ما زالت أمريكا تسعى وبكل طاقاتها وخاصة على الجانب الإعلامي المسموم والذي أصبح مع مرور الزمن جزء لا يتجزأ من منظومة الدولة العميقة والعمل على حفظ مصالح الشركات الكبرى من طاقة وتصنيع عسكري وغيرها تحاول ان تعيد عجلة التاريخ الى الوراء حين كانت تصول وتجول في الكون دون رادع لسياسة العدوان واستغلال مقدرات الشعوب ونهب ثرواتها الطبيعية وتركيع الأنظمة وتغييرها اما بالقوة من خلال ثورات ملونة. ومع بروز روسيا والصين كقوتين وازنتين اقتصادية وعسكرية على الساحة الدولية ومتصدية لسياسة الهيمنة والتفرد والغطرسة الامريكية تركزت السياسة الخارجية الامريكية في مجابهة هاتين القوتين وهذا ما تدلل عليه كل الإجراءات التي تتخذها هذه الإدارة استكمالا لسياسة الادارات السابقة سواء بإنزال العقوبات الاقتصادية على كل من القوتين الصاعدتين او خلق بؤر توتر في المناطق المحيطة بهما أو في داخلهما في محاولة احتوائهما وتشكيل محاور يكون هدفها الأساسي ومضمونها هو محاولة منع هاتين القوتين من تصبحا في وضع مريح لتهديد المصالح الامريكية بالدرجة الأولى.
ولسنا هنا في معرض عرض متكامل لهذه السياسية والتي تطبقها الولايات المتحدة، ولكن يهمنا هنا تناول الازمة التي خلقتها الولايات المتحدة في اوكرانيا مؤخرا والتي يرى بها البعض محقا انها وصلت الى مرحلة أصبحت فيها تهدد السلام العالمي والاوروبي على وجه التحديد. الذي يسعى الى توتير الأجواء بين أوكرانيا وروسيا من جانب وبين أوكرانيا ومنطقتي دونباس ودونيتسك داخل الأراضي الأوكرانية والتي غالبية سكانها من المتحدثين باللغة الروسية وانتماءات عرقية روسية وذلك لعدم تطبيق ما سمي باتفاقية مينسك التي بحسب بنودها يجب على الحكومة الأوكرانية إعطاء الحكم الذاتي لهاتين المقاطعتين مما أدى بسكان هاتين المقاطعتين الى اعلان جمهوريتين في تلك المناطق التي تقع شرقي أوكرانيا, نقول من يسعى الى توتير الاجواء هي الولايات المتحدة والتي تشجع الحكومة الحالية لاسترداد السيطرة على تلك المناطق بالقوة ومن اجل ذلك تسعى الى تسليح اوكرانيا بأسلحة متطورة الى جانب الاستعداد لإرسال قوات أمريكية اليها وكذلك الى بولندا وغيرها من الدول المحيطة بروسيا من اجل التضييق عليها ومحاصرتها.
وهذا يقودنا بالضرورة الى طرح السؤال ما الذي تسعى اليه أمريكا من وراء خلق بؤرة توتر بين أوكرانيا وروسيا
أولا: محاولة محاصرة واحتواء روسيا عسكريا بنشر مزيد من القواعد الامريكية في الدول المحيطة بروسيا وهو ما يشكل تهديدا حقيقا للأمن القومي الروسي وتغذية الصراعات والاحقاد التاريخية تجاه روسيا لكونها كانت جزء الاتحاد السوفياتي الذي انهار في مطلع تسعينات القرن الماضي.
ثانيا: الإبقاء على أوروبا تحت الجناح الأمريكي وخاصة مع حالة التململ الذي سادت وما زالت العديد من الدول الأوروبية والتي بدأت تظهر الى السطح من سياسة التفرد والهيمنة الامريكية على السياسة الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي الى جانب الهيمنة الاقتصادية. الدول الأوروبية استشعرت خطر الازمة المفتعلة الى حد كبير من الجانب الأمريكي في أوكرانيا ومن هنا كانت زيارة ماكرون الى روسيا ووزير خارجية المانيا الى واشنطن فهذه الدول هي المتضرر الرئيسي على المستوى الاقتصادي والسياسي فيما إذا ما قامت الحرب على الجبهة الأوكرانية وروسيا.
ثالثا: أمريكا لا تريد لأوروبا أي نوع من الاستقلال الاقتصادي والارتباط بروسيا وخاصة ضمن الاعتماد على الغاز الروسي وسعت وما زالت تسعى وتحت الإدارات المتعاقبة لاستبدال الغاز الروسي ولكنها فشلت. فقد فرضت عقوبات على الشركات الأوروبية التي شاركت في الاستثمار في خط انابيب الغاز نورد ستريم 2 والذي يقوم بنقل الغاز الروسي الى المانيا بشكل رئيسي وغيرها من البلدان الأوروبية وذلك للتضييق على الاقتصاد الألماني بشكل خاص. وصلت الوقاحة والغطرسة بالإدارة الأمريكي لمناقشة امير قطر بشأن الازمة الأوكرانية وإمكانية تزويد أوروبا بالغاز الطبيعي المسال بدلا من الغاز الروسي. هذا في الوقت الذي يجمع فيه كل الخبراء ان أوروبا لا يمكنها الاستغناء عن الغاز الروسي لقربه وسهولة امداده ونوعيته وسعره أيضا مقارنة بأي مصدر آخر.
رابعا: أمريكا وبعد الافول والانسحاب من أفغانستان والذي سخرت إمكانيات دول حلف الناتو في العدوان والاحتلال الذي دام ما يقرب من 17 عاما لا تريد لهذا الحلف ان يموت او يوضع على الرف. فهي بحاجة الى عدو جديد ضمن استراتيجيتها وتريد ان تقحم الدول الأوروبية حتى تبقى على هذا الحلف الذي من جانب يستخدم ويسخر لخدمة الاستراتيجية الامريكية الكونية ومن الجانب الاخر مصدرا لإدرار مليارات الدولارات على الشركات الامريكية الكبرى ومجمع الصناعات الحربية الامريكية. ومن هنا نرى ان الاعلام الأمريكي المسعور الملتصق بالدولة العميقة لا يضيع أي ثانية في عملية تضخيم وفبركة المعلومات عن روسيا وتحركاتها العسكرية على الحدود مع أوكرانيا كردة فعل على التهديدات الامريكية.
خامسا: احدى الدلائل الأساسية الى ان هذه الازمة من افتعال الولايات المتحدة هو ما اعلنته القيادة في أوكرانيا وهي بالمناسبة أتت على خلفية ثورة ملونة قادتها المخابرات المركزية الامريكية وتعتبر اداة من الأدوات الامريكية صرحت مؤخرا ان احتمال حل الازمة مع روسيا سلميا أكبر بكثير من احتمال اللجوء الى السلاح. هذا دليل على ان هذه القيادة الموالية لأمريكا لا تريد أي نزاع عسكري مع روسيا أولا لأنها تدرك انه ليس بمقدرها ان تكون ندا لروسيا ولا حتى للمناطق التي تدعمها روسيا وخاصة جزيرة القرم التي استقلت عن أوكرانيا باستفتاء عام. الى جانب عدم ثقتها بالولايات المتحدة او حتى الدول الأوروبية وقد صرح كلاهما ان غزو روسيا لأوكرانيا سيتسبب بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا وهذا يعني ان لا أوروبا ولا أمريكا على استعداد للدفاع عن الأراضي الأوكرانية بإرسال قوات لمساندتها إذا ما نشبت الحرب. وربما العامل الأهم ان روسيا باستطاعتها ان تقفل خط الغاز الروسي الذي ما زال يغذي أوكرانيا باحتياجاتها من الطاقة ولا يمكنها الاستغناء عن ذلك على الاطلاق. والقيادة الأوكرانية تعي هذا جيدا.
ويبقى السؤال هل ستقوم أمريكا بالتدخل عسكريا وتصطدم مع القوات الروسية في تلك المنطقة؟ في تقديري المتواضع ان هذا لن يتم وكل التصريحات الامريكية النارية التي تصدر من البيت الأبيض وكأن الحرب قادمة بعد أيام معدودة وتقوم بسحب الأمريكيين العاملين في أوكرانيا وتوجيه الدعوات الى العاملين بها الى ضرورة مغادرة البلد ما هو الا ضجيج اعلامي الغرض منه احكام السيطرة الامريكية على الدول الأوروبية ومحاصرة روسيا بقدر المستطاع ومحاولة اثبات ان أمريكا ما زالت قوية وكسب ثقة الحلفاء التي فقدتها في عملية انسحابها السريع ودون التنسيق والتشاور مع حلفائها التاريخيين في حلف الناتو.
كاتب وباحث اكاديمي فلسطيني