بقلم: فوزي حساينية-كاتب جزائري |
موقف نجم شمال إفريقيا من الوحدة المغاربية مشهور ومعروف، موقف ابن باديس، والفضيل الورتلاني، وعبد العزيز الثعالبي، وعبد الكريم الخطابي من الوحدة المغاربية مشهور بدوره ، أعني أن كلا من نجم شمال إفريقيا ، والعديد من كبار رجال التنوير والإصلاح في الجزائر، والمنطقة المغاربية ككل تبنوا الدعوة إلى وحدة المنطقة المغاربية، في فترات مختلفة ، وأوضاع متبايبة ، رغم وجود الكثير من التباينات، والتباعدات الذهنية بينهم لسبب أو لآخر….لكن فكرة الوحدة المغاربية ، حاضرة ، ودائمة الحضور في الفكر، وعلى مستوى العمل لدى هؤلاء جميعا، إنها الفكرة المشروع، الفكرة الأم لشعوب مغربنا العربي الكبير، انبثقت منذ البدايات الأولى للتاريخ المغاربي، وظلت تعبر الأجيال والعصور وصولا إلى وقتنا الراهن.
ونحن إذ نتحدث هنا عن المواقف والأفكار التي سجلتها الوثائق التاريخية لمختلف التشكيلات السياسية الجزائرية التي وُجدت قبل اندلاع ثورة أول نوفمبر المجيدة 1954، وكذا المواقف المعلنة والمُعبر عنها من قبل رجال السياسة والفكر والإصلاح الجزائريين من مختلف التوجهات السياسية والمشارب الفكرية فإننا سنجد أن الإيمان بفكرة الوحدة المغاربية يعد مظهرا بارزا بين هؤلاء، ورصيدا يتشاركون في جهود إثرائه وتعزيز مضمونه وترسيخ مشروعية استمراره عبر الأجيال.
أما إذا نحن استعرضنا بيان أول نوفمبر1954 فإننا سنجد أنه ينص في فقرته الأولى:” ..نُعلمكم أن غرضنا من نشر هذا الإعلان هو أن نوضح لكم الأسباب العميقة التي دفعتنا إلى العمل وذلك بأن نعرض عليكم مشروعنا .. و صواب وجهة نظرنا التي يبقى هدفها دائما هو الاستقلال الوطني في إطار الشمال الإفريقي…” ثم ينصُ في الفقرة الثالثة: ” إن أحداث المغرب وتونس لها دلالة في هذا الصدد، فهي تُعبرُ بعمقٍ عن مسار الكفاح التحريري في شمال إفريقيا. و مما يُلاحظُ في هذا الميدان أننا منذ أمدٍ بعيد أول الداعين إلى الوحدة في العمل، التي مع الأسف لم تتحقق أبدا بين الأقطار الثلاثة ” ولايلبث البيان أن يعود إلى التذكير بوحدة المصير المغاربي عندما يؤكد على ضرورة ” إخراج الحركة الوطنية من المأزق الذي أوقعها فيه صراعات الأشخاص وذلك كله بغرض ” دفع الحركة الوطنية إلى المعركة الحقيقية الثورية إلى جانب إخواننا المغاربة والتونسيين”، ثم وفي سياق تحديد الأهداف الخارجية للثورة المباركة يذكر البيان بوضوح وقوة تصميم: ” تحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلام ” ، العروبة والإسلام اللتان أسماهُما بيان أول نوفمبر بالإطار الطبيعي لوحدة شمال إفريقيا هو ما عملت فرنسا بكل قوتها الإدارية والثقافية والعسكرية لسحقهما والقضاء عليهما لذلك جاء التأكيد عليهما هنا كإعلانٍ ثوري مبكر بفشل المشروع الاستدماري في أخطر أهدافه ومشاريعه، وهكذا يسجل بيان أول نوفمبر بوضوح أن الاستقلال الوطني المنشود سيكون في ” إطار الشمال الإفريقي، كما أن ” وحدة شمال إفريقيا ” يجب أن تتم في ” إطار المبادئ العربية الإسلامية ” فليس ثمة غموض أو تردد ولامجال هنا لأية قراءات إقليمية ضيقة أو انحيازات من أي نوع كان، فالأمر يتعلق بمبادئ ثورية وليس بحسابات سياسية ضيقة أو طموحات فئوية محدودة.
وهنا قد يلاحظ البعض أن اهتمام شباب المنظمة الخاصة ورواد الفاتح من نوفمبر بمسألة الوحدة المغاربية أمر بديهي باعتبار أنهم شباب ثوريون تربُوا في أحضان حزب الشعب الجزائري سليل نجم شمال إفريقيا الذي تعد الوحدة المغاربية من المكونات الجوهرية لإيديولوجيته الثورية، ومع أن هذه الملاحظات صحيحة تماما إلا أننا نستطيع أن نؤكد أن الإيمان بالوحدة المغاربية كان يشكل قناعة راسخة حتى لدى بعض التشكيلات السياسية الجزائرية التي لم تكن تتبنى في نضالها المنطق الثوري لمعالجة القضية الجزائرية، وعلى سبيل المثال نجد أن حزب الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري بزعامة فرحات عباس وفي معرض الإعراب عن انتقاده لسياسة الحزب الشيوعي الجزائري نص في اللائحة الخاصة بالسياسة العامة للحزب المصادق عليها يوم 27-09-1948 بمدينة سطيف[1] على ” أن الحزب الشيوعي يتصور الجمهورية الجزائرية في إطار الإتحاد الفرنسي ويرفض رفضا قاطعا اللغة العربية والعروبة والإسلام كما أنه لا يؤمن بوحدة شمال إفريقيا…” فعدم الإيمان بوحدة شمال إفريقيا من وجهة نظر الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري خطيئة سياسية وإخفاق فكري وهي رؤية سياسية مُلهِمة لا نكاد نعثر عليها اليوم حتى لدى أكثر التشكيلات السياسية والاجتماعية إدعاءً وتشدقاً بالوفاء لفكرة الوحدة المغاربية في تراث الحركة الوطنية.
ولذلك فإن ما ورد في بيان أول نوفمبر حول الوحدة المغاربية لم يكن مفاجئا أو طارئا من وراء ظهر التاريخ ، بل كان تلخيصا عبقريا لجهود جيل كامل من المناضلين الوطنيين، والمصلحين المجددين الذين أدركوا حق الإدراك ووقفوا عيانا على مايعنيه التفرق والتشرذم والوقوع تحت هيمنة القوى الإستدمارية الغربية، لقد عاش جيل المناضلين والمصلحين في مغرب عربي مجزأ وخاضع للإستدمار أو للحماية الأجنبية مع كل ما يعنيه ذلك من شعور وإحساس بفقدان السيادة والكرامة والاستقلال والوقوف على حجم المأزق التاريخي والحضاري الذي آل إليه مغرب ( المغرب العربي الكبير) أجدادنا الموحدين، ولذلك فإنه قد يتساءل المرء بحزن وحرقة ، وهو يرى كيف أن الإتحاد المغاربي الذي تأسس في 17فيفيري 1989 لم يخطو خطوة واحدة في الطريق السليم ! هل من الواجب أن تقع أقطار المغرب العربي مرة أخرى تحت وطأة الهيمنة الكولونيالية حتى نستعيد الوعي بأهمية الوحدة المغاربية، ونسعى إلى امتلاك القدرة على العمل والنضال من منطلق وحدوي مغاربي ثوري ؟ إنه سؤال مأساوي بلاريب!لكنه يلخص تراجيديا الواقع المغاربي الراهن ويجسد عجزنا كمغاربيين على تحمل مسؤولياتنا تجاه فكرة الوحدة المغاربية والتي هي قدرنا الذي لافكاك لنا منه، فإما أن نتحمل مسؤولياتنا التاريخية في الوفاء بمقتضيات انتمائنا المغاربي ونتعلم كيف نفكر وكيف نعمل كوحدويين مغاربيين، وإما أن نكون مستعدين في كل آن لدفع ضريبة الغباء والعجز والإخفاق.
و من المتوقعِ أن يستفسر البعض عن السِّر في الإشارة المتكررة إلى عبارة “الأقطار الثلاثة ” كما جاء في بيان أول نوفمبر و ” الأقطار الثلاثة في المغرب العربي” و” بلدان المغرب العربي الثلاثة ” كما جاء في وثيقة الصومام، أين باقي أقطار الإتحاد المغاربي كما نعرفها اليوم ؟ والجواب واضح وبسيط ، فالمنطقة المغاربية تم غزوها واحتلالها من قبل قوى أوربية متعددة، إيطاليا في ليبيا، فرنسا في تونس والجزائر والمغرب وموريطانيا، وإسبانيا في شمال المغرب والصحراء الغربية، وقد عملت كل دولة أوربية على إخضاع وعزل الجزء الذي تحتله عن سائر أرجاء المغرب العربي الكبير كما تأسس حقا في التاريخ، وهكذا ولعدة عقود من الزمن أُختُصِرَ وأنْحصرَ مفهوم الشمال الإفريقي ليرمز لكفاح الحركة الوطنية في الدول الثلاث بسبب اشتراكها في لعنة الإستدمار الفرنسي، أما موريتانيا ورغم خضوعها هي أيضا للفرنسيين إلا أنها كانت تعيش ملابسات سياسية واجتماعية خاصة أخرت انخراطها إلى جانب تونس والجزائر والمغرب، لغاية استقلالها سنة 1960 في حين أن ليبيا كانت قد استردت استقلالها سنة 1951 بعد نجاتها من مخططات التقسيم الغربية وخاصة رغبة فرنسا في السيطرة على إقليم الفزَّان، لكن المهم في بيان نوفمبر ومؤتمر الصومام هو التأكيد والإلحاح على فكرة الوحدة المغاربية في ذاتها، أما المدى أو الحَيِّزْ الجغرافي لهذه الفكرة فقد تحدد فيما يُعرفُ اليوم بدول الإتحاد المغاربي الخمس في انتظار تقرير الشعب الصحراوي لمصيره والتحاقه بالإتحاد لينطبق الواقع السياسي المغاربي مع واقعه الجغرافي كما كان الحال زمن الدولة الموحدية المجيدة.
ولأننا في المنطقة المغاربية لانملك ولايمكن أن نملك بديلا عن الوحدة المغاربية، فإنه لامجد ولامصداقية اليوم إلا لمن يؤمنون ويعملون من أجل وحدة مغربنا العربي الكبير، فبدون الوحدة المغاربية ستكون ذئآب وحتى ثعالب الشرق والغرب قادرة على ضربنا وافتراسنا أو على الأقل الاستخفاف بمصالحنا وقضايانا المصيرية، وما المأساة الليبية عنا ببعيدة.
[1] -وردت الإشارة إلى هذه اللائحة في كتاب ” تاريخ الجزائر المعاصرة ” للدكتور والمؤرخ الجزائري محمد العربي الزبيري.