الأربعاء , 18 ديسمبر 2024
أخبار عاجلة

المولد النّبوي الشّريف: تعظيم شعيرة وإحياء سيرة وتحقيق أمل…بقلم محمد الرصافي المقداد

لم تُعْدّم محاولات إصلاح حال الأمّة الإسلامية، من جهود أهل الخير والصّلاح فيها، منذ أن غادرها نبيّها صلى الله عليه وآله وسلم ملتحقا بالرفيق الأعلى، فقد كان لكل عصر أهله، من سعاة إحقاق الحقّ، والدعوة إلى الإلتزام به، وإبطال الباطل والتحذير من الإنتساب إليه، بدأ من حركة أئمة أهل البيت عليهم السلام، في نشر علوم ومعارف وآداب الإسلام، إلى حركات الإصلاح التي تلتها، مقتبسة منها قيم الدّعوة إلى الله تعالى، التي تركها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمستحفظين من ورائه ومن تبعهم بإحسان.

وإلى جانب هؤلاء الدّعاة الأبرار، كان ولا يزال هناك معارضون لهم، لا يرتضون من حركاتهم وجهودهم شيئا، قد نصبوا همّهم في عرقلة المسيرة الدّعويّة في الأمّة، وضرب مواطن الصلاح فيها، فكانت خطّة تشويه شخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ونسبة نقائص ومساوئ له للحطّ من مكانته، عملا ممهّدا لنزع عصمته واستبعاد قداسته، والهدِفُ من وراء مقصدهم، إنزال أهل بيته الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، منزلة عامة المسلمين في حياته، لكي لا يتميّزوا عنهم في شيء، ولو من جهة القرابة، بعدما أحلّوا آخرين معهم في نفس المقام.

ما يثير العجب هنا كيف مرّت تلك الإساءات على كبار علماء وحفاظ، فاعتمدوها في كتبهم، على أساس أنها صادرة عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رغم مخالفتها الصريحة لأحكام وآداب الإسلام، ومتناقضة تماما مع سماحة ورفعة سيرته صلى الله عليه وآله وسلم، التي تُعْتَبَرُ مثالا قرآنيا عظّمه الله في محكم كتابه فقال جلّ من قائل: ( وإنك لعلى خلق عظيم)(1) وحدّث عن نفسه الشريفة فقال: (إنما بعثت متمما لمكارم الأخلاق) (2)، فلم تحرّك عواطف من رواها أوّلا، ولا نبّه محتواها من كتبها من بعد سماعها، دون أن يستنكر ما جاء فيها، ومن قرأها بعد ذلك على صفحات تلك المدوّنات، وهو معتقِدٌ صِحّتها من خلال ما قيل له بخصوصها، وكيف يُرْتَاب في ما أعتُبِر صحيحا، تعلّمت منه أجيال سابقة، حيث لا مجال لنقده؟ والويْل والثّبور لمن يجرؤ على ذلك.

وبقاء دار لقمان على حالها في هذا الأمر الخطير، يدعونا إلى التساؤل إلى متى سيستمر هذا التعدّي المقصود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنّ شيئا لم يكن؟ بينما تُثَوَّرُ ثائرة الشعوب الإسلامية، استنكارا لصور مسيئة له صلى الله عليه وآله وسلم، صدرت في صحف بدول غربية(2)، بدعوى حرّية التعبير عند شعوبها، فتقام المظاهرات والندوات والخطب وبيانات الإستنكار هنا وهناك، دون الإلتفات إلى ما حوته مدونات روائية إسلامية تعنونت بالصّحاح، وفيها ما لا يقلّ سوء عن تلك الصّور.

ولا أقصد هنا أنه يجب علينا كمسلمين، أن نسكت على أي إساءة صادرة بحق نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، بل علينا أن نرجِع باللوم على أنفسنا أوّلا، بتفريطنا في الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والعمل بمقتضى سيرته العطرة، لنكون أحسن معبّرين عن شخصه، وممثّلين لِقِيَمِهِ، وما جاء به من خير وحُسْن للبشرية جمعاء، لذلك فإنّ الإنتساب للنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، لا يكون شكلا دون مضمون، وعنوانا دون محتوى يُثبِتُه، وقد قال الله في هذا الاقتداء: ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) (3)

والمُراد من ذلك أيضا معالجة هذا الخلل، الذي لا يزال كامِنًا بسيّئاته في تلك المصادر، منهلا يستقي منه المسلمون، على أنّه في مجمله يمثل شخصيّة وسيرة أفضل خلق الله، بينما يتّخذُ منها أعداء الإسلام، وسيلة للوقيعة فيه كإنسان كامل، فمن ضرورات الإيمان به، أن لا نصدّق فيه نقصا، وأن نستبعد عنه كلّ وليجة، يُراد منها إنزاله منزلة دونيّة، يجترئ عليه من خلالها أعداءه، وهو المعصوم من جميع العيوب، المبرّأ من ارتكاب ما يخالف رسالته الخاتمة .  

ولو كنّا محمّديّون حقا، بما يتناسب رغبة الله في أمّة قرآنه وأتباع نبيّه، فأعتقد أن أمثلتنا التي سنقدّمها لبقية العالم ستكون مصداق رسالة الإسلام، هذا الدين العظيم الخاتم، الذي جاء رحمة للعالمين، ودعوة لتشكيل الأمّة الصالحة، التي تامر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يختصّ قوما أو فئة من النّاس ليتعلّق بهم هذا الإنتماء العظيم، ثم لا يقومون بحقوقه كما يجب، فيجد في ذلك أعداؤه فرصة سانحة للإساءة إليه، فسلمان كان فارسيا في أصوله العرقيّة، لكن إخلاصه وصدقه نقله ليكون محمّديّا، خارجا عن الأعراق بانتسابه إلى الإسلام، انتسابا زكّاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزكية، لم يتشرّف بها غيره فقال: (سلمان منّا أهل البيت)(4) فهذه دعوة صادقة لنكون محمّديين قولا وفعلا، علما وعملا، لنتمكّن من الإلتحاق بركب سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم.

كان المسلمون يحتفلون بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أعتقد أن هناك تاريخا دقيقا، بإمكانه أن يحدد زمن ظهور هذه الإحتفالات، حيث لم يوجد من كان معترضا عليها غير مستحسن لها، حتى ظهرت فرقة الوهابية في صحراء نجد، فقال قائلها ببدعيّة الإحتفال وعدم جوازه، ودعا من ذلك دعاتهم واتباعهم إلى بطلانه وبدعيّته على ذلك الأساس، غير ملتفتين إلى أن إحياء المناسبات المتّصلة بالدين الخاتم وأحداث الإسلام الكبرى، تُعْتَبَرُ إحياء لشعائر الله، وإقامتها وتعظيما لتلك التواريخ بشخصياتها، ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)(5) واستحضارها وتذكّرها هي أساسا، محطات تزوُّدٌ من معِينِ صلاحها، وعلاقاتها الوثيقة بأحداث ظهور الدين الخاتم، بكافة عناصره المادّيّة والمعنويّة، فلا ينمو إيمان في ظلّ غياب إحيائها.

إنّ التّذكير بالمناسبات المتعلقة بالإسلام، يُعتَبر من مظاهر الإهتمام والعناية به، ليس هذا فقط وإنّما هو تعبير عن وعي قائم قيام إحياء تلك المناسبات والمداومة عليها ترسيخا لدعائم الإيمان في المجتمعات الإسلامية، وتأكيدا على وثاقة العلاقة واستمرارها، بينها وبين عنوان الإسلام الثاني بعد الله سبحانه وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعندما يأمر الله سبحانه نبيّه موسى وبقية أنبيائه  عليهم السلام بتذكير النّاس بأيّام الله ( .. وذكّرهم بأيّام الله إنّ في ذلك لآيات لكل صبّار شكور)(6) فذلك يعني بأنّ مصطلح أيّام الله واسع، يشمل أهمّ التواريخ المتعلّقة بالرسل ورسالاتهم، وفي قوله تعالى بشأن يحي عليه السلام: ( والسلام عليه يوم وُلد ويوم  ويوم يُبعث حيّا)(7) وفي شأن نبيّ الله عيسى على لسانه: ( والسلام عليّ يوم وُلدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعثُ حيّا)(8) فتلك أيّام من أيّام الله فيها مواليدهم ووفاياتهم وبقيّة محطات دعواتهم الكبرى، ونبيّنا خاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم غير مستثنى من المقصد القرآني، في إحياء أيّام الله وتعظيم شأنها، على أساس أنها من مشمولات الدين وتفاصيله.

إنّ اعتبار الإحتفال بالمولد النبوي الشريف بدعة عند الوهابية، جهل بحقيقة مصطلح البدعة  في الأحكام الفقهية، وانغلاق منهم على فهم خاطئ، ظهر به داعيتهم الأوّل ابن عبد الوهاب، وتبِعه عليه من هم أجهل منه إلى اليوم، ومحاولة جرّ المسلمين إلى إتّباعهم في غلوائهم وجهلهم، يعتبر جريمة مزدوجة بحق سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، في تجاهل شخصه ومتعلّقاته، وإهمال لأبسط حقوقه في تذكّره، بما يدفع للحثّ على إتباعه وإحياء سنن سيرته العطرة، وما أجروه من حكم على بدعيّة الاحتفال بمولده الشريف يعتبر جفاء وعدم وفاء له بأبسط حقوقه، فلا يجب على كل مسلم سكن في قلبه حبّ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن يغفل عن إحياء كل ما تعلّق به، لأنه تعبير عن ولاء كامل له ولدينه، ومحطّة تذكّر لشخصيّة عالية المقام، عظّمها الله سبحانه، وأحلّها لديه محلّا فاق النبيين أجمعين والملائكة المقرّبين.

وينتابنا شعور بالغبطة والإنشراح، عندما نتابع باهتمام وتقدير احتفالات الشعب اليمني، من مختلف محافظاته المحرّرة، من تحالف مرتزقة العدوان بالمولد النبوي الشريف، فيزداد تقديرنا واحترامنا وامتناننا لهذا الشعب العظيم، الذي خرج على بكرة أبيه، نساء ورجالا وولدانا شيبا وشبابا، للتعبير عن ولاء منقطع النظير للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وتجديد عهد له من خلال مسيرتهم المقاومة، وحضورهم المليونيّ في ساحات الإحتفال بالمولد، قد أثبتوا من جديد وفاء لدينهم وإكبارا لنبيّهم وتجديدا للعهد معه، فوق دروس الصبر والمرابطة التي قدّموها للعالم في سبيل انتزاع حقوقهم، بما أكّد أنهم محمّديون حقا، فهنيئا لهم بما حققوه من وفاء، وأنجزوه من صمود في وجه العدوان، وانتصارات مكّنهم الله فيها على طريق الإسلام المحمّدي، الذي نَمَتْ شجرته في إيران، وهي بصدد النموّ في اليمن، ولسوف تنمو في غيرها من بلاد الإسلام، اسلاما محمديّا أصيلا وسطيّا، يعيد للعالم أيام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم المبعوث رحمة للعالمين، فلا يرتابون في ذلك أبدا.

ولقد قامت الجمهورية الاسلامية الإيرانية، باعتماد تاريخي المولد النبويّ، الموجودين في تراثنا الإسلامي، وأعني بذلك يوميْ 12 و17 ربيع الأوّل، فأعلنتهما يومين للإحتفال بهما، وأقامت بينهما أسبوعا للوحدة الإسلامية، دعت إليه كل سنة نخب علماء ومفكري العالم الاسلامي، لمؤتمر يتجدد كل عام، من أجل تحفيز طلائع الأمّة الإسلامية، للعمل من أجل جعل هذا المطلب القرآني، حقيقة على أرض الواقع، من أجل بناء أواصر وحدة وأخوّة إسلامية متينة وصادقة، وهي جهود يجب أن تُذكَر فتُشْكر.

 

المصادر

1 – سورة القلم الآية 4

2 – الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي في صحيفة يولاندس بوستن

 https://ar.wikipedia.org/wiki/

3 – سورة آل عمران الآية 31

4 –   مستدرك الحاكم النيسابوري ج3ص598

5 – سورة الحج الاية 32

6 – سورة إبراهيم الآية 9

7 – سورة مريم الآية 15

8 – سورة مريم الآية 33

شاهد أيضاً

الردّ على جرائم الكيان قادم لا محالة…بقلم محمد الرصافي المقداد

لم نعهد على ايران أن تخلف وعدا قطعته على نفسها أيّا كانت قيمته، السياسية أو …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024