من أعظم ما تميز به مستنهض الهمم الإمام الخيمنيُّ (قدس سره) هو كونُهُ يؤكدُ دائماً في فكره ومنهجه المُقاوم وحركته ونهضته السياسية على محورية “القضية الإسلامية واستحضارها على أرض الواقع سياسياً وعسكرياً واقتصادياً” فلم تكن نهضته وثوريته متعلقةً بشعب دون آخر، فلا يختص الخميني بإيران فقط بل هو مثال وقدوة ونبراس لكل الشعوب في العالم منذُ أن غادر إيران منفياً حتى رجوعه فاتحاً منتصراً يجرُّ معه خيوط الفجر بعد أن بانَ الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود، فالفرق بين منهج الإمام(قدس سره) وبين أعدائه هو المقاومةُ “العقائدية” التي فيها يستعد الشباب والنساء والكبار والصغار والأطفال من أجل وهب دمهم في سبيل الأرض وتحريرها من براثن الاحتلال ولا تهدأ عزيمتهم أبداً لأنهم يحاربون لهدف سماويٍّ للكرامة والعز ويدركون أنهم موعودون بالنصر حتماً أما أعداؤهم فجبناء ليس عندهم ما يقاتلون لأجله وهم مغتصبون معتدون طماعون يرغبون في المال والأرض ولا يرغبون بالموت لذلك الفشل الذريع كان حليفهم أمام البسطاء ذوي الإرادة الحُرة القوية.
فكل انتصارٍ تحقق للشعوب الإسلامية العربية والمستضعفة في كل أرجاء المنطقة كان لبصمة الخميني فيه أثرٌ واضح منذ صمود وشموخ سورية وصمود البحرين بوجه قوات درع الجزيرة وصمود اليمن بوجه تحالف العدوان وصمود لبنان وفلسطين وتحرير العراق من داعش وعدم خضوع الجمهورية الإسلامية لرغبة الاستكبار العالمي كله الفضل فيه بعد الله لعالمٍ ربانيٍّ غيَّرَ وجهَ العالمِ بإخلاصِهِ وقلبِهِ الذي يسكنُهُ الله عز وجل وحبُّ الإسلام والسعي لإعلاء كلمة الحق، فنقول كما قال الشهيد الصدر (قدس سره): (ذوبوا في حب الخميني كما ذاب هو في الإسلام).
وأحد القواعد الفقهية التي يستند عليها الإمام هي “قاعدة نفي السبيل” فيذهب إلى أنّ هذا التأكيد على علوّ الإسلام والمسلمين للحثّ على الخروج عن سلطة الكفار بأي وسيلة متاحة، و عدم الخضوع إليهم و تسليمهم مقاليد الأمور فقال في بحوثه: (بل يمكن أن يكون له وجه سياسي، هو عطف نظر المسلمين إلى لزوم الخروج عن سلطة الكفار بأية وسيلة ممكنة; فإن تسلطهم عليهم وعلى بلادهم ليس من الله تعالى; فإنه لن يجعل للكافرين عليهم سبيلاً وسلطةً، لئلا يقولوا: «إن ذلك التسلط كان بتقدير من الله وقضائه، ولا بد من التسليم له والرضا به» فإنه تسليم للذل والظلم، وأبى الله تعالى ذلك; فإن (العزة لله ولرسوله وللمؤمنين).
وتعتبر قاعدة نفي السبيل إحدى القواعد المهمّة والفاعلة في البعد الخارجي من الفقه السياسي. وتتجلى أهمية القاعدة في الوقت الراهن الذي تزعم فيه الولايات المتحدة الأمريكية ريادة العالم والهيمنة عليه بأسره تحت اسم النظام العالمي الجديد. من أهمّ المعطيات اليوم لهذه القاعدة هي حركية الفقه السياسي على ضوئِها، فممّا لا شكّ فيه أنّ الدول الأجنبية والمستعمرة تبسط نفوذها اليوم على البلدان الإسلامية بمختلف أساليب الاستعمار القديم والجديد منه. وتعتبر قاعدة نفي السبيل واحدة من أفضل الطرق التي يمكن الخروج من خلالها من هذا الوضع المزري للاُمّة الإسلامية، لأنّها تفيد حرمة كل هيمنة وسلطة للأجنبي ولزوم المقاومة لذلك والمواجهة معه. وعلى ضوء ذلك تحرم الكثير من الممارسات والعلاقات بين الدول أو الشعوب الإسلامية والدول الغربية أو الشرقية في المجالات الثقافية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. ومن مصاديق ذلك بيع النفط وشراء البضائع المنافية للدين أو المؤدية إلى تقوية الأجنبي والسماح بإقامة القواعد العسكرية واظهار المودة لسفرائهم ورجال السياسة منهم وتقليدهم في الزي وما شاكل من مظاهر الحياة.
قد ذكرَ الإمام الخميني (قدس سره) عدة مسائل إشارةً إلى تطبيقات القاعدة في أبواب فقهية مختلفة منها:-
مسألة1: لو خيف على حوزة الاسلام من الاستيلاء السياسي، والاقتصادي المنجر إلى أسرهم السياسي والاقتصادي ووهن الاسلام والمسلمين وضعفهم يجب الدفاع بالوسائل المشابهة والمقاومات المنفية، كترك شراء أمتعتهم، وترك استعمالها، وترك المراودة والمعاملة معهم مطلقاً.
مسألة2: لو كانت الروابط السياسية بين الدول الاسلامية والأجانب موجبة لاستيلائهم على بلادهم أو نفوسهم أو أموالهم أو موجبة لأسرهم السياسي يحرم على رؤساء الدول تلك الروابط والمناسبات، وبطلت عقودها، ويجب على المسلمين إرشادهم والزامهم على تركها ولو بالمقاومات المنفية.
مسألة3: لو أوقع واحد من الدول الاسلامية عقد رابطة مخالفة لمصلحة الاسلام والمسلمين يجب على سائر الدول الجسد على حل عقدها بوسائل سياسية أو اقتصادية كقطع الروابط السياسية والتجارية معه، ويجب على سائر المسلمين الاهتمام بذلك بما يمكنهم من المقاومات المنفية، وأمثال تلك العقود محرمة باطلة في شرع الاسلام.
والدليل على عدم جواز تلك المراودات و بطلان المعاملات هو قاعدة نفي السبيل، و أيضاً لا يجوز استخدام الكفّار لإدارة بعض مرافق الدولة التب تمارس رقابةً و إشرافاً على المسلمين، مثل القضاء و الرتب العسكرية؛ لقاعدة نفي السبيل.
يعتبر موقف الإمام الخميني من قانون (كابيتولاسين) أحد تطبيقات القاعدة أيضاً،
ويقصد بهذا القانون امتياز الحصانة القضائية، و يتضمن أنواعاً من الحصانات الممنوحة لهذا الجيش الكبير من الرعايا الأميركيين مثل:
1-أنهم مصانون من التوقيف و الاحتجاز، فلا يحق لأحد اعتقالهم مهما كانت الأسباب.
2-تجب معاملتهم بلطف ولا تمسّ حرياتهم وكرامتهم، وقد خصصت الحكومة الإيرانية عدداً كبيراً من قوات الشرطة لحراسة منازلهم و ممتلكاتهم كما تحرس السفارات الأجنبية.
3-إنهم مصانون من إجراءات الدعاوى المدنية، كما يتم إيقاف جميع الدعاوى و الأحكام الصادرة بحقهم.
4-الإعفاء من دفع الضرائب، خاصة في عمليات التصدير و الاستيراد، فلا يدفعون رسوم الگمارگ.
فساد الاعتراض و الرفض في الأوساط الشعبية والدينية التي رأت فيه إذلالاً للمسلمين و إهانة لهم، فألقى الإمام الخميني (قدس سره) خطاباً في 26 تشرين الأول عام 1964م، ندد فيه بالقانون، كاشفاً عن الثغرات التي تضمنها فجاء فيه:(…لقد باعونا، باعوا استقلالنا وراحوا يحتفلون وينشرون معالم الزينة والفرح، لقد سحقونا بأقدامهم…لقد داسوا على كراماتنا و عزتنا…لقد قدموا قانوناً إلى المجلس، ألحقونا بموجبه، أولاً: بمعاهدة ڤيينا، و منحوا الحصانة القضائية ثانياً لجميع المستشارين العسكريين الأميركيين…).
ومن بركاتِ منهج الإمام الذي تمسكنا به هو تأسيسُهُ ليوم القدس العالميّ والذي ببركات هذا الرجل المتحقق بحقيقة العبودية لله صارت المُظاهرات المؤيدة للقدس والمناهضة للصهيونية والاحتلال غير مُقتصرة على العربِ فقط ولا على المُسلمين بل يُشاركُ
فيها شتى الناس -ومنهم اليهود الأرثوذكس المعادون للصهيونية-، وانتصرَ فكرُ الإمام الخميني ومنهجه بعد سنواتٍ حين انتقلَت فلسطين بفضل الترسانة العسكرية للجمهورية لأول مرة من الحجارة إلى الصواريخ وانتصار غزة ليس عنا ببعيد، هذا ونذكر قول متمّم نهج الإمام السيّد علي الخامنئي (دام ظله) : (من أعظم مسؤوليات الإنسان حيثما وجد معرفة حدوده القانونية وعدم تجاوزها، وتجاوز الحدود ما هو إلا عبارة عن الاستبداد والاستكبار بما ينطويان عليه من مفهوم قبيح ومشين؛ وأعظم خطر يحيق بالإنسان هو أن يستحوذ عليه الاستبداد والاستكبار، وهذا وبال ربما يصاب به الجميع أيضاً ).
ويقول أيضاً : (الاستكبار العالمي يشمل جميع القوى المتغطرسة والمتجبّرة في العالم، وجميع الوجوها الوقحة المتسلطة على الشعوب).فنقاوم ونسير على درب الخُميني لأننا أخذنا العِبرة من بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون تحت سيطرة الطاغوت سياسياً وثقافياً، وكانت علاقاتهم الاقتصادية ببعضهم مبنيّةً و قائمةً حسب تلك السيطرة، وقام النبي موسى (عليه السلام ) والمؤمنون من أصحابه بتفجير ثلاث حركات متتالية لإنقاذ قومه من السيطرة- السياسية، فالثقافية، فالاقتصادية-، ويبدو أن هذه المرحلة هي مرحلة الثقافة التي تحمل في طياتها تصفية آثار السيطرة السياسية أيضاً.
إنَّ قوم نبيّ الله موسى (عليه السلام) عاشوا ردحاً طويلًا من الزمن وهم يعانون الذل والخضوع والاستسلام للآخرين، وكانت السياسة الطاغوتية لفرعون هي ما فرضت عليهم تلك الحالة، ولكنهم على أيِّ حالٍ تأثروا بها نفسياً، فحين أنقذهم الله غيبياً بقيت آثار تلك السيطرة عالقةً بنفوسهم، ولم يقدروا على ممارسة حريتهم والحضور في ساحات الحياة، واتخاذ القرارات المناسبة فيها اعتماداً على أنفسهم، لذلك حنّوا إلى حالتهم السابقة فطالبوا موسى (عليه السلام) بإله- كما لهم آلهة- والإله هو السلطان الاجتماعي والسياسي والثقافي، ورمز هذا الإله هو الصنم، وبنو إسرائيل في هذه الصفة كانوا تماماً مثل الشعوب التي تتحرر من الاستعمار السياسي، ولكنها تقلد الغرب أو الشرق في أنظمتها وثقافتها، وكأنها تخرج من الاستعمار القسري وتعود إلى الاستعمار اختيارياً، وذلك لاستمرار قابلية الاستعمار في أنفسهم.أما كيفيّة تعامل النبي (عليه السلام) معهم فإنّه قد شرح لقومه و بيّن لهم أنّ العمل الذي يقوم به الإنسان في إطار النظام الفاسد هو عمل باطل، وينتهي إلى الدمار حتى ولو كان ظاهر العمل حسناً، مثلًا: ظاهر البناء أنه عمل جيد، ولكن إذا كان المهندسون والبناؤون ومصانع الحديد ومعامل الإسمنت كلها تعمل من أجل بناء معتقل أو قاعدة صاروخية تقذف المستضعفين فإن هذا العمل تخريب وليس بناءً، كذلك كل عمل لا يكون ضمن إطار صالح أو هدف مقدس فانه باطل لذلك قال موسى (عليه السلام) لقومه :- (إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
كلما خضعنا للاستكبار أكثر كلما ساهمنا في جرائمه أكثر، لأنّ الضحية التي تسكت على الجرم تساهم في الجريمة من حيث تشعر أو لا تشعر، والشعب الذي يسكت وهو يرى الظالمين يمارسون الفساد و الخراب في أرضه فإنه يشاركهم في جريمتهم.
ومن الأمم التي أُبيدَت شرَّ إبادة، ودُمّرَت شرَّ تدمير، وضرب الله تعالى بها مثلاً هي أمة ثمود؛ أي قوم صالح، فالقرآن الكريم يذكرنا بهذه الأمة وسوء مصيرها، وكيف ينبغي لنا ان نتجنب هذا المصير؟!.
والسبب الذي أدّى إلى نزول العذاب الإلهي القاصم والمدمر على هذه الأمة، هو أنَّ رجلًا واحداً منها وصفه القرآن الكريم بأنّه (الأشقى-إذ انبعث أشقاها-) عمد إلى قتل الناقة التي جعلها الله لهم آية، فكانت النتيجة ان دمرت أمة ثمود كلها باستثناء ثلة من المؤمنين المتّقين الذين امتثلوا للأوامر الإلهية، فيقول تعالى : (فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها) و لا يخفى أن الذي باشر عقر الناقة هو واحد فما علّة التحدث بصيغة الجمع وشمول كل أهل القرية ب(واو الجماعة)؟ ذلك لأن الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم، و على كلِّ داخلٍ في باطلٍ إثمان: إثم العمل به، و إثم الرضى به، وبناءً على ذلك فإنَّ الأممَ التي تلوذ بالصمت فإنها تنتحر في الحقيقة، وهذا يعني أن الانتحار قد يكون فردياً، ولكن الانتحار الجماعي أعظم وأشد هولاً.
كاتبة عراقية