بقلم المهندس: ميشيل كلاغاصي |
على الرغم من تجاهل غالبية دول العالم وخصوصا ً تلك التي تعاقبت وتربعت على عرش القوة والنفوذ العالمي وساهمت بصناعة وزراعة ودعم الكيان الصهيوني شوكةً وكيانا ًسرطانيا ًفي خاصرة الوطن العربي، على أساس إحتلال الأرض العربية وتهجير سكانها الأصليين، إلتزاما ًمنها بتحقيق الوعد البريطاني المشؤوم بإقامة وتأسيس وطنٍ قومي لليهود على الأراضي الفلسطينية، والذي تطور لاحقا ً إلى توسيع دائرة العدوان وإحتلال المزيد من الأراضي العربية.
وبالعودة إلى البدايات ومع انعقاد مؤتمر بال عام 1897 بدأت القضية الفلسطينية تتصدر القلق العربي، وبدأت معها أعمال المقاومة، وتنوعت مظاهرها وأساليبها عبر العقود والمراحل المختلفة، فإختص بعضها بالمقاومة العسكرية المسلحة، في حين اهتم بعضها الآخر بالجوانب السياسية والإقتصادية والثقافية والإعلامية، وكان لا بد من حشد الدعم والتأييد وكل ما من شأنه السعي لتحرير الأرض ولإستعادة حقوق الشعب الفلسطيني.
وقد عانت المقاومة عبر أكثر من مائة عام, من النكسات والإخفاقات, وغياب الإنجازات, نتيجة غياب الرؤى الاستراتيجية, وعدم تنظيم الصفوف, بالإضافة إلى الإنقسام ما بين مؤيدي العمل العسكري المقاوم, ومن يسعون وراء الحل السياسي, والإعتماد على بعض القوى التي أقصت نفسها عن الصراع, ناهيك عن تخاذل بعض الحكام العرب والتحاقهم بركب العدو الإسرائيلي ومشروعه ومخططاته … أمورٌ كثيرة أدت بمجملها إلى تصدع وشرخ في الإرادة السياسية العربية الضرورية لتحرير فلسطين, إذ يقول الوزير القطري الأسبق “حمد بن جاسم” صراحةً :” الإمكانات متوفرة, لكن الإرادة العربية غير متوفرة”.
لكن المقاومة المسلحة، استطاعت رفع جهوزيتها وكفائتها، وزيادة تسليحها كما ًونوعا ً، واستطاعت أن تحقق مستوى عالٍ من الردع وتمكنت من تغيير معادلات الإشتباك، وفرضت على العدو الإسرائيلي أن يحسب ألف حساب قبل أن يفكر بإجتياحٍ أو عدوانٍ جديد، خصوصا ًبعدما بدأت المقاومة تحقق الإنتصارات والإنجازات، على كافة الجبهات في غزة وجنوب لبنان وفي سورية على الرغم من الحرب الكونية عليها.
هذا كله يؤكد صوابية خيار العمل المقاوم، الذي استطاع تكريس واقعٍ جديد وإحياء الأمل بالتحرير … ولكن يبقى السؤال، إلى متى يستمر التعويل على سواعد المقاومين والتركيز على العمل العسكري المقاوم فقط، على حساب باقي عناصر المقاومة والمواجهة، والتي يمكن زجها في المعركة كعوامل مكملة وهامة… طالما تتوفر الخامات والخبرات والمثقفين والعقول النيرة.
وبغياب التوافق وفي ظل أجواء الإنقسام والتخاذل، يتوجب على مؤيدي المقاومة ومناصريها وداعميها، أخذ المبادرة وحمل كافة الأعباء وتعويض نقص الطاقات والمقدرات العربية الشاملة، والسعي نحو تكامل العمل المقاوم … ومع غياب الإستراتيجية والرؤى الشاملة، يمكن الإعتماد على رصد العوامل التي يخشاها العدو الإسرائيلي ويحاول تفاديها أو تخفيف اّثارها، ويمكن الإستدلال عليها من خلال ردود أفعاله وسلوكه تجاهها، داخل الأراضي المحتلة وخارجها وفي بلاد مصنعيه وداعميه، ويمكننا رصد الأمور التالية:
1-مخاوفه من تصاعد المقاومة السلمية في الداخل والخارج، بدليل ردوده العنيفة والدموية تجاه مسيرات العودة.
2-خشيته من تعرضه للإنتقاد حيال عنصريته وخاصة ًمن قبل الدول والشعوب والمنظمات والهيئات والأفراد من غير الفلسطينيين.
3-خشيته من حركة المقاطعة بدليل إهتمامه بكافة أشكال التطبيع المجاني مع الدول العربية على حساب إهتمامه بالسلام العادل وفق القرارات الدولية.
4-خشيته من تغير المزاج الدولي نتيجة تزايد وعي الشعوب، وإنكشاف حقيقة “الدولة” العنصرية، المحتلة -الغاصبة، وحقيقة وحشيتها وتماديها في قتل الشعب الفلسطيني، وإنهيار إكذوبة “الدولة الديمقراطية” التي يحاصرها التخلف والإرهاب الفلسطيني -العربي.
5-خشيته من بدء ظهور تغيرات واضحة في ذهنية جزء من الشعب الأمريكي -الداعم الأول لبقائه والضامن لتفوقه العسكري والسياسي والإقتصادي والمالي.
6-تراجع قوة ونفوذ اللوبي الصهيوني، مقارنة ً باللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأمريكية
فبحسب بعض الإحصاءات الأمريكية تبين أن 36% من اليهود الأمريكيين لا يؤيدون ما تفعله “إسرائيل”، وانهم يلحظون الضرر والأثر السلبي الذي يتسبب به اللوبي الإسرائيلي -المكون من يهود ومسيحيين متصهينين-على السياسة الخارجية الأمريكية، خصوصا ًما يتعلق بالشرق الأوسط، بإعتبارهم يجتمعون على خدمة ثلاثة أهداف رئيسية: أ-استمرار التأييد الأمريكي ل “إسرائيل” مهما ارتكبت من جرائم، ب-استمرار تدفق المساعدات المالية الأمريكية، ج-سيطرة المنطق الإسرائيلي الواحد، أو الجانب الأوحد للرواية أو الأكذوبة الإسرائيلية…. والذي استطاع زرع أكاذيبه في العقول الأمريكية، وبالتالي أخذوا ينظرون إلى “إسرائيل” على أنها حليف استراتيجي، وأنه من خلال الدافع والمبرر الأخلاقي يتوجب عليهم الوقوف معها ومساندتها، وذلك لتشابه تاريخها مع التاريخ الأمريكي من حيث الإضطهاد الديني وبناء الدولة الديمقراطية.
شيءٌ ما يتغير في أمريكا …
لكن تلك الأكاذيب بدأت بالسقوط شيئا ً فشيئا ً، خصوصا ًمع ما تنقله وسائل الإعلام من صورٍ حقيقية ومعاكسة، تُظهر مدى وحشية الممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ومع تزايد الإحتكاك المباشر للشباب الأمريكي بالشباب الفلسطيني في الجامعات الأمريكية، الذي بدأ يؤثر إيجابا ًعلى إفتضاح أمر الأكاذيب الإسرائيلية … بالإضافة إلى المحاضرات والمنشورات والكتب التي تصل إلى متناول الشباب الأمريكي، كما حصل في الكتاب الذي ألفه الأستاذين الجامعيين “جو ميرشايمر” و”ستيفن والت”، تحت عنوان:
أولا ً-كتاب “اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية“، الذي رفضت جهات عديدة نشره، لكن مؤلفيه تمكنوا من نشره على موقع جامعة هارفرد، ثم نُشر في مجلة بريطانية، وفي النهاية تمكنوا من نشره.
فقد تحدث الكتاب عن قوة اللوبي الإسرائيلي وقدرته على جمع الأموال واستخدامها في الإنتخابات الأمريكية، وبقدرته على ترويج الرواية الإسرائيلية للصراع العربي، الفلسطيني – الإسرائيلي، وأنها ليست حليفا ً استراتيجيا ً، وأن كراهية العرب لأمريكا ناجمة عن وقوفها الأعمى الى جانب “إسرائيل”، مما تسبب بزيادة حدة ووتيرة العنف، ودفع إيران وسورية للسعي لإمتلاك الأسلحة.
ودحض الكتاب ما دعي بالمبرر الأخلاقي وأثبت بطلانه، وركز على معاملة سلطة الكيان الإسرائيلي السيئة للفلسطينيين والتي تخالف كل الأعراف والقوانين والأخلاق وحتى تعاليم الدين المسيحي، وذهب الكتاب لإعتبار ان الموقف الأخلاقي يفرض الوقوف مع الفلسطينيين لا ضدهم… وأكد على ضرورة معاملة إسرائيل كأي دولة عادية، ودعا لعدم التدخل بالشأن السوري وبتغيير نظام حكمه، بل يجب مساعدة السوريين على استعادة الجولان بما يضمن قبولهم توقيع اتفاقية سلام… كما أيد الكتاب حل الدولتين، والإعتراف ب “دولة إسرائيل”، وبالتهجير الفلسطيني وبحق العودة، وأكد أن حل الدولة الواحدة سيجعل إسرائيل تفقد هويتها اليهودية… إن محاولة منع صدور الكتاب, أعطت نتيجة عكسية ساهمت بإنتشاره.
ثانيا ً – إن ظهور منظمات يهودية أمريكية مؤيدة للقضية الفلسطينية، والتي توجه اللوم والإنتقاد ل “إسرائيل”، بدأ يرخى بظلاله في الأوساط الشبابية والجامعية الأمريكية وحيث يتواجد الكثير من الشباب العربي والفلسطيني، الأمر الذي ساهم بدحض أكاذيب اللوبي الإسرائيلي صاحب الرواية الواحدة.
ثالثا ً – ظهور منظمات وتكتلات داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي، والتي بدأت تُظهر تمايزا ًعن السلوك المتبع عادة ً، والذي انعكس برفض ستة من المرشحين للرئاسة الأمريكية لعام 2020, والذين رفضوا الظهور على منبر الإيباك, بما يؤكد عدم اكتراثهم ورفضهم لدعم اللوبي الإسرائيلي.
رابعا ً – التأثير الكبير لحركة المقاطعة الإسرائيلية (BDS) والتي يعتبرها اللوبي الإسرائيلي أهم ما يهدد الدولة الإسرائيلية، مقارنة بالجيوش والمقاومات العربية والصواريخ الإيرانية، إذ يخشون خطاب هذه الحركة التي تطالب بحقوق المساواة للفلسطينيين، الأمر الذي لا يمكن لأمريكي أو أوروبي رفضه، مع إدعاءاتهم وإيمانهم بالعدالة وبتساوي الفرص.
خامسا ً – تصدع محاولات اللوبي الإسرائيلي أمام تصاعد حركة المقاطعة الإسرائيلية، وقضية “بهية أموي”
وهي تلك المدرسة الأمريكية من أصولٍ فلسطينية، في إحدى المدارس بولاية تكساس، والتي حاولت تجديد عقدها، فطُلب منها التوقيع على تعهد بعدم مقاطعة “إسرائيل”، وتسبب رفضها بطردها، لكن القاضي الفيدرالي “روبرت بيتمان” اعتبر أن الأمر “مخالف للتعديل الأول في الدستور الأمريكي الذي يكفل حرية الرأي والتعبير”، وبذلك تكون ولاية تكساس قد التحقت بولايتي كنساس وأريزونا، حيث تم إلغاء القوانين التي تلزم المتعاقدين والأفراد التوقيع والإلتزام بعدم مقاطعة الشركات والمنتجات الإسرائيلية.
سادسا ً – اتهام “مارك لامونت هيل” بمعاداة السامية ومحاولة إسكاته
لم يعد الحديث في الأوساط والمنابر الأمريكية عن القضية الفلسطينية يقتصر على الفلسطينيين أو العرب فقط, ومع تاّكل الرواية الإسرائيلية وإنكشافها, فقد تحدث “مارك لامونت هيل”, وهو الإعلامي والأستاذ الجامعي الأسود من أصولٍ أفريقية, في إحدى جامعات بنسلفانيا, وفي محاضرةٍ ألقاها بمناسبة اليوم العالمي لمساندة الشعب الفلسطيني, تحدث عن حقوق الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم, وختم محاضرته بالقول: “يجب أن تكون فلسطين حرة من النهر إلى البحر”, وفي الحال بدأ الهجوم الصهيوني عليه, ووجهت له تهمة معاداة السامية, وسارعت ال CNNلطرده من عمله لديها, فيما تتالت محاولات الهيئة الإدارية للجامعة معاقبته بشكل مخالف للدستور الأمريكي, إذ اعتبرت الحركة الصهيونية أنه تجاوز الخطوط الحمراء, وتحدث عمّا لا يحق له الحديث عنه, وبشكل يعاكس تماما ً الرواية الصهيونية, واستشعرت خطورة كلامه كأفريقي خصوصا ً وأنه قام بربط الصراع الشرعي الذي يخوضه الأفارقة الأمريكان لنيل حقوقهم, بصراعٍ شرعيٍ اّخر يخوضه الفلسطينيون والمقاومة الفلسطينية ضد العدو الإسرائيلي لأسبابٍ مشابهة, وتحدث عن مستقبل الفلسطينيين ومستقبل دولتهم, ووصف ما راّه بأم عينه أثناء زيارته مدينة رام الله, وكيف يخضع الفلسطينيون إلى التفتيش على الحواجز الإسرائيلية, وكيف تقيّد سلطات الإحتلال حركتهم في إنتقالهم من مكان لاّخر داخل وطنهم … لقد أثار الغضب الصهيوني وهو يتطرق إلى القضية الفلسطينية بعيدا ًعن الرواية الصهيونية, ولكونه ليس فلسطينيا ً, الأمر الذي يسمح له بحصد تأييد أقرانه من الأمريكان السود والأفارقة, فإستحق بنظرهم العقاب والمضايقة ومحاولات إسكاته, ليكون عبرة ً لغيره… لكن النتائج العكسية ظهرت على الفور في الإعلام والشارع الأمريكي الذي تعاطف معه ومع الطرح الذي تناوله والمتعلق بالقضية الفلسطينية, وزاد من تعرية سلطات الإحتلال وإغتصابها وتعديها على الحقوق والأراضي الفلسطينية.
مما سبق يتأكد لنا أن شيئا ًما يتغير في أمريكا, وقد يراّه البعض شيئا ً قليلا ً, ولكن أن يزداد عدد المتعاطفين مع الحقوق الفلسطينية في المعقل الأمريكي, والذي لا بد وأن ينسحب على أماكن أخرى في أوروبا والعالم, لن يكون شيئا ً قليلا ً, فالرواية الصهيونية تتاّكل, ويتضاعف يوما ًبعد يوم عدد الذين باتوا يدركون الحقيقة, وبدأت تتساقط الأقنعة الصهيونية وإدعاءاتها الكاذبة حيال الديمقراطية, ومخاوفها من نوايا المقاومين لرميها في البحر, في حين أنها هي المغتصب والمعتدي, والتي تمارس أبشع سياسات التهجير والعدوان والقتل والقمع وسرقة الأوطان … وهذا بإعتقادي يشكل بداية تحول جدي وهام ويصب في صالح المقاومة التي تحسن القبض على سلاحها, وتنتظر من أبنائها ومؤيديها والمتعاطفين معها حول العالم العمل على كافة وسائل الضغط وتحويلها إلى أسلحةٍ تُضاف إلى أسلحة المقاومين في الميدان, تكريسا ً للقاعدة الذهبية “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا ّ بالقوة”.