إذا كانت الصحيفة الأميركية «نيويورك تايمز» قد بدأت منذ 11 حزيران الجاري بنشر سلسلة وثائق بعنوان «أوراق من البنتاغون» أي وزارة الدفاع الأميركية عن الحرب الأميركية على فيتنام بين 1954-1959 وبين 1964-1975 فلابد أن يأتي الوقت للسماح بنشر وثائق البنتاغون السرية عن كل الأعمال والعمليات السرية التي قام بها البنتاغون للكيان الإسرائيلي منذ أواسط الستينيات. وحين تظهر هذه المعلومات سيجد النظام الرسمي العربي وبعض دوله أن كل السياسات التي اتخذتها الإدارات الأميركية في المنطقة والحروب التي شنتها كان يجري التخطيط لها بهدف حماية إسرائيل وفرض قوتها وسياستها في المنطقة على الدول العربية وبغض النظر عن أي معايير يفرضها ما يسمى الصداقة الأميركية مع هذه الدولة في الشرق الأوسط أو تلك وهذا الهدف الأميركي لم يتغير لكنه بدأ يتعرض للهزائم وللفشل عند واشنطن وعند تل أبيب في العقدين الماضيين فلا الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 ولا الحرب التي قادت فيها واشنطن أكثر من مئة دولة ضد سورية والمقاومة وحلفاء سورية نجحت في حماية الكيان الإسرائيلي من تزايد مصادر قوة أطراف المقاومة وتعزيز قدرة الردع المشتركة ضده.
ومما لا شك فيه أن القيادة الإسرائيلية تدرك مضاعفات كل هذه الهزائم الأميركية لأن هذه القيادة منذ قيام بريطانيا بصناعة الصهيونية وتبني تحقيق أهدافها حددت قبل وبعد حرب عام 1948 شرطين أساسيين لضمان بقاء هذا الكيان: الأول وجود دولة كبرى أو دول كبرى تتولى تقديم كل أشكال الحماية والدعم لإسرائيل والمحافظة على وجودها.
والشرط الثاني هو: استمرار تدفق المهاجرين اليهود من العالم إلى إسرائيل لتعزيز قوتها البشرية مع كل توسع جغرافي في المشروع الصهيوني.
وإذا قمنا بدراسة الواقع الراهن لما تحقق من هذين الشرطين في هذه الأوقات فسنجد أن الولايات المتحدة لم يعد في مقدورها أن تضمن انتصار إسرائيل في أي حرب مقبلة تشنها تحت أي ظرف وهي التي لم تستطع تأمين انتصارها في حرب تموز 2006 ضد المقاومة اللبنانية حين كان الجيش الأميركي في ذلك الوقت يحيط من حدود العراق بحدود سورية وأصبح من الواضح أن الولايات المتحدة لم تستطع ضمان انتصار قواتها في أفغانستان ولا انتصارها في الحروب التي أشعلت نارها ضد اليمن من دون مشاركة أميركية مباشرة بقواتها.
وبالمقابل أصبحت قوات الاحتلال عاجزة عن ضمان انتصارها الميداني في أي حرب على أي جوار عربي من لبنان إلى سورية أو على قطاع غزة المحاصر منذ 14 سنة ولا يزيد عدد الفلسطينيين فيه على المليونين وهذا ما ولد عدداً من التساؤلات عند بعض المحللين في تل أبيب حول مدى قدرة جيش الاحتلال على السيطرة على ملايين من الفلسطينيين الذين ينتشرون بين المستوطنات والمدن من الشمال إلى الجنوب وحول مدى فعالية أسلحة الجيش الفتاكة المعدة لمحاربة جيوش عربية ضد هذه الملايين السبعة داخل حدود فلسطين وعلى حدود قطاع غزة الذي تتزايد فيه القدرات الصاروخية أمام أعين جيش الاحتلال المتردد في شن أي حرب برية على قطاع غزة.
وأمام هذه الحقيقة أصبح الشرط الثاني لضمان وجود مشروع الكيان الإسرائيلي وهو استمرار تدفق الهجرة لا يقدم أي قوة بشرية يتطلع إليها جيش الاحتلال لأن الهجرة يزداد انحسارها ويقل فيها عدد المهاجرين الشبان إلى أدنى حدود في حين يزداد بالمقابل عدد المستوطنين الذين يقومون بهجرة معاكسة يعودون بواسطتها إلى أوطانهم التي جيء بهم منها في أوروبا وفي الولايات المتحدة وكندا وروسيا بعد أن تأكد لهم عجز الجيش عن ضمان حمايتهم من مقاومة الشعب الفلسطيني التي لم توقفها اتفاقات أوسلو ومن مقاومة محور جبهة الشمال. ولذلك بدأت عبارات مثل «تآكل المشروع الصهيوني في فلسطين» يزداد تداولها بين مختلف مراكز الأبحاث الإسرائيلية والعالمية بل إن هذا المشروع لم يدفع سوى نسبة قليلة من ملايين اليهود الذين كانوا يعيشون في أميركا وأوروبا وغيرها من الدول إلى الهجرة إلى الكيان الإسرائيلي طوال 73 سنة وأصبح هؤلاء اليهود يرون مئات الآلاف من الإسرائيليين يعودون إلى أوطانهم بعد يأسهم من إمكانية نجاح هذه الدولة الصهيونية بل العنصرية الأخيرة في هذا العالم في حين يتطلع 14 مليوناً من الفلسطينيين في الداخل والخارج إلى استعادة حقوقهم التي اغتصبها اليهود الأوروبيون منذ أن صنعت بريطانيا المشروع الصهيوني لتجنيد القوة البشرية اليهودية الأوروبية لحماية مستعمراتها في الشرق الأوسط.
* كاتب وباحث فلسطيني مختص بالشؤون الإسرائيلية
الوطن