لم يكن وصف المؤرخ اليوناني الإغريقي «هيرودوت» لمصر بأنها «هبة النيل» وصفًا عشوائيًا، بل إنه الوصف الحقيقي والواقعي للدولة المصرية، باعتباره أحد أبرز وأهم المقومات والركائز التي قامت عليها الحضارة المصرية، وأحد ركائز الامن القومي للدولة المصرية الحديثة. فلقد اعتاد الشعب المصري على وجود النيل وحقه فيه كأمر مُسلَّم به وثابت من الثوابت التي لا يمكن التفكير حتى بعدم وجوده، وهو الأمر الذي يفسر أسباب اهتمام وتفاعل الشارع المصري في هذا الأمر، فهو يشكل مسألة حياة أو موت لاستمرار الدولة المصرية وحياة شعبها. لذا لم يعكر صفو المصريين في هذا الشأن سوى ظهور سد النهضة.
ويعود مشروع سد النهضة إلى عام 1926، ولم يكن محل إشكال لدول المصب، إلا مع ظهور الشحّ المائي. وتعود الأصول التاريخية لفكرة سد النهضة إلى أربعينيات القرن العشرين، عندما حدد مكتب الاستصلاح الأمريكي 26 موقعًا لإقامة سدود في إثيوبيا، على رأسها أربعة سدود على النيل الأزرق، كان ضمنها سد النهضة الحالي، ثم عاود الأمريكيون الاهتمام بسدود النيل الأزرق في عام 1964، ليصل عددها إلى أربعة وثلاثين سدًا على ذلك النهر وحده، وذكر حينها بعض الخبراء أن ذلك جار ردًا على إنشاء الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر»، للسد العالي بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي آنذاك.
أسباب مخاوف مصر من «سد النهضة»
يُعتبر الشح والفقر المائي لمصر هو أحد أبرز العوامل وراء تخوفها من إنشاء السد، إذ تنخفض حصة الفرد من المياه فيها تحت المعدل المُعتمد دوليًا للندرة المائية البالغ حوالي ألف متر مكعب للفرد سنويًا، فضلًا عن وجود تقديرات تشير إلى احتمال وقوع مصر تحت عجز مائي يبلغ اثنين وثلاثين مليار متر مكعب في عام 2025.
وتكمن مخاوف مصر –بالتحديد-من وجود هذا السد، الى عدم التنسيق معها، وعدم تطبيق الاتفاقيات المعترف بها، الى جانب عدة أسباب، منها:
- تهدف السدود الإثيوبية الأربعة المقترحة على النيل الأزرق إلى التحكم الكامل في مياه النيل الأزرق، وهو الرافد الرئيس لمياه النيل، وبالتالي؛ التحكم في حصة مصر المائية وإلغاء –أو تقزيم- دور السد العالي في تأمين مستقبل مصر المائي.
- سيكون لسد النهضة وحده بتصميمه الحالي بسعة 74 مليار متر مكعب، آثار سلبية عنيفة على حصة مصر المائية، وعلى إنتاج الكهرباء من السد العالي، وخزان أسوان، وذلك أثناء فترات ملء الخزان، وتشغيله، وتزداد حدة هذه الآثار السلبية خلال فترات الجفاف.
- المتابع الجيد لأزمة سد النهضة سيجد أن الهدف الرئيسي الذي تسعى مصر إلى تحقيقه في المفاوضات مع إثيوبيا هو توقيع “اتفاق قانوني ملزم” حفاظاً على حصة مصر المائية من نهر النيل، وهو ما يمكن أن نسميه الهدف الإستراتيجي، ليس فقط في المفاوضات مع إثيوبيا، بل وأيضا في بناء سياساتها مستقبلاً مع دول حوض النيل.
- هناك تخوفات مصرية –بشكل رئيسي- من إكانية بناء سدود أخرى في المستقبل، قد تؤثر بشكل مباشر على مصر.
- ترفض إثيوبيا حتى الآن توقيع اتفاق قانوني ومُلزم، وهو الأمر الذي سيشجع دول حوض النيل الموقعة على على بناء سدود أخرى في المستقبل.
- الخسائر التي ستلحق بمصر والسودان، في ظل وجود السد، ولعل أبرز تلك الخسائر، هي:
- فقدان مصر والسودان لكمية مياه تتراوح ما بين 14 و24 مليار متر مكعب، حسب سعة التخزين الميت للسد، وإن كانت مصر ستفقد ثلاثة أمثال ما سيفقده السودان، وفقًا لحصصهما في اتفاقية 1959
- فقدان مصر والسودان للمياه المتسربة عبر صخور الخزان، والتي لم تُقدر كمياتها بعد
- ارتفاع خسائر تبخر المياه بنسبة 5,9%؛ ما سيزيد فاقد المياه وملوحتها
- انخفاض سرعة تدفق المياه؛ ما سيزيد معدلات الترسيب بها
- احتمالية توقف زراعة 29,47% و23,03% من الأراضي الزراعية بصعيد ودلتا مصر على التوالي
- انخفاض مساحات الأراضي المزروعة بالري الغمري والحوضي في مصر والسودان
- فقد السودان –بشكل خاص- وارد الطمي السنوي الذي يخصب أراضيه الزراعية حول النيل الأزرق
- انخفاض منسوب بحيرة ناصر بحوالي عشرة أمتار؛ وهو الأمر الذي سيؤثر على معدلات توليد الطاقة الكهربائية من السد العالي، وقد يصل الانخفاض إلى ما يتراوح بين 20 و40% منها
- تأثر السودان بالموجات الزلزالية المُحتملة بسبب كميات المياه الكبيرة التي سيخزنها سد النهضة قرب حدوده الجنوبية، والتي ستبلغ مع وزن السد ما يقرب من 150 مليار طن
- في حالة انهيار السد، يتوقع بعض الخبراء بسبب الطبيعة الجيولوجية للأراضي الإثيوبية، فستغرق المدن السودانية بفيضان هائل من مياهه المُخزنة، بما فيها منطقة الجزيرة والعاصمة الخرطوم ومعظم الأراضي المصرية
الحدث الأخير قبل ملء السد
كشف خبراء عن بدء أعمال خرسانية بـ«سد النهضة» الإثيوبي، وذلك قبيل الملء الثالث، أكد خبير الموارد المائية المصري «عباس شراقي»، أن هناك أنباء عن بدء أعمال خرسانية أعلى جسم «سد النهضة» خاصة في الجانب الغربي، مُشيرًا إلى عدم وجود بيانات تفصيلية مؤكدة عن مدى التقدم في أعمال البناء.
مُوضحًا عبر حسابه بـ«فيسبوك» أنه طبقًا للأقمار الصناعية، فإن المخزون الحالي للسد يبلغ حوالي 7 مليارات متر مكعب عند منسوب 575 مترًا فوق سطح البحر، بانخفاض مليار متر مكعب واحد منذ فتح بوابة التصريف في 12 آذار/مارس الماضي، وثلاثة مليارات متر مكعب من أعلى منسوب عند نهاية الفيضان في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، الذي وصل إلى 580 مترًا، ثم استقر بعد انتهاء الفيضان عند منسوب 576 بمقدار 8 مليارات متر مكعب، هي إجمالي التخزين الأول والثاني في العامين الماضيين.
لافتًا إلى أنه قد ظهر في صورة التقطتها الأقمار الصناعية للسد، أول من أمس (الخميس)، الموافق 14 أبريل للعام الحالي، عمل التوربين رقم 10، واستمرار تدفق المياه من خلال إحدى فتحتي التصريف، وظهور بعض الجزر نتيجة انخفاض المخزون.
الموقف المصري
التزم الموقف المصري، منذ البداية، بالصبر وضبط النفس، من واقع الحرص على العلاقات التي تربط بين دول حوض النيل، وتفضيل التعاون والعمل الجماعي على الصدام والتصرفات الفردية التي لن تقود في النهاية إلى تحقيق مصالح الأطراف المختلفة، بل إنها يمكن أن تتسبب في تهديد الأمن والسلم الأفريقي والإقليمي والدولي.
تستند مصر في كل مطالبها، على القانون الدولي والقوانين المنظمة للأنهار العابرة للحدود، وحقها التاريخي الممتد عبر آلاف السنين، مع التأكيد أن قضية المياه مصيرية ووجودية، ولا يمكن التهاون فيها أو تجاهل خطرها وتأثيراتها على حياة المصريين، فلقد سبق وأن أكد الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي»، بأن مصر لن تقبل انتقاص نقطة مياه واحدة من حق المصريين.
في البداية، أعلنت مصر موقفها الواضح والذي لم يتغير من بداية العمل في السد في أنها ليست ضد التنمية في إثيوبيا، مع عدم الإضرار بحقها في مياه النيل، والذي ترسخ عبر آلاف السنين، والدليل على نية مصر أنها تعاونت في إقامة سدود، وتنظيم الري في دول أفريقية، ولم تتأخر عن أي عمل مشترك يخدم مصالح الأطراف المختلفة.
وترى مصر أن العمل المشترك يصب في مصالح الجميع، على عكس التصرفات الفردية، وقد أكد من قبل وزير الخارجية المصري «سامح شكري» على أن مصر لا تهدف من وراء إطلاع العرب على الموقف، أن تشكل جبهة أو تصنع اصطفافًا ضد دولة أفريقية شقيقة، لكن هذا السياق يتعلق بالتكاتف العربي، وتنسيق الجهود بما يسهل التعاون.
ترى مصر أنه ليس من المقبول الاستمرار في التفاوض إلى ما لا نهاية، خاصة أن التفاوض سبق وتوصل إلى خطوات واتفاقات سرعان ما تجاهلها الجانب الإثيوبي، أو حاول تفريغها من مضامينها، والتصرف بأحادية، وتعلن مصر أنها لا تقبل المزيد من المراوغة مع تمسكها بأقصى درجات الصبر والتعاون والمشاركة.
لقد أظهرت مصر من البداية صبرًا ومرونة وقدمت حسن النية طوال سنوات، وتتجه الآن إلى الحسم، مع التأكيد على أنها تمتلك خيارات متعددة، لكنها تحرص أولًا على حسن العلاقات مع الدول الأفريقية ودول حوض النيل، ثم أنها تحرص على ألا يتطور الوضع إلى ما يمكن أن يهدد الأمن والسلم الإقليمي والدولي، وهو خيار يفترض أن تسعى كل الأطراف لتجنبه.
خطورة السد على الأمن القومي المصري
يدخل سد النهضة، ضمن تهديدات الأمن القومي المصري وذلك لارتباط الأمن القومي للبلاد بمفهوم الأمن المائي وهو يعني «القدرة على توفير الماء بشكل مستدام، والوصول إليه واستخدامه، ويجب أن يكون هذا الماء صالحًا للشرب أو للاستخدام في عدد من المجالات، ويتطلب ذلك مجموعة من الإجراءات التي تقوم بها الدول أو المنظمات لتوفير الماء» وما دامت مصر بالأساس دولة زراعية تعتمد على المجال الزراعي بشكل واضح، فإن الهشاشة والفقر المائي سيؤديان إلى عجزها عن توفير أمنها الغذائي وأمنها في مجال الطاقة، وهو ما يعني وضع أمنها القومي برُمته في مأزق وصراع من أجل البقاء.
تصريحات الإدارة الأمريكية السابقة
أثناء جوده في البيت الأبيض، انتقد الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب»، في 23 أكتوبر 2020، موقف إثيوبيا من مفاوضات السد، وقال حينها إن مصر قد تعمد إلى تفجيره لأنها لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة، وتابع قوله بأنه كام على مصر إيقاف بناء السد قبل وقت طويل منذ بدايته، مُبديًا أسفه حينئذ لأن مصر كانت تشهد اضطرابًا داخليًا عندما بدأ مشروع سد النهضة الإثيوبي عام 2011. لكن ردت إثيوبيا على تصريحات «ترامب»، في 24 أكتوبر من نفس العام، بأنها لن ترضخ لأي نوع من الاعتداءات. فيما اعتبر بعض المراقبين حينها أن تلك التصريحات بمثابة ضوء أخضر لتدخل مصر عسكريًا لإنقاذ الوضع.
السيناريوهات المُحتملة لمواجهة هذه الأزمة
هناك أربعة سيناريوهات مُحتملة لتعامل الجانب المصري مع هذه الأزمة، ويُمكن استعراضها فيما يلي:
السيناريو الأول: «الخيار العسكري»
رُبما كان هذا السيناريو أخطر السيناريوهات التي حاول الجانب المصري تجنبها منذ بداية الأزمة، بل ويمكننا القول إنه مع مرور الوقت يُصبح خسائر اللجوء لهذا السيناريو أكبر وأقوى، لا سيما مع قرب إثيوبيا من الملء الثالث –كما أوضحنا آنفًا- وكانت التحركات المصرية في الأشهر الأخيرة من العام الماضي سواء على صعيد التعاون العسكري أو الاستخباراتي مع عدد من الدول الأفريقية المحيطة بإثيوبيا، توحي بأن هناك تحركًا عسكريًا ضد السد يجري الإعداد له.
لا سيما مع زيارة الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي» إلى جيبوتي، في 27 مايو 2021؛ إذ كان أول رئيس مصري يقوم بهذه الخطوة، حيث تعدّ جيبوتي خامس دولة مجاورة لإثيوبيا -بعد السودان وأوغندا وبوروندي وكينيا- وقامت مصر بتعزيز التعاون العسكري خلال الأشهر الثلاثة الماضية حينها، كما أجرت مصر عدة مناورات عسكرية مشتركة مع السودان، حمل آخرها اسم “حماة النيل” نهاية مايو 2021، لكن في الواقع يُعد اللجوء للخيار العسكري، عملية مُعقدة وصعبة، إذ تواجه مصر عدد من التحديات في هذا الشأن، أبرزها:
- الموقع الجغرافي لإثيوبيا البعيد عن مصر، إضافة إلى وجود التضاريس الجغرافية الوعرة
- الأوضاع الداخلية السودانية المعقدة ومتعددة الأطراف، ما يجعل من الصعب التوصل إلى قرار جامع، بخلاف العلاقات التي بنتها إثيوبيا مع الأطراف المدنية والجماعات المسلحة المتمردة، وهو ما قد يدفعها إلى الوقوف على الحياد، وقد تمانع من استخدام أراضيها أو قواعد عسكرية لضرب السد
- من الممكن أن يؤدي العمل العسكري المصري إلى فرض عقوبات دولية على مصر
- تطور العلاقات الإثيوبية مع جيرانها بشكل إيجابي، يحدّ من فرص مصر في ممارسة الضغوط عليها
- الانتشار الكبير للقواعد العسكرية الأجنبية في منطقة القرن الأفريقي
- عدم وجود قواعد عسكرية مصرية بالقرب من إثيوبيا
- المآلات السلبية التي ستنعكس على علاقات مصر مع دول حوض النيل وأفريقيا
«السيناريو الثاني: «المسار القانوني
يعتبر هذا السيناريو من السيناريوهات التي لا يمانعها الجانب المصري لكن يمانعها ويرفضها بشدة الجانب الإثيوبي، ويشمل هذا السيناريو التوجه إلى التحكيم الدولي، عبر تشكيل محكمة دولية خاصة بموافقة طرفي النزاع، كما حدث بين مصر وإسرائيل في قضية جيب طابا الحدودي، أو عبر اللجوء لمحكمة العدل الدولية ويستلزم ذلك موافقة الطرفين أيضًا، ومن ثم التزامهما طوعًا بما يصدر عن المحكمة، بحسب قول الباحث المتخصص في الشؤون الأفريقية «بدر شافعي».
«السيناريو الثالث: «الانسحاب من إعلان المبادئ
يرى «شافعي» أن أمام مصر خيار الانسحاب أو التهديد بالانسحاب من اتفاق «إعلان المبادئ» المتعلق بسد النهضة، والذي وقع بين مصر والسودان وإثيوبيا في الخرطوم، في مارس 2015، وعلى الرغم من أن هذه الخطوة هي خطوة رمزية إلا أنها خطوة مهمة باعتبارها تزيل الشرعية عن السد، لكن يجب اتباعها مع إجراءات أخرى.
من جانبه، يستبعد مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية «خالد عكاشة» يستبعد لجوء مصر لهذا الخيار، لأن الاتفاق يمثل إلزامًا لإثيوبيا بعدم الإضرار بدولتي المصب، كما أن فريق التفاوض لم يسبق له أن لوَّح بهذ الأمر من قبل، مُضيفًا أنه إذا تم تنفيذ هذا الاتفاق -وفق نصوصه- فإنه سيحد من الأضرار على دولتي المصب، ويرتب التزامات على إثيوبيا ويراعي مصلحتها في الوقت ذاته فهو اتفاق متوازن للغاية ويحقق مصالح الدول الثلاثة، بحسب تعبيره.
السيناريو الرابع: «استمرار المفاوضات»
في ظل استبعاد وصعوبة اللجوء إلى السيناريوهات السابقة، برجح «شافعي» أن تستمر مصر والسودان في مسار المفاوضات، لكن على الجانب المصري والسوداني حال الاستمرار في التفاوض، أن يظلا موحدين في موقفهما وأن يعملا على حشد ضغط دولي على إثيوبيا بهدف التوصل لاتفاق ملزم وأن يستخدما -في سبيل ذلك- الانسحاب أو التهديد بالانسحاب من اتفاق المبادئ كورقة ضغط على أديس أبابا.
إن السيناريوهات الأربعة السابقة قد يكون جميعها مناسبًا لكن في فترات مختلفة، فمثلًا سيظل سيناريو «استمرار المفاوضات» قائمًا وإذا لم يؤتي بثماره فستلجأ مصر والسودان إلى سيناريو «الانسحاب من إعلان المبادئ» لكن سيلحقونه بسيناريو «الخيار العسكري» وهو الخيار الأصعب لكن سيكون الخيار الأخير الذي سيضطر أن يلجأ إليه الجانبان في حال استمرار تعنت الجانب الإثيوبي وعدم اهتمامه بحق هذين الجانبين المتضررين.