منذ ما قبل عملية طوفان الأقصى وعلى مدى عام كامل, واجهت الحكومة الإسرائيلية تظاهرات المطالبين بإستقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على خلفية التعديلات القضائية الإسرائيلية، وفي مرحلة ما بعد هجوم حماس في 7/تشرين الأول، تحول التظاهر للمطالبة بمحاسبته وسجنه, لكن انشغاله بتفيذ المخططات الأمريكية – الإسرائيلية – الغربية في غزة, والتي حلم بأنها ستحقق له أعظم الإنتصارات, وكذلك بالنسبة لشركائه الدوليين والإقليميين, أعمت بصره وبصيرته, وبات الكيان يواجه خطراً وجودياً حقيقياً, فكان رهانه على الهروب نحو الأمام, وإطالة أمد العدوان والمفاوضات, والقبول بتسجيل النقاط سواء في غزة, أو في جبهة الإسناد اللبنانية, كبديل عن تحقيقه الإنتصار, وبالتهديد بإرتكاب المجازر في رفح أيضاً, وبتوسيع نطاق الحرب على لبنان وسورية وإيران.
لكن حسابات الحقل لم تتوافق مع حسابات البيدر, وأتى حصاد 206 أيام من العدوان بنتائح عكسية لم يكن يتوقعها نتنياهو ومتطرفيه وداعمي كيانه, فالهزائم العسكرية التي تتكبدها قوات الإحتلال, تسببت بإرتباكه وقادة الكيان, وساكني البيت الأبيض والإليزيه ومقرات الناتو ومجلس الأمن, على وقع محاولات إخفاء هزائمه وإرتفاع أعداد جنوده القتلى والمصابين, والخلافات الكبيرة داخل الكابينت وغرف القيادة العسكرية والسياسية, وإرتفاع أصوات أهالي الأسرى, والسقوط المدوي للرواية الإسرائيلية حول العالم, وسط قوة وثبات المقاومة, وجبهات المساندة العسكرية والسياسية والإعلامية وبالحصار البحري للكيان لإجباره على وقف العدوان.
كان ولازال من المهم لنتياهو وبايدن استمرار العدوان, لرسم ملامح الحل والخروج من المأزق بما يحقق مصالحهما, فحل الدولتين الذي يرفضاه, بات يطرق بقوة على أبواب الحل, والإعتراف بالدولة الفلسطينية أصبح مخرجاً محتملاً ومطلباً عالمياً, لكن النقاط التي سجلها كل من نتنياهو وبايدن, جسدت البشاعة الكاملة وأظهرت الوجه الحقيقي للكيان الغاصب والولايات المتحدة الأمريكية, وكل من ساهم وساعد وعلق مصالحه على كيانٍ يشكل في حقيقته “قاعدة عسكرية إسرائيلية” لخدمة الغرب, فكانت المفاوضات بمثابة خشبة الخلاص, ومحاولة لتعويض الخسائر والهزائم العسكرية, وطريقة مميزة لشراء الوقت.
تعددت جولات التفاوض بالوساطات المصرية والقطرية والأمريكية, وتنقلت ساحاتها ما بين القاهرة وباريس والدوحة, لكنها لم تسفر عن أية نتائج توقف العدوان بشكل فوري ونهائي, ولم تسمح بإطلاق جميع الأسرى والمعتقلين, فالعدو يفاوض من أجل التفاوض, ولكسب الوقت, وما بين طرح الأفكار ونقلها, والرد عليها, والرد على الرد, تستمر المجازرالإسرائيلية بحق الفلسطينيين, ويستمر معها تلقي نتنياهو والأمريكيين الصفعات العسكرية نتيجة صمود وقوة ثبات المقاومة, والتفاف الأهالي حولها رغم الألم الكبير, وتتلخص كلمة السر ظاهرياً في رفض نتنياهو وعدم استعداده لتقديم التنازلات في ملف إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، الذي يعتبر بحسب صحيفة هاّرتس, أن موافقته على صفقة تتضمن وقفاً كاملاً لإطلاق النار, وانسحاب قواته من غزة “سيجبره على الإعتراف بإنتهاء الحرب دون تحقيق أياً من الأهداف الإسرائيلية”, وبالنسبة لنتنياهو هذا يشكل “هزيمة لتل أبيب أمام حماس”…
يبدو أن هاّرتس تروج لإتفاق – إنساني مرحلي, يتضمن إطلاق سراح النساء والمسنين والمرضى والجرحى لدى حماس, مقابل إطلاق سراح عدد من السجناء الفلسطينيين, دون إلتزام إسرائيلي بإنهاء الحرب, وعليه قامت قوات الإحتلال اليوم بقصف عدة مواقع في رفح, لإظهار جدية العدو في إجتياح رفح, في أقذر عملية ابتزاز – إنساني, لإبرام صفقة إنسانية.
إن استمرار حراك التفاوض السياسي على وقع استمرار العدوان, لا يبدو المتغير الوحيد, فنتنياهو يخشى صدور مذكرة المحكمة الجنائية الدولية بإعتقاله وعدد من المسؤولين والقادة الإسرائيليين, ويخشى المزيد من تصاعد غضب أهالي الأسرى الإسرائيليين, على وقع انكشاف الوجه الحقيقي الإجرمي للكيان المدوي الإسرائيلي حول العالم, واستمرار التظاهرات الطلابية في عشرات الجامعات الأميركية والأوروبية وحول العالم, وبإنضمام عدد كبير من الجامعات العربية, دعماً لفلسطين, وللوقف الفوري للإبادة الجماعية, وللعدوان الإسرائيلي, ولوقف تمويل وتسليح قوات الاحتلال الإسرائيلي, وكافة أشكال التعاون والتعامل معه والإستثمارات المرتبطة بالجامعات خصوصاً الأمريكية منها, في وقتٍ بدأت تعاني فيه إدارة الرئيس بايدن من وطأة الهزائم في عام انتخابي دقيق، في ظل استمرار دعمها حكومة وقوات الكيان الإسرائلي, بالتوازي مع توقيع بايدن قانون تمويل وتسليح “إسرائيل” بقيمة 26 مليار دولار.
لم تخف واشنطن خشيتها من توسع نطاق الحرب في المنطقة, ومن جنون نتنياهو ويأسه, ومحاولاته توريط واشنطن بمواجهاتٍ خطيرة مع إيران وفي الشرق الأوسط, ومياه البحر الأحمر والخليج وما هو ابعد من ذلك, الأمر الذي تدرك أنه مكلف للغاية, وسيطيح بوجود القوات الأمريكية في كامل المنطقة, لذلك قامت واشنطن بخطوة مفاجئة تمثلت بسحب قواتها وسفنها ومدمراتها وحاملات الطائرات من مياه البحر الأحمر، وبنقلها إلى البحر الأبيض المتوسط, في خطوة علقت عليها معاونة وزير الخارجية الأميركية باربرا ليف بأنها تأتي في سياق تواصل إدارة بايدن مع حركة أنصار الله, وبما يشي برغبة واشنطن تحييد الجبهة اليمنية, والتفرغ لجبهة الجنوب اللبناني, في وقتٍ أعلن فيه المتحدث بإسم الحركة بأن اليمن بصدد “إعادة ترتيب بنك أهدافه” بعد هذا الإنسحاب, بما ينسف كل تفسير أو تحليل وتوقع بخروج اليمن من معادلة ردع الجانبين الإسرائيلي والأمريكي, والمساندة القوية التي تقدمها الحركة والقوات اليمنية منذ بداية العدوان على غزة.
فجبهة الشمال, كانت ولا زالت تشكل مصدر الرعب الإسرائيلي, وما حققته المقاومة الإسلامية حتى اليوم من خلال المساندة, دون توسيع نطاق المواجهة وتحويلها إلى حرب مفتوحة, يؤكد علو كعبها وقدراتها حجم تأثيرها وكفائتها بإدارة يوميات المساندة والمواجهات, ولا تزال تثبت يوماً بعد يوم تفوقها التكتيكي والإستخباري والميداني, واستطاعت تنفيذ عمليات استهدفت المستوطنات ومواقع وتجمعات جيش الاحتلال وتدمير منشآته في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلة، وأبهرت العالم بعمليات الرد والردع والرصد والإستشعار والكمائن العسكرية, كما حصل في عكا وميرون ورويسات العلم, وبتحويل شمال فلسطين المحتلة إلى منطقة خالية من المستوطنين, وخالية من الرادارات وكاميرات الرصد والمراقبة الإسرائيلية, وحولت هذه المناطق الحيوية للعدو بثقلها الإقتصادي والسياحي والزراعي, إلى مناطق خارجة عن الخارطة الإسرائيلية.
إن الحديث عن القرار 1701, وزيارات الوسيط الأميركي أموس هوكشتاين على طرفي الحدود لم تسفر عن أي نتيجة, رغم حمله أفكار العدو الإسرائيلي, وإطلاعه على الأفكار اللبنانية لإيجاد الحلول ووقف إطلاق النار, الأمر الذي أثار مخاوف واشنطن من المواجهة المفتوحة, ودفعها لإرسال الفرنسي المختص باللعب في الوقت بدل الضائع, في محاولة لحلحلة ملف الرئاسة, من أجل تمثيل لبنان على طاولة المفاوضات, لتجنب التفاوض مع المقاومة منفردة, وللإستفادة أيضاً من عملائها في تركيبة السلطة والحكومة اللبنانية.
تبدو زيارة وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه إلى بيروت, استطلاعية أكثر منها بذات فعالية, وفرصة لتبادل الرسائل والأفكار, وتوضيب الأرضية المتشنجة والإنقسام الحاد حول إيجاد موقف موحد حول كيفية دعم المقاومة والقضية الفلسطينية في الأوساط السياسية الداخلية, والمخاوف الفرنسية – بحسب الوزير سيجورنيه من “توسع الصراع بين حزب الله و”إسرائيل”, وضرورة تطبيق القرار1701 بشكل كامل, ولم ينس سيجورنيه عرض المنشطات والمحفزات الفرنسية الواهية المتكررة, وبالحديث عن “دعم فرنسا لجهود اليونيفيل, والجيش اللبناني لإعادة إنتشاره في الجنوب, ودعم لبنان لإخراجه من أزماته الاقتصادية.
من المبكر الحديث عن تفاصيل بنود الورقة الفرنسية التي حملها الوزير الفرنسي, فدرجة تعقيد الملفات اللبنانية الداخلية أعمق من حلها على الطريقة الفرنسية, وخصوصاً التطبيق الكامل للقرار 1701, خصوصاً بعدما كرر رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري, على مسامع الوزير سيجورنيه بأن الحرب على الجبهة اللبنانية ستتوقف “عندما تقف الحرب على غزة”.
عبثاً تحاول الولايات المتحدة عزل حماس عن أهالي غزة, وبفصل جبهات المساندة اليمنية واللبنانية, وتحييدها عما يحصل في غزة, فالجبهة اللبنانية تقول “لن تتوقف الحرب قبل وقف العدوان على غزة”, وكذلك الجبهة اليمنية تقول “لن تُترك فلسطين وحيدة” …
* كاتب وخبير استراتيجي