي الشروط التي تحقق للعرب كامل حيويتهم الحضارية وتجعلهم أكفاء لرسالتهم العالمية كما هو قدرهم وحَتْمُهُمْ، لكن بعض الكتاب المغرمين بالإثارة والباحثين عن الشهرة راحوا يجتزئون من هذه النظرية الشاملة القسم الخاص بالصراع العربي الإسرائيلي كما شرحه المفكر الراحل في العديد من مؤلفاته، وأخذوا ينشرون كتبا ومقالات تحت عنوان: ” زوال إسرائيل حتمية قرآنية ” مستشهدين بما كتبه حول الآيات السابقة من سورة الإسراء دون أن يذكروا المصدر الذي أخذوا عنه، وإننا نسألهم إذا كان زوال إسرائيل حتمية قرآنية، فهل هذا يعني أنها ستكون هدية أو حتمية مجانية ؟ وهل يمكن للمرء أن يصبح مفكرا بالاقتطاع من أفكار الآخرين؟.
– وكأنِّني أسمعُ من يقول: لماذا تتجنبُ الحديث عن الآيات القرآنية التي تحمل إشارات واضحة أو مُضمرةٌ عن عودة المسيح كعلامةٍ على دُنوِ الساعة، وفتنة يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة التي تكلمُ الناس؟ والآيات محل التساؤل، هي :
1- ” وإنَّه لَعِلْمٌ للساعة …” (الزخرف61) وجاءت هذه الآية في سياق الرد على المشركين العرب وتصحيح تصوراتهم حول المسيح، وتبيان عُقمْ مقارنتهم بين المسيح عليه السلام وآلهتهم واعتبار ذلك محض جدل.
2- ” قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ..” (الكهف94) في سياق استغاثة القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا بذي القرنين ليُخَلَّصهم من أذى يأجوج ومأجوج.
3- ” حتى إذا فُتِحَتْ يأجوج ومأجوج وهم من كل حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ” (الأنبياء 96) والآية تتحدث عن اقتراب الوعد الحق والحالة التي سيكون عليها الكفار عند وقوفهم على حقيقة الساعة التي غفلوا عنها.
4- ” وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابةً من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون” (النمل86) وسياق الآية يتعلق بتسجيل موقف المكذبين وتوجيه الرسول إلى كيفية التعامل معهم وعدم تحميل نفسه مسؤولية عدم اهتداء المكذبين بالدعوة إلى الله.
إننا عندما نتدبر هذه الآيات تبدأ التساؤلات، ما معنى يأجوج ومأجوج، هل هم شعوب همجية ستغزو الأرض كما تقول الروايات، أم ظواهر طبيعية ترمز إلى قوة المياه – أثناء الفيضانات- وحمم البراكين كما يرى بعض المعاصرين؟ وما الذي نستطيع أن نفهمه من قوله تعالى ” وإنَّهُ لَعِلمٌ للساعةِ ” فإذا قال البعض أن المقصود هو المسيح بن مريم عليه السلام باعتبار أن السياق في السورة يتحدث عنه، فإن البعض الآخر قد يتساءل، كيف يُعقل أن يكون إنسان فرد علامة على قيام الساعة وفناء الكون، حتى ولو كان هذا الإنسان الفرد نبياً رسولاً في سابق أيام الدنيا ؟ ثم ما حقيقة الدابة التي ستكلمُ الناس إذا وقع القول عليهم، هل هي من نوع الدابة التي أكلت منسأة سليمان عليه السلام(سبأ 14) و كيف سيتم ُ إخراجها من الأرض، ولماذا قال تعالى ” إذا وقع القول عليهم” ولم يقل كما في آيات أخرى ” حقَّ عليهم القَوْلُ “، كيف يمكنُ أن يقعَ القولُ ؟ ومن السهل أن نلجأ إلى كتب التفسير لنغرق في متاهات الروايات ونضيع في بحار الأساطير التي تراكمت حول النص القرآني، فهل يعقل أن نفرض على عقولنا نحن الذين نعيش في القرن الواحد والعشرين فهوما صاغها أسلافنا الذين عاشوا قبلنا بقرون؟ إننا عندما نسافر نستقل الطائرات والسيارات، وإذا أردنا التواصل نستعمل الانترنت والهواتف النقالة، وإذا تعاملنا مع الأخبار نستخدم الأقمار الصناعية والفضائيات التي تنقل الحدث لحظة وقوعه صوتا وصورة، إننا في كل أمورنا نستعمل منتجات القرن الواحد والعشرين، لماذا إذن وفقط عندما يتعلقُ الأمر بفهم القرآن نترك عصرنا مسرعين مهرولين إلى القرون الماضية ؟ وما ينبغي التأكيد عليه، أن أية أفكار أو استنتاجات نحصلها من دراستنا للقرآن يجب أن نخلص إليها معتمدين على آليات التأويل والتحليل وليس بواسطة التفسير الذي هو آلية قديمة لا تتلاءم مع الأرضية المعرفية لعصرنا، وللقرآن سياقه المعرفي المُسْتَقِلْ والمُسْتَغْنِي عن أي وسيط خارجي، ولذلك هو قادر ليس فقط على التجاوب مع أرقى مناهج البحث بل وعلى احتوائها وتجاوزها وتصحيح عثراتها، فعلى عقولنا يجب أن نُشفِقَ ونُحاذِرْ، وليس على القرآن الذي هو كتاب عزيز ” لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيمٍ حميدٍ”، وعلى المرء وهو يقرأ القرآن أن يطرح دون خوف أو عقدة كل ما يَعِّنُ له من الأسئلة فالله سبحانه كما يقول الدكتور محمد شحرور لايَنْهَزِمْ .
وبعد فإنني أترك للقارئ وعلى ضوء التساؤلات والمعطيات السابقة أن يفكر أو يقرر بنفسه هل سيعود المسيح عيسى عليه السلام، أم أنه لن يعود ؟ إن القول بأن عودة المسيح تتناقض مع ختم النبوة من المفروض أن يكون وحده كافيا في تقرير موقفنا، ولكن هذه المرويات مضىت عليها قرون وهي تُحفَّظُ وتُدَّرسُ مما جعلها جزءًا من الوعي الديني للمسلم ويتطلب الخلاص منها الصبر والجهد والعمل على التدبر والتفكير كما يأمرنا القرآن المجيد، فالمطلوب أن نُقبل على دراسة القرآن والصحيح من أقوال المصطفى بعقولنا وليس بنقولنا، لأنَّ المنقول الموجود بين أيدينا أغلبه من نتاج عقول أسلافنا الذين أبدعوا وفقا لمعطيات عصورهم ومعارفهم، وعلينا أن نُنتج منقولنا بأنفسنا ووفقا لما يتوافر لدينا من معارف ومناهج وحاجات، وإذا صح للمسلم أن يقدم تنازلا حول قضية ختم النبوة فسيكون تنازلاً من غير تنازلٍ، بمعنى أن خاتم الأنبياء والمرسلين إذا كان قد مات كما يقول الدكتور طه جابر العلواني في كتابه ” الوحدة البنائية للقرآن” فإنه قد ترك فينا القرآن نبيا ورسولا إلى يوم القيامة.
****************************
[1] – من المهم هنا أن أوضح أن التحفظ في نسبة بعض المرويات إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، لايجب أن يقودنا إلى الانخراط في تلك الحملات المكثفة والموجهة والممولة والتي تحاول الإطاحة بكل الموروث الديني الذي جاء في مختلف المصادر والمراجع الأساسية بحجة أنها كلها تضليل وافتراء !